"معنى كون الرسول أحب إلينا من أنفسنا" د. محمد دراز

أحد الملاحدة طرح إشكالا على معنى حب المؤمنين للرسول أكبر من حبهم لأنفسهم - وهو المعنى الثابت بالنصوص" فرأيت كلاما للدكتور محمد دراز أثناء شرحه لاحدى روايات هذا الحديث ورأيت فيه تعرضا لكثير مما طرحه هذا العضو فأحببت نقله  للفائدة.
عن " أنس" - رضي الله عنه - قال قال "رسول الله"- صلى الله عليه وسلم -:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،....."
قال الدكتور عن هذه الفقرة من الحديث:

أما معنى المحبّة ههُنا فقد زعم بعض الناس أنها لا تُتَصَوّرُ بحقيقتها بين الخالق والخلوق, إذ لا بد فيها من مشاكلةٍ ومجانسةٍ بين المُحِبِّ والمحبوب, وذلك مستحيل في حقه تعالى. فتُؤَوَّلُ محبةُ الله بمعنى العمل بطاعته.
وليست الطاعة هي المحبة بل هي إحدى ثمراتها.

ولو كانت المحبة كما يزعم هذا القائل لا تُبنى إلا على قاعدة التجانس المادي والتزاوج من الفصيلة الواحدة فلماذا نحبُّ شمَّ الرياحين والنظر في الحدائق المنسَّقة والأنهار الجارية؟ بل لماذا نحبُّ اللذائذ العقلية والكمالات المعنوية؟ إن هذا القائل لم يفهم من المحبة إلا أدنى أنواعها إلى إلفه وهي محبة الحيوان للحيوان, ولم يذق ما وراءها من مراتب.
وحقيقة المحبة أوسع من ذلك, فهي ميل القلب إلى كل ما يرضاه ويستحسنه. وبواعث هذا الاستحسان تختلف: فمنه ما يبعث عليه الطبع الجثماني, كمحبة الصورة الحسنة والصوت الجميل والرائحة الذكية, ومنه ما يبعث عليه العقل, كمحبتنا للحكماء والبلغاء ولأهل البر والإحسان ولأهل الصلاح والتقوى ولكل ما هو كمال وخير إما لِذَاتِه, وإما لما يؤديه إلينا من نفع.
ومحبة الله ورسوله هي أرقى أنواع هذه المحبة العقلية وأقواها باعثةً فمن كان باعث المحبة عنده معرفة ما في المحبوب من كمال ذاتي فالله تعالى أحق بمحبته, إذِ الكمال المطلق خاصة ذاته والجمال الأتم ليس إلا لصفاته. والرسول صلى الله عليه وسلم أحق من يتلوه في تلك المحبة, لأنه أكرم الخلق على ربه, وهو ذو الخُلق العظيم والهدي القويم. ومن كانت محبته للغير تُقاس بمقياس ما يوصله إليه ذلك الغير من المنافع وما يغدقه عليه من المَبَرَّات فالله تعالى أحقُّ بهذه المحبة أيضا, فإن نعمه علينا تجري مع الأنفاس ودقات القلوب ولا نعمةَ إلا هو مصدرها: (وَمَا بِكُمْ مِنِ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (1) (وَ إْنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا)(2). وهذا الرسول الكريم الرءوف الرحيم هو واسطة النعمة العظمى, إذ هو الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهدى واستنقذنا به من النار بعد أن كنا على شفا حفرة منها, فليس بعد الله أحدٌ أَمَنَّ علينا منه ومحبَّتُهُ في الحقيقة شعبة من محبة الله, قال صلى الله عليه وسلم: "أحِبُّوا الله لما يَغْذُوكُمْ به من نعمه, وأحبُّوني لحبِّ الله, وأحبُّوا أهل بيتي لحبِّي." رواه الترمذي وصححه.
وليس معنى المحبة العقلية أنْ يُدركَ العقل تلك الكمالات والفضائل في المحبوب ويعتقد عظمته وعلوّ منزلته وإن لم تشعرِ النفس بالميل إليه كما مثَّلَهُ الإمام البيضاوي بالمريض يميل إلى الدواء بمقتضى عقله وإن كان ينفر منه بطبعه. كلا, فإن مَنْ كانت محبته لله ورسوله كمحبته للدواء المُرِّ جديرٌ بأن يقال له إنه وجد مرارة الإيمان لا حلاوته. وإنما يجد حلاوة الإيمان من كان هواه في تلك المحبة مناصرا لعقله ومُسايراً له جنْباً إلى جنبٍ.
غير أننا حين نتكلم عن وجوب محبة الله ورسوله ووجوب إيثارهما بالمحبة على ما سواهما, تَتَشَوَّفُ النفس إلى معرفة نوع هذا الوجوب: هل هو من قبيل وجوب الأصول والأركان الاعتقادية؟ أم هو من وجوب الفروع العملية؟

والجواب يختلف تبعًا لاختلاف المعنى المقصود من المحبة. إذ يُراد منها تارةً خصوص المحبة القلبية، وتارةً هي مع آثارها العملية؟ فالمحبة بالمعنى الأول واجبةُ وجوبَ الأصول قطعًا، فمن كان حبَُه لنفسه أو لشيء من الأشياء كحُبه لله ورسوله أو أشد فليس في قلبه من الإيمان حَبَّةُ خردل لأن الله تعالى جعل هذه المحبة الراجحة من لوازم الإيمان وجعل ما دونها من أوصاف المشركين فقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }(3).
فإن قال قائلٌ: إن هذا الحكم يخرج كثيرا من المسلمين عن الإيمان.
قلنا: بل لا يَخرُجُ عنه إلا من كان كافرًا عريقًا في الكفران. وبرهاننا الاختبارُ. فلنعمد إلى رجل من عامة المسلمين ولنقل له: " قدِّر في نفسك أنك رأيت" رسول الله" – صلى الله عليه وسلم – حيًَا وقد قصده أحدُ أعدائه بسوء. وكنت بالخيار بين أن تُسلِمَه فينال منه عدوَُه وبين أن تدافع عنه فتهلك دونه. فأي الأمرين تختار؟" لنقل له ذلك وَلِنَدَعْهُ يَحكم بوجدانه وعاطفته. فهل لو كان أضعفَ الناس إيمانًا وأكثرهم عِصيانًا يتردد لحظةً في أن يقول: بل أفتديه بنفسي وأهلي وما ملكت يميني. فذلك الشعورُ هو مقياس تلك المحبة الراجحة التي تُخامرُ قلبَ كل مؤمن. إلا أن الإنسان كثيرُ النسيان، فتبقى عنده هذه المحبة كامنةً مغمورة ما دام سلطان الهوى والطبع متحكما، ولكنه إذا ذُكر تذكر. فمن لم يجد في نفسه هذا الشعور إذا ذُكر به فهو كاذبٌ في دعوى الإيمان. قال " القرطبي" ما خلاصته: " إن كل من آمن بالنبي –صلى الله عليه وسلم – إيمانًا صحيحًا لا يخلو من وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، حتى إن كثيرًا من المستغرقين في الشهوات إذا ذُكر النبيَُ- صلى الله عليه وسلم – اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وماله، بل منهم من يؤثر زيارة قبره ورؤية موضع آثاره على جميع ما ذُكر، لما وقر في قلوبهم من محبته غيرَ أن ذلك سريعُ الزوال لتوالي الغفلات."
نغم المحبة الكاملة الرجحان لا يقفُ الأمرُ فيها عند تمني حياة الرسول والاشتياق إلى رؤيته، بل تتصل فيها محبةُ ذاته وتمني حياته بمحبة سنته وتمني عُلُو كلمته وانتصار شريعته، إذ:" كل شيء من المحبوب محبوبٌ". بل لا يكمل رجحانُ المحبة ما لم تُثمر تلك الوجدانات القلبية ثمراتها الخارجية وتستتبعُ آثارها العملية. ومما يعين على ذلك معرفةُ حكمة الشريعة وأنها إنما وُضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل، فليس فيها أمرٌ إلا لمصلحة المُكلَّف ولا نهي إلا لدفع ضرر عنه. فإذا رسخت هذه المعرفة وطالعتها النفسُ آنًا بعد آن اتصل حُبَُ الشريعة بحب صاحبها. وإذا انضمت إلى ذلك التجربة العملية باعتياد الطاعات ترعرعت نواةُ المحبة ونمت وآتت ثمراتها حتى لا تكونَ قُرَّةُ عينه وراحةُ قلبه إلا في العمل بطاعة الله ورسوله. وههنا مراتبُ متفاوتةٌ بين فريضةٍ ونافلةٍ فكلما كان المرءُ أكثرَ إيثارًا لطاعة الله ورسوله على استيفاء الحُظُوظ الدنيوية كان أقوى لهما محبةً وأصح إيمانًا. وكلما تهاون في شيء منها دلَّ على ضعف إيمانه بهما وقلة محبتهما بقدر ذلك التهاون. فالاتباع هو علامة المحبة ودليلها: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}(4) .
وبهذا تبين أن تعليق الإيمان على المحبة الراجحة في قوله – صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه الخ"(5) تعليقٌ صحيحٌ في حقيقة الإيمان ومجازه، لأن أصلَ الإيمان موقوفٌ على أصل ذلك الرجحان، وكماله موقوفٌ على كماله والله المستعان.

(1)سورة النحل: 53
(2)سورة النحل: 18

(3)سورة البقرة:165
(4)سورة آل عمران :31
(5) وهذه رواية أخرى غير رواية الحديث المشروح

تعليقات

المشاركات الشائعة