اسمحوا بمرور الكتب واحجزوا النفط

بقلم/ توماس فريدمان.

فى كثير من الأحيان يسألنى سائل: «ما أكثر بلد تحبه غير بلدك؟». ودائما أجيب بالرد نفسه: تايوان. ويتساءل الناس: «تايوان؟ لماذا تايوان؟».المسألة بسيطة للغاية: لأن تايوان صخرة عنيدة وسط بحر زاخر بالعواصف، بلا موارد طبيعية تعيش عليها، بل إن عليها أن تستورد من الصين الرمل والزلط اللازمين للبناء لكنها تحتفظ برابع أكبر احتياطى نقدى فى العالم.

لأن تايوان بدلا من أن تحفر فى الأرض بحثا عما فى باطنها عمدت إلى استخراج مواهب وطاقات وذكاء شعبها البالغ 23 مليون نسمة من الرجال والنساء. ودائما أقول لأصدقائى فى تايوان: «أنتم أسعد شعوب العالم حظا. فكيف صرتم سعداء الحظ إلى هذا الحد؟ أنتم ليس لديكم نفط، ولا حديد خام، ولا غابات، ولا ماس، ولا ذهب، بل مجرد مخزون بسيط من الفحم والغاز الطبيعى ولهذا السبب تطورت لديكم ثقافة وعادات شجعت من مهارات شعبكم، التى ثبت أنها الأكثر قيمة والمورد الوحيد المتجدد فى عالم اليوم. كيف صار حظكم سعيدا بهذا القدر؟»

كان هذا، على الأقل، شعورى الداخلى. لكن لدينا الآن الدليل. أصدر فريق تابع لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية دراسة صغيرة مثيرة توضح الارتباط بين الأداء فى امتحان البرنامج الدولى لتقييم الطلاب PISA الذى تضمن اختبارا فى الرياضيات والعلوم ومهارات القراءة والإنشاء كل عامين لطلاب فى الخامسة عشرة من عمرهم فى 65 بلدا وإجمالى العائد من الموارد الطبيعية كنسبة من إجمالى الناتج المحلى فى كل بلد من البلاد التى شملها البرنامج. وباختصار، ما مستوى أبنائك فى المدرسة الثانوية فى الرياضيات مقارنة بما تضخه بلدك من نفط أو ما تستخرجه من ماس؟

وتشير النتائج إلى وجود «علاقة سلبية مهمة بين ما يقتطعه البلد من أموال الموارد الوطنية وبين معارف طلابها ومهاراتهم فى المرحلة الثانوية»، كما يقول اندرياس شليشر، المشرف على الاختبارات التى يجريها البرنامج الدولى لتقييم الطلاب لحساب منظمة التعاون الدولى والتنمية. «هذا نمط عالمى ينطبق على 65 بلدا شارك فى آخر تقييم لبرنامج الطالب العالمى». فالنفط والبرنامج الدولى لتقييم الطلاب لا يمتزجان.

يضيف شليشر أنه كما جاء فى الكتاب المقدس، فقد «قاد موسى اليهود بمشقة لأربعين عاما عبر الصحراء لمجرد أن يوصلهم إلى البلد الوحيد فى الشرق الأوسط الذى لا يملك نفطا. لكن موسى فهم المسألة على وجهها الصحيح، على أى حال. واليوم، تتمتع إسرائيل بواحد من أكثر الاقتصادات ابتكارا، وينعم سكانها بمستوى معيشة تعحز عن الوفاء به أغنى بلاد النفط فى المنطقة».

●●●

لذا، اسمحوا بمرور الكتب واحجزوا النفط. وطبقا لما قاله شليشر، فقد حقق طلاب سنغافورة وفنلندا وكوريا الجنوبية وهونج كونج واليابان أعلى الدرجات فى هذه الاختبارات، فى حين لا تتمتع بلادهم بموارد طبيعية كبيرة، بينما نال طلاب قطر وقازاخستان، الغنيتين بالموارد الطبيعية، أدنى الدرجات. (تكرر الوضع فى دراسة مماثلة لاتجاهات الرياضيات والعلوم الدولية فى عام 2007، حيث كانت نتائج طلاب لبنان والأردن وتركيا وهى من بلدان الشرق الأوسط محدودة الموارد أفضل من نتائج طلاب السعودية والكويت وعمان والجزائر والبحرين وإيران وسوريا).

وكانت الدرجات المتدنية كذلك من نصيب طلاب العديد من بلاد أمريكا اللاتينية الغنية، كالبرازيل والمكسيك والأرجنتين. ولم تُختبَر أفريقيا. وهناك كندا والنرويج وأستراليا، وهى من البلاد الغنية بالموارد التى لا يزال طلابها يحصلون على درجات عالية فى الاختبارات. ويعود هذا، فى جانب منه كما يقول شليشر، إلى أن هذه البلاد وضعت سياسات متوازنة لادخار واستثمار عوائد هذه الموارد، ولم تكتفِ باستهلاكها.

الخلاصة، هى أنك إذا أردت أن تعرف بحق كيف سيتصرف بلد ما فى القرن الحادى والعشرين فلا تحسب احتياطاته من النفط أو الذهب، بل انظر إلى كفاءة مدرسيه العالية، وإيمان آبائه، والتزام طلابه. ويقول شليشر: «تعد نتائج التعليم فى مدارس اليوم مؤشرا قويا ينبئ بالثروة والعوائد الاجتماعية التى ستنعم بها البلاد على المدى البعيد».

●●●

إن الاقتصاديين على علم منذ زمن بما يعرف بـ«المرض الهولندى»، الذى يحدث عندما يصبح بلد ما معتمدا اعتمادا كبيرا على تصدير الموارد الطبيعية على نحو يزيد من قيمة عملتها، بينما تتراجع نتيجة لذلك صناعتها المحلية مع تدفق الواردات الرخيصة وترتفع أثمان الصادرات ارتفاعا كبيرا. وقد كشف فريق البرنامج الدولى لتقييم الطلاب مرضا ذا صلة بالموضوع، وهو أن المجتمعات التى أدمنت مواردها الطبيعية تقوم على ما يبدو بتنمية الآباء والشباب الذين فقدوا بعض القدرات والعادات والحافز لعمل واجبهم المنزلى وتشحذ مهاراتهم.

بالمقابل، كما يقول شليشر، نجد «فى البلاد شحيحة الموارد الطبيعية فنلندا وسنغافورة واليابان نتائج قوية ومكانة عالية للتعليم، على الأقل لأن الجمهور بشكل عام يدرك أن البلاد يجب أن تبقى بفضل معارفها ومهاراتها وأن هذا يعتمد على جودة التعليم... فكل أب وابن فى هذه البلاد يعلم أن المهارات دون غيرها هى التى ستحدد فرص حياة الابن، ولذلك يحيطونه بثقافة ونظام تعليمى شامل». أو كما يحلو لصديقى الأمريكى الهندى ك. ر. سريدار، مؤسس شركة بلوم للطاقة لإنتاج خلايا الطاقة لوادى السليكون، أن يردد «عندما تفتقر إلى الموارد، تصبح واسع الحيلة».

وهذا ما يفسر لماذا تنتمى أكثر الشركات الأجنبية على مؤشر ناسداك إلى إسرائيل والصين/هونج كونج وتايوان والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وهى بلاد لا يمتلك أى منها موارد طبيعية.

●●●

لكن الدراسة تحمل أيضا رسالة مهمة إلى العالم الصناعى. ففى ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، من المغرى أن ندعم مستويات معيشتنا اليوم على حساب المزيد من الالتزامات المالية مستقبلا. ومن المؤكد أن هناك دورا للحوافز فى ظل الكساد الممتد، لكن «السبيل المستدام الوحيد هو أن نمضى قدما بتوفير المعرفة والقدرات لعدد أكبر من الناس، للتنافس والتعاون والتواصل بطريقة تدفع اقتصادنا إلى الأمام»، كما يرى شليشر.

وباختصار، أصبحت المعارف والمهارات عملة عالمية فى اقتصادات القرن الحادى والعشرين، لكن ليس هناك بنك مركزى يتولى طباعة هذه العملة. وعلى كل شخص أن يقرر من جانبه مقدار ما سيطبعه من هذه العملة»، كما يقول شليشر. ومن المؤكد أن توفر النفط والغاز والماس أمر رائع؛ فمن الممكن أن تشترى بها الوظائف. لكن من شأن ذلك إضعاف مجتمعك على المدى البعيد إلا إذا استُخدمت فى بناء مدارس وترسيخ ثقافة للتعليم المستمر باستمرار الحياة. ويقول شليشر «إن تقدمك إلى الأمام رهن بما تنجزه بنفسك».

تعليقات

المشاركات الشائعة