حقائق الواقع‏..‏ وضرورات التغيير د. محمد عمارة

هناك مفارقات حادة ـ بل وشاذة ومستفزة ـ بين الامكانات المادية الهائلة التي يملكها الشرق الاسلامي وبين الواقع البائس الذي تعيشه أغلب الشعوب في عالم الإسلام‏.‏
> فمساحة العالم الاسلامي ـ الممتدة من غانة إلي فرغانة, ومن حوض نهر الفولجا إلي جنوبي خط الاستواء ـ تبلغ خمسة وثلاثين مليونا من الكيلو مترات المربعة, يعيش فيها أكثر من مليار وستمائة مليون نسمة من السكان.. بينما مساحة الصين هي ربع مساحة العالم الإسلامي, وفيها ما يقرب من تعداد المسلمين!.
> وإذا كان الموقع الجغرافي للعالم الإسلامي يجعله الحاكم لتواصل قارات العالم وبحاره ومحيطاته, فإن أرضه تحتوي علي الثروات التي تجعله العالم الأول في الكثير من ميادين الثراء.. فهو العالم الأول في البترول والغاز الطبيعي واليورانيوم والمنجنيز و الكروم والقصدير والبوكيت.. وهو العالم الثاني في النحاس والفوسفات.. وهو العالم الثالث في الحديد.. وهو العالم الخامس في الرصاص.. وهو العالم السابع في الفحم.. فضلا عن غناه بمناجم الذهب.. وفي المعادن التي لم يتم الكشف عنها والاستخراج لها.
.. وفي هذا العالم الاسلامي أطول أنهار الدنيا, وأقدم فلاح علم البشرية فن الزراعة, وفي بلد واحد من بلدانه ـ السودان ـ غير الثروة الحيوانية ـ أكثر من مائتي مليون فدان صالحة للزراعة بأقل التكاليف ـ لتكون سلة الغذاء لكل عالم الإسلام.. وفي هذا العالم الإسلامي من شواطئ البحار والمحيطات والأنهار ما يجعله المصدر الأول للثروة السمكية والمعادن البحرية.
> وإذا كان الغرب ـ وأهل الشمال ـ الذين يمثلون 20% من سكان العالم ـ يحتكرون ويستهلكون 68% من خيرات هذا العالم, تاركين 14% ـ فقط ـ من الثروة لـ80% من سكان الجنوب!.. فإن الحال ـ حال التفاوت الفاحش ـ ليس أفضل في داخل عالم الإسلام.. ففي بعض البلاد يبلغ متوسط دخل الفرد 35,000 دولار, بينما ينخفض في الكثير من البلاد إلي 500 دولار فقط لا غير!.
,, فتعيش القلة في تخمة السفه والتبذير, وتعيش الكثرة في فاقة تدفع البعض إلي أن يبيع عقيدته للمنصرين لقاء كسرة خبز أو جرعة دواء!.. بينما يردد الجميع ـ كالببغاوات ـ حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ: أيما أهل عرصة ـ, مكان] أصبح فيهم أمرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل! ـ رواه الامام أحمد وأبويعلي.
> وفوق هذا التفاوت الفاحش والفقر المذل, هناك ـ في العالم الاسلامي ـ مئات الملايين الذين يعيشون في المقابر والعشوائيات ومدن الصفيح.. وهناك الأمية الأبجدية التي تحجب النور عن أكثر من نصف تعداد المسلمين ـ وذلك فضلا عن الأمية الفكرية والثقافية التي تفترس المواهب فتدفنها من المهد إلي اللحد!.. وهناك العنوسة التي تنخر في بنيان النظام الأسري, والتي تفتح أوسع الأبواب للحرام بعد أن سدت أبواب الحلال أمام الشباب والشابات!.. وهناك العنف العشوائي الذي تتوالي موجاته ويتكاثر منظوره, والذي يغذيه الفقر فيدفع إلي الكفر بمنظومة القيم والأخلاق, وإلي اليأس والقنوط حتي تفر قطاعات من الشباب من أوطانها, علي رغم تحول الكثيرين منهم إلي طعام للحيتان في البحر المتوسط أثناء الفرار! وهناك اللاجئون المسلمون, الذين يكونون أغلبية اللاجئين علي النطاق العالمي!..
> وهناك النخبة ـ التي تحولت إلي نكبة! ـ والتي صنعها الاستعمار علي عينه, والتي تحاول علاج هذه الأمراض بما يزيد من حجم الداء, فتلجأ إلي الاستدانة من الغرب الاستعماري, حتي لقد تحولت الديون ـ في عالم الجنوب ـ إلي الشكل المعاصر للامبريالية, فرهنت الاقتصاد ـ ومعه الكرامة والاستقلال السياسي والحضاري ـ لقاء فوائد الديون, التي تستهلك أغلب الانتاج في كثير من بلاد الاسلام!.
> وهناك عشرات القواعد العسكرية الأجنبية التي تنتشر علي الأرض الاسلامية ـ التي حررها صحابة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بدمائهم الذكية.. والأساطيل الحربية الاستعمارية التي تحتل البحار والمحيطات في عالم الاسلام, لتحرس التخلف, ولتحمي نظم العجز والفساد والتبعية, ولتكريس الفقر ونهب الثروات!.
> وإذا كان هذا هو مبلغ الواقع البائس المفروض علي عالم الاسلام.. فهل نستغرب ذلك الانفجار الهائل الذي شهدته وتشهده بلادنا في ثورات الربيع العربي التي فتحت النافذة أمام الشرق الاسلامي للخلاص من هذا البؤس وهذا الكابوس؟!
إننا أمام لحظة تاريخية فارقة, لا نريدها مجرد ثورة تقف عند حدود قطر أو عدة أقطار, وإنما نريدها نهضة تحقق للشرق الإسلامي الاستقلال السياسي والحضاري والاقتصادي ـ وليس, فقط, استقلال القلم والنشيد!.. وحتي تنعتق رقاب شعوب الشرق ـ العربية والإسلامية ـ لابد من العودة إلي الذات ـ العقدية والفكرية والثقافية, وإلي الهوية الحضارية الإسلامية.. ولابد من إقامة السوق التجارية المشتركة, والكتلة الاقتصادية المتكاملة والتضامن بين اقطار عالم الإسلام.. ليس ـ فقط ـ بعثا لماضينا الإسلامي, يوم كنا العالم الأول علي ظهر هذه الأرض لأكثر من عشرة قرون.. إنما ـ إضافة إلي ذلك ـ تأسيا بالقارة الأوروبية, التي أقامت وحدتها, علي الرغم من التناقضات التاريخية الحادة والصراعات القومية والدينية والاستعمارية التي استغرقت من عمرها عدة قرون.
إن لدي أمتنا ـ العربية الإسلامية ـ من الأصول العقدية, والمواريث الحضارية, والمشاريع الفكرية والحركات الجماهيرية ما يمكنها فتح أبواب التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقلة والمستدامة.. وعلي سبيل المثال, فإن في مكتبتنا الإسلامية مئات الدراسات العلمية التي تقدم فريضة الزكاة مؤسسة للتنمية الاقتصادية المستقلة.. بل إن هناك بندا واحدا من بنود هذه الزكاة هو زكاة الركاز أي زكاة الثروات المركوزة في باطن الأرض, وأغلب ثروات العالم الإسلامي مركوزة في باطن الأرض ـ وفيمة زكاة الركاز هذه (20%) من قيمة ما يستخرج من هذه الثروات.. وفيها جاء حديث رسول الله ـ صلي الله علي وسلم: فيما خرج من الأرض الخمس وفي الركاز الخمس.. رواه البخاري ومسلم ومالك والزندي وأبو داود والإمام أحمد.. وهي زكاة لو وضعت في الصندوق الإسلامي للتنمية لأنقذت العالم الإسلامي من الفقر, وحررت رقابه من العبودية لصندوق النقد والبنك الدوليين.. ولحقت لعالمنا التنمية بالحلال, الذي يفتح علي المسلمين أبواب بركات السماء.
إن التنمية بزكاة الركاز وغيرها من الزكوات مع تحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار الإسلام هي القضايا التي يجب ان تحتل الصدارة في جدول أعمال النهضة الحضارية التي فتحت نافذتها ثورات الربيع العربي أمام عالم الإسلام.. فقط نحتاج الي إرادة النهوض.. وإلي الإرادة التي ترتب وتعظم إمكانات هذا الموضوع.

تعليقات

المشاركات الشائعة