انتخابات الرئاسة وتسييس "العنف الاجتماعي"


انتخابات الرئاسة وتسييس "العنف الاجتماعي"
الأحد، 04 آذار 2012
جريدة السبيل ـ يومية أردني
جريدة الحرية والعدالة يومية مصرية
موقع علامات أون لاين


د.إبراهيم البيومي غانم
أغلب الظن، وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني، أنّ إعلان اسم الفائز في انتخابات رئاسة الجمهورية قبل نهاية حزيران من هذا العام 2012 لن يكون هو يوم إعلان استسلام فلول نظام الرئيس المخلوع، ولن يكون هو آخر أيام "العنف" والانفلات الأمني الآخذ في التوسع على نطاق واسع في المجتمع المصري. وما نتوقعه هو أن تقوم هذه الفلول بتوظيف موجة العنف الاجتماعي والجنائي لتحقيق أغراض سياسية مضادة لأهداف ثورة كانون الثاني على طول الخط.   

هذه ليست نظرة متشائمة أبداً؛ فأنا متفائل تمام التفاؤل بأنّ مصر في طريقها للاستقرار والانطلاق بقوة نحو مستقبل تكون فيه مكانتها في أعين أبنائها وفي نظر العالم مساوية لإمكانياتها الكبيرة والمتميزة حضارياً واستراتيجياً وديمغرافياً، ولكن علينا أن نفهم طبيعة التحديات التي تفرضها هذه المرحلة الانتقالية، وأن نعرف كيف نواجهها مهما كانت صعبة، وأن نتحمل أعباءها مهما كانت ثقيلة.

إذا ظننا أنّ الرئيس القادم سيحمل في يده عصاً سحرية يستطيع أن يزيل بها الخوف ويأتي بالأمن المفقود، أو أن يهش بها العنف فيزول، ويقضي بها على القائمين به ومن خلفهم من الفلول وقوى الدولة العميقة؛ فمعنى هذا أننا العياذ بالله لسنا في انتظار "رئيس جمهورية منتخب"، وإنّما في انتظار "رئيس عصابة" له السمع والطاعة على مجموعات إجرامية، يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون! وأظن أنّ السواد الأعظم من المصريين هم من الرشد والوعي الذي يجعلهم لا ينتظرون ساحراً أو فرعوناً كي يحقق لهم مطالبهم المشروعة، بل إنّهم ينتظرون رئيساً من أنفسهم ومنتخباً بإرادتهم الحرة، وهم يعلمون أنّ تحقيق مطالبهم يفرض عليهم أن يضعوا أيديهم في يده من أجل تحقيق أحلامهم التي طال انتظارهم لها.
ولكني أقول إنّ "تسييس العنف الاجتماعي" كان ولا يزال خطراً ماثلاً، ولن يزول هذا الخطر بمجرد انتخاب رئيس جديد للبلاد.

طرق وأدوات التسييس كثيرة، وتتقنها فلول النظام وأركان الدولة العميقة ووسائل إعلامها المنحلة من مواثيق الشرف والأخلاق المهنية. منها مثلا تراخي الشرطة في تطبيق القانون، وبطء التقاضي، وتسريب المعلومات الأمنية للبلطجية والمسجلين خطر، وتركهم طلقاء يروّعون المواطنين، وطمس الأدلة الجنائية، وعدم تعاون الأجهزة المختصة في تعقُّب الجناة ومحاكمتهم، والتساهل في تتبُّع تجارة السلاح وتهريبها عبر الحدود، وبين محافظات الجمهورية، وهذه كلها أساليب استخدمتها فلول النظام في تسييس العنف الاجتماعي والجنائي ونقله إلى الحيز السياسي العام قبل ثورة كانون الثاني وبعدها، ولا أظن أنّهم سيتخلون عنها طواعية.

أحد الدروس التي تعلمتها فلول النظام من تجاربها السابقة في خلط جميع أنواع العنف لتصبح عنفاً واحداً ذا وجوه متعددة هو أن تجعل وجهه السياسي الأقل حضوراً والأكثر غموضاً، كما رأينا مثلاً في حالة الاعتداء على الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ورأيناه في حالات مماثلة أخرى.

نحن نعرف أنّ "العنف الاجتماعي" قد يكون مادياً أو معنوياً، وقد تحرّكه أسباب اقتصادية أو نفسية، أو مزيج منهما في أغلب الحالات، حسبما تؤكد نتائج كثير من الدراسات الميدانية. وهذا العنف يستهدف الفئات الضعيفة مثل الأطفال، والنساء، وكبار السن من الأقارب غالباً، ومن الأباعد والغرباء أحياناً. وأغلب الذين يرتكبون هذا النمط من العنف هم أفراد أو مجموعات محدودة تسعى لتفريغ شحنات من الغضب المكبوت، وتستهدف تحقيق أغراض خاصة، وثارات شخصية، وغالباً ما تنجح أجهزة الأمن ومؤسسات الضبط الاجتماعي المختلفة في احتواء هذا النوع من العنف الاجتماعي إذا قامت بمسؤولياتها أولاً بأول، وخاصة عندما تتمكن من خفض حدة التوتر النفسي بين أطراف العنف، وتسيطر على دوافعه وتعالج أسبابه.

أما ما نسميه "العنف الجنائي" فهو الذي يصاحب جرائم السرقة والقتل والتهريب والسطو والاتجار في المخدرات واستغلال البشر، وغالباً ما يرتكب هذه الجرائم أفراد أو مجموعات من معتادي الإجرام الخارجين على القانون مثل: اللصوص، القتلة، تجار المخدرات، والمسجلون خطر في دفاتر الشرطة.

العنف السياسي يعني بالأساس استخدام القوة بغرض تحقيق غرض سياسي دون مراعاة لأيّ اعتبارات قانونية. ويأخذ هذا العنف أشكالاً متنوعة أهمها على الإطلاق اغتيال شخصيات سياسية حكومية أو معارضة، حزبية أو غير حزبية، أو خطفهم وترويعهم والمساومة بحياتهم للضغط على السلطات كي تستجيب لمطالب محددة. وأحيانا يكون العنف السياسي في صورة استهداف مصالح ومؤسسات وطنية أو أجنبية في البلاد للوصول إلى أهداف سياسية معينة، مثل الهجوم على وزارة الداخلية، والمجمع العلمي، ومجلس الوزراء ومجلس الشعب، ومديريات الأمن..إلخ.

أعمال العنف والانفلات الأمني على أرض الواقع المصري يختلط فيها العنف الاجتماعي بالجنائي، وتجري عملية "تسييس" مبرمجة لهما معاً؛ وذلك بهدف الإخلال بالأمن العام وإفساد مسار التحول الديمقراطي، وشل فاعلية المؤسسات النيابية المنتخبة، وإعادة إنتاج الغضب الشعبي باتجاه قوى الثورة ومؤسساتها النيابية.

والأمر الملفت للانتباه أنّ أجهزة الأمن المسؤولة لا تتحدث إلاّ عن مجهول، أو "طرف ثالث" تلقي عليه بالمسؤولية، ثم يغطي النسيان على كل الأطراف. والسؤال المهم هنا هو: من هم القائمون بعملية تسييس العنف الاجتماعي، وكيف تتم هذه العملية؟
في رأينا أنّ القائمين بعملية "تسييس" العنف هويتهم واضحة، وجنايتهم ثابتة بأدلة متنوعة ودامغة، فأغلب هؤلاء من بقايا جهاز أمن الدولة المنحل، ومعهم بعض رجال أعمال الحزب الوطني المنحل أيضاً، وجهات وأجهزة أمنية أجنبية تعبث بالأمن المصري، وتغطي عليهم جميعاً شبكة من وسائل "الإعلام" المنحلة من القيم المهنية والأخلاقية. وهذه الشبكة الإعلامية ليست خافية على أحد اليوم من فضائيات وصحف، والكل يعرف أنّ معظم مالكيها هم من فلول النظام ورجال أعماله.  

في حادثة الاعتداء على د.عبد المنعم أبو الفتوح مثلاً، قالت تقارير الشرطة إنّ المعتدين هم تشكيل عصابي يتزعّمه هاربون من السجون، وكانوا يختبئون فيما يسمى "المثلث الذهبي"، أحد أشهر مناطق الاتجار في المخدرات في محافظة القليوبية شمال القاهرة. والسؤال الأول هو: لماذا لم يتم القبض على هؤلاء إذا كانت معلومات الداخلية تقول أنّهم هاربون من السجون؟ وهل من المستبعد أن يكونوا قد حصلوا على معلومات أمنية بتحركات أبو الفتوح للقيام بالاعتداء عليه لصالح هذه الجهة أو تلك من فلول النظام وبقايا أمن الدولة المنحل انتقاماً من الرجل أو ترويعاً له؟ وقس على ذلك حوادث العنف الجنائي التي تعرّض لها آخرون من نواب مجلس الشعب ومن مرشحي الرئاسة المحتملين.
إحصاءات الأمن العام تشير بالأرقام والنسب المئوية إلى أنّ دوائر العنف بنوعيه الاجتماعي والجنائي قد اتسعت في مصر خلال الثلاثين عاماً الماضية (1980 - 2010)؛ أيّ مدة عهد الرئيس المخلوع بما يعادل ضعفي ما كانت عليه في عهد السادات (1970 - 1980)، وبما يعادل أربعة أضعاف ما كانت عليه في عهد عد الناصر (1952 - 1970)، مع الأخذ في الحسبان أثر اختلاف تعداد السكان خلال العهود الثلاثة على معدلات الجريمة ونوعية العنف المصاحب لها. وخبراء النظام السابق وفلول أمن الدولة هم الأكثر معرفة بحجم تلك الزيادة في العنف الاجتماعي والجنائي، وهم الأكثر دراية بكيفية تسييس هذا العنف واستخدامه في تأديب الخصوم السياسيين، أو في تزوير الانتخابات، أو في التهجم على القضاة والمحاكم لحماية رجالهم قبل ثورة كانون الثاني.  

قبل قيام ثورة كانون الثاني بثمانية أشهر نشرنا دراسة لنا بعنوان "مستجدات العنف الاجتماعي في مصر"، وكانت أهم نتيجة توصّلنا إليها في تلك الدراسة هي أنّه بالرغم من اتساع دائرة العنف الاجتماعي، واستحداث أشكال جديدة في ممارسته إلاّ أنّه "عنف أقل من أسبابه". واليوم وبعد مرور سنة على ثورة كانون الثاني، ورغم شيوع الإحساس بالانفلات الأمني وتصاعد وتيرة العنف متعدد الوجوه، أقول أنّ ما نشهده من عنف لا يزال أقل من أسبابه الهيكلية التي غرستها سياسات الفساد والفشل والاستبداد التي مارسها النظام السابق مدة ثلاثين عاماً. إنّ الأمر يستوجب تفكيك قدرات الفلول وقوى الدولة العميقة على تسييس العنف الاجتماعي المكبوت على نطاق واسع، وبذل مزيد من الجهد للسيطرة على هذا الخطر الداهم بحكمة وتعقل وحسم ودون تردد؛ لأن السلامة في الأمن، و"السلامة لا يعدلها شيء".

تعليقات

المشاركات الشائعة