"عن تفسير المنار لمؤلفه محمد رشيد رضا " بقلم الشيخ الطاهر ابن عاشور


"عن تفسير المنار لمؤلفه محمد رشيد رضا " بقلم الشيخ الطاهر ابن عاشور
لفضيلة الشيخ
مُحمَّد الفَاضِل بن عاشوُر
عضو مجمع البحوث الإسلامية
ومفتي الجمهورية التونسية الأسبق
ـ رحمه الله ـ

إن التفسير المسمى بـ" تفسير المنار " يقوم في حقيقة أمره على ثلاثة رجال: أولهم السيد جمال الدين الأفغاني الذي انقدحت عن فكره نظرية وجوب إصلاح المجتمع الإسلامي ، برجوع المسلمين إلى منبع الدين وتلقيه من هنالك صافياً مبرأ عما اتصل به من الشوائب ، والرجل الثاني ، من الثلاثة الذين قام على كاهلهم تفسير المنار ، هو الشيخ محمد عبده الذي باشر فعلاً تفسير القرآن العظيم على طريقة تطبيق النظرية التي دعا إليها السيد جمال الدين الأفغاني ، وكان ذلك في الدروس التي قام بها الشيخ محمد عبده في بيروت ، بين سنة 1301هـ وسنة 1303هـ ثم الدروس التي قام بها في مصر في الست سنين الأخيرة من حياته: ما بين سنة 1317هـ وسنة 1323هـ وتناولت من أول القرآن العظيم إلى نهاية الآية السادسة والعشرين بعد المائة من السورة الرابعة ، سورة النساء: وهي قوله تعالى:
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا } (النساء : 126)
والرجل الثالث الذي تمت به سلسلة الثلاثة الذين يصح أن ينسب إليهم تفسير المنار هو أبو عذرته حقاً ، وأعني به الشيخ محمد رشيد رضا ، الذي كان الداعي للشيخ محمد عبده إلى أن يواصل ، في مصر بجهد ذي بال ، ما كان ابتدأ به في بيروت بجهد ضعيف ، ثم كان هو المتولي لتقييد ما يمليه الشيخ محمد عبده وتلخيصه ، ثم لنشره تباعاً في مجلته: مجلة المنار التي اشتهر التفسير باسمها ، ثم كان الشيخ رشيد أخيراً هو المكمل للتفسير: بما يدرجه من عمله وبيانه أثناء تلخيص ما قرره الشيخ محمد عبده ، وبما وصل به الكتاب من حيث انتهى الشيخ محمد عبده من تتمة التفسير استقلالاً بما كمل به المجلد الخامس وتتابعت عليه بقية المجلدات حتى المجلد الثاني عشر.
فإذا كان هناك من بين الثلاثة: جمال الدين ، وعبده ورشيد رضا من هو أحق بأن ينسب إليه تأليف هذا التفسير من الآخرين فلن يكون ذلك غير المؤلف الحقيقي له فعلياً: وهو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا.

على أن الميزة الحقيقية لذلك التفسير في منهجه البديع ، وفي ما اشتمل عليه من أمور اشتهر بها ، ورجع بسببها إليه ، إنما تثبت خاصة لملقي تلك الدروس وهو الشيخ محمد عبده.
كان الشيخ محمد عبده ينظر إلى حقائق الدين الإسلامي على نحو يختلف اختلافاً واضحاً عما كان ينظر به إليها أكثر معاصريه من علماء الإسلام ، وكانت أصول نظرته تلك قائمة في نفسه يسير عليها ، لكنها غير بارزة المعالم للناس ، كما كانت المناهج الاجتهادية التي سار عليها أئمة المذاهب قبل تدوين أصول الفقه.فكان اتصال الشيخ رشيد به ، فرصة لتفتق تلك المبادئ ، واتضاح تلك الأصول ، بالدور العظيم الذي قامت به مجلة المنار في خدمة الدعوة الإصلاحية.
نشأ الشيخ محمد رشيد رضا في البلاد الشامية ، ببلدة القلمون ، على مقربة من مدينة طرابلس ، من الجمهورية اللبنانية وتكون على المناهج التي يتكون عليها علماء الشام ـ غير الأزهريين ـ من إيثار الجانب المنقول ، من جانبي الثقافة الإسلامية ، على الجانب المعقول منها ، والجنوح إلى طريقة التوسع في المقاصد ، من العلوم الدينية ، عن طريقة التعمق في الوسائل والآلات ، مع التزام خطة من السلوك الصوفي ، والانطباع بأثر من المعارف الذوقية ، ترسخ به أقدام العلماء الشاميين في مقام التربية ، ويشع نفوذهم الروحي ، في مدنهم وقراهم ، بما لا ترسخ به أقدام العلماء في غير البلاد الشامية ، ولا يشع لهم نفوذ روحي على من حولهم.
وإن في تلك النشأة السلفية الصوفية لما يوقظ الآخذين بها من أهل العلم إلى نوع من المراقبة الفردية والاجتماعية: يقيمهم على نهج تغيير المنكر ، والنهي عن الفساد ، والدعوة إلى إصلاح حال المسلمين ، وتجديد معالم الدين الإسلامي ، وفي ذلك ما يشرح صدور هؤلاء العلماء المتصوفين للدعوات الإصلاحية ، في مبادئها ، ما لا تنشرح به صدور غيرهم من العلماء ، وإن كانوا أرسخ قدماً منهم في العلم ، وأبعد صيتاً فيه وكذلك كان السيد رشيد رضا في نشأته الصوفية ، وطريقته النقشبندية ، شديد الانقباض مما حوله ، سريعاً إلى الانتقاد على الناس في ما هم مقيمون عليه من العوائد التي لا تقرها أحكام الدين وآدابه.
واتصل الشيخ رشيد في نشأته تلك بعلم من أعلام النهضة الفكرية الإسلامية ، هو الشيخ حسين الجسر ، وكان من أهل اليقظة والعمل ، مارس الحياة الاجتماعية ، واشتغل بالصحافة ، وقارن بين ما عليه المسلمون من التأخر والضعف ، وما عليه غيرهم من التقدم والقوة ، فأدرك وجوب الدفع بالعالم الإسلامي إلى الأخذ بوسائل من العلم والعمل غير التي كان عاكفاً عليها.فكان هذا الأستاذ في البلاد الشامية ، كما وصفه تلميذه السيد رشيد ، "الوحيد في الجمع بين العلوم الإسلامية ، ومعرفة حالة العصر المدنية".وبه توجه تلميذه ، في تغيير المنكر ، وجهة جديدة اصبحت تقصد إلى إرشاد المسلمين إلى المدنية ، والمحافظة على ملكهم ، ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات.
وكان الشيخ حسين الجسر على صلة بحركة العروة الوثقى: تأتيه أعداد الجريدة من باريس بانتظام ، وكان يقول: إن جريدة " العروة الوثقى " ستحدث انقلاباً عظيماً في العالم الإسلامي.
فبالشيخ حسين الجسر ، أيضاً ، اتصل رشيد رضا بـ" العروة الوثقى " ، وبتأثيره مال إليها ، ومن عنده جمع كل ما صدر منها.
واستنسخ الجميع وقرأه المرة بعد المرة ، حتى انتقل بذلك ــ كما يقول عن نفسه ــ إلى طريق جديد في فهم الدين الإسلامي ، أصبح به داعية للمذهب الإصلاحي الذي شرحته فصول " العروة الوثقى " ، حريصاً على آثار السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ، مناضلاً دونهما ، مدافعاً عنهما.
وكان قد عرف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده معرفة عرضية ، لما زار الشيخ عبده مدينة طرابلس ، أيام إقامته في بيروت ، لكنه لم يتلق عنه ولم يتتلمذ له ، حتى عاد الأستاذ الإمام إلى مصر وبقي الشيخ رشيد في طرابلس الشام ، يتمم دراسته ، إلى أن استكمل تخرجه.واتصل أثناء ذلك بالأستاذ الإمام مرة أخرى ، لما قدم من مصر إلى لبنان مصطافاً ، فلم يكن ذلك يزيده إلا هياماً بالأستاذ الإمام ، والسيد جمال الدين وتفانياً في نصرتهما ، وتصميماً في العزم على الهجرة إليهما.
وتوفى السيد جمال الدين سنة 1314هـ /1896م قبل أن يتاح للسيد رشيد الاتصال به ، فأجمع الرأي على "الهجرة" إلى مصر ، للاتصال بوارث علمه وحكمته الأستاذ الإمام ، وتم له أمر الهجرة ، فنزل مصر في 8 رجب سنة 1315هـ ــ 3 يناير سنة 1898م.
واتصل بالأستاذ الإمام ، يهب نفسه لخدمة مبادئه وترويج دعوته وكان منذ رحل عن الشام عاقداً النية على إصدار جريدة ، أو مجلة تخدم الدعوة ، وتحررها ، وتنشرها ، وتصل بين ما انقطع بانقطاع جريدة " العروة الوثقى " ، وكان أصدقاؤه بالشام يعرفون ذلك منه وينتظرون تحققه من وراء "هجرته" إلى مصر ، فسرعان ما اتصل بالأستاذ الإمام حتى تم بينهما الاتفاق على إصدار المجلة ، وكان الأستاذ الإمام هو الذي اختار لها اسم المنار.

وبصدور المنار سنة 1315هـ بدأت تبرز أفكار الأستاذ الإمام في مجالات نظرية مشروحة موصلة ، وبانتشار المنار بدأت تلك المبادئ تشيع وتنتشر ، بحيث أن إمامة الشيخ محمد عبده لم تتأسس في الحقيقة إلا على صدور مجلة المنار.فيها نشرت تقاريره ، ومقالاته وفتاويه ومواقفه في الدفاع عن الإسلام ، وفيها رد على الكائدين له ومقاوميه ، وفيها مجد اسمه ، وأعليت سمعته ، وفيها تلقب بالأستاذ الإمام ، وفيها وهو أهم شئ ، في موضوعنا ، نشر تفسيره ، ولها كتب وبقلم منشئها حرر.
كان درس التفسير سائراً على منهج الاعتناء بحاجة العصر وعدم التقيد بما هو موجود في كتب التفسير ، وتدارك ما خلت منه من مرامي الحكمة الإسلامية الجديرة بالإبراز والتقرير.
وكان صاحب المنار هو الذي طلب ذلك الدرس ، وألح في طلبه وابتدأ وأعاد حتى أقنع الأستاذ الإمام بإقرائه.
وكان يكتب في أثناء الإلقاء مذكرات مقتضبة ، ثم يعود إلى تبييضها وإعدادها بما في ذاكرته من الدرس.
ولم يشرع في نشر الخلاصات التي يكتبها إلا بعد عام من الشروع في الدرس.فقد ابتدأ الأستاذ الإمام الدرس في المحرم سنة 1317هـ وابتدأ نشر الدروس في المنار في المحرم سنة 1318هـ.وكان الشيخ عبده يطلع على ما سينشر ، بعد التصفيف في المطبعة وقبل الإخراج فربما ينقح فيه بزيادة قليلة ، أو حذف كلمة أو كلمات.
على أن صاحب المنار لم يكن يتحرى حكاية أو تلخيصاً لما يقوله الأستاذ الإمام ، بل كان يكتب ما يجده في نفسه من إدراك لمعنى الآية بما ثار في فكره ، أو انساق إليه علمه مما يوضح معنى الآية ، ويحتفل لإيراد ما اختص ببيانه الأستاذ من المعاني المبتكرة المستجدة ، فيعزو ذلك إليه صراحة.
وكان الأستاذ الإمام يطلع على ذلك كله ويقره لما كان حياً.

ومنذ أن توفى الأستاذ الإمام ، واستمرت مجلة المنار تنشر دروس التفسير التي كان ألقاها في حياته ، أصبح التحرير واضحاً في التفرقة بين ما هو منقول عنه وبين ما هو من بيان الكاتب.
ثم لما انتهى النشر إلى حيث أدركت الوفاة الأستاذ الإمام ، استقل الشيخ رشيد بأعباء التفسير وحده فأكمل منه إلى نهاية الجزء الثاني عند قوله تعالى:
{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } (يوسف : 52)
فكان ما كتبه الشيخ رشيد ، مستقلاً ، أكثر من سبعة أجزاء ، وما كتبه ، اعتماداً على أستاذه واستمداداً منه ، أقل من خمسة أجزاء فكان حظه في المجموع أغلب ، وكان بانتساب هذا التفسير إليه أحق.
نعم إن روح التفسير اختلفت في بعض عناصرها ، بين ما كان يكتب منه في حياة الأستاذ الإمام ، وما كتب بعده مما استقل به الشيخ رشيد.
وذلك الاختلاف يبدو جلياً في العنصر الذي يعبر عنه الشيخ رشيد بـ (الأثري).
فقد رأينا أن التكون الأصلي للشيخ رشيد كان نقلياً أثرياً ، على طريقة المتقدمين ، مختلفاً في ذلك عن التكون الأصلي للسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده ، إذ كان تكونهما بحثياً نظرياً ، على طريقة المتأخرين.
فلم يكن الأستاذ يحفل بالناحية الأثرية ، ولا يولي اهتماماً للأخبار وطرق تخريجها ، ولا يعتمد في تفسير الآيات على الأخبار المتصلة بها.

وكان الشيخ رشيد ، بما امتزج بالأستاذ الإمام روحياً وفكرياً ، قد تأثر بهذا المنهج ، وساير الأستاذ الإمام عليه فيما اقتبسه من الدروس التي ألقاها الأستاذ الإمام وكان ببيانه مفتتح البحث فيها وممهد المداخل إليها ، حتى صرح في المقدمة بأن: "أكثر ما روي في التفسير بالمأثور حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية" ولكن لما استقل الشيخ رشيد بمعاناة العمل من مبدئه ، وأصبح معتمداً على المصادر التي كان الأستاذ الإمام يأخذ منها ويترك حسب منهجه العلمي ، بدأ هواه الأول للعلوم النقلية الأثرية يعاوده ، ويأخذ به ، فمال إليها ، وتتبع رجالها: الأولين مثل الطبري ، والآخرين مثل ابن كثير فبدت على التفسير مسحة أثرية ما كانت بادية على أجزائه الخمسة الأولى ، على ما يؤلف بين اللاحق والسابق من حيث القصد والأسلوب ، فيما عدا هذا العنصر الأثري.
وقد أثبت الشيخ رشيد بنفسه هذا المعنى في المقدمة ، ولكن مع ما اختلف بين الطرفين في المنهج العلمي ، فإن الغاية بقيت متحدة ، والروح بقيت متحدة كذلك ، بحيث إن (تفسير المنار) في جملته يعتبر تفسيراً ذا منهج مطرد ، وأفكار متناسقة ، وهذا المنهج المطرد قد يقع الاتجاه إليه من مسالك البحوث الأصلية النظرية ، أحياناً ، وقد يقع الاتجاه إليه من مسالك النقول الأثرية تارات أخرى.
فإذا وصلت هذه المسالك أو تلك بمحرر التفسير إلى المنهج المخطط للسير ، التزمه واستقام عليه ، حتى يصل منه إلى نتائج البحث المتلاقية في غاياتها وروحها ، مع ما كان انتهى إليه من نتائج في بحوث أخرى عند آيات أخرى على ذلك المنهج نفسه ، فبرزت من مجموع ذلك الوحدة التي جعلت من تفسير المنار مداد روح النهضة الإسلامية الحديثة وقوام التفكير الإسلامي المجدد ، في هذا القرن الرابع عشر.
( منقول من كتابه التفسير ورجاله )

تعليقات

المشاركات الشائعة