نظرات في فاتحة الكتاب الحكيم(1) د. محمد دراز

كتبه وأعده للنشر القائمون على صفحة الفايس بوك للدكتور محمد دراز ، ضمن مشروع"مفكرون" 
الجزء الأول:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ , الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ , اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ , صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )}» [الفاتحة : 1 - 7]

ما تفتح به الأعمال , وتستنجح به المقاصد , التوجه إلى الله العلي القدير , ثناء عليه بما هو أهله واستمداداً للمعونة من قوته , واستلهاماً للرشد من هدايته...
وتلك الخطوط البارزة في سورة الفاتحة
(الحمد لله رب العالمين) ثناء على الله...
(إياك نعبد وإياك نستعين) إستعانة بالله ...
(إهدنا الصراط المستقيم) استرشاد بنور الله .

عند هذه النظرة العابرة يقف أكثر الذين يتلون هذه السورة , أو الذين يستمعون إليها , ولعل كثيراً منهم لا يدركون من تستميتها بالفتحة إلا أنها تحل المكان الأول في صدر المصحف .

ولكن هلم بنا نلقِ على هذه السورة الكريمة نظرتين أخريين : نظرة في موادها ومقاصدها مقارنة بمواد القرآن ومقاصده ونظرة في وجهة خطابها , مقارنة بوجهة الخطاب القرآني , وسنجد لها بذلك شأناً أهم وأعظم .

ولنبدأ بالنظر في إحصاء المقاصد الكلية وللقرآن الكريمة , وفي مدى احتواء الفاتحة على هذه المقاصد.

فالشئون التي تناولها القرآن , على تنوها وكثرتها , ونستطيع أن نجملها في أربعة مقاصد , هي في الحقيقة كل مطالب الدين والفلسفة والأخلاق , مقصدان نظريان : هما معرفة الحق , ومعرفة الخير , ومقصدان عمليان تثمرهما هاتان المعرفتان إذا قدر لهما أن تثمرا ؛ فثمرة معرفة الحق هي تقديس الحق واعتناقه , وثمرة معرفة الخير هي فعل الخير والتزامه .

فالقصد النظرّ الأساسيّ للقرآن الحكيم هو تعريفنا بالحقيقة العليا , صعوداً بنا إليهما على معراج من الحقائق الأخرى . فهو يعرفنا بالله وصفاته عن طريق توجيه أنظارنا إلى آياته في ملكوت السماوات والأرض : في خلق الإنسان والحيوان والنبات , في سير الشمس والقمر والنجوم , في تكوين السحا , في تسخير الطير , في تصريف الرياح , في ظاهرتيّ الحياة والموت , وفي سائر الظواهر النفسية والكونية الخارجية عن إرادتنا , وعن إرادة الكائنات كلها , والتي لا يستطيع العقل السليم أن يفسر وجودها , ولا بقاءها ولا تناسقها وتماسكها ووحدة نظامها إلا بوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة , تقبض على زمام الأمر كله , وتوجه العالم كله على هذا النحو المحدد المعين , المختلف المؤتلف دون ملايين الملايين من الأوضاع الممكنة التي لابد لها من أن تتناوب على الكون في كل لحظة لو ترك الأمر لمحض المصادفة والاتفاق , أو لو ترك أمره لقوة عمياء صماء طائشة , لا عقل لها , أو لقوة مخربة مدمرة لا رحمة لها , أو لقوة عابثة لاهية لاعبة لا هدف لها .

والقرآن حين يرينا صنع الله في ملكوته لا يقف بنا عند هذه اللوحة العالمية في صورتها الحاضرة , ولكنه يوجه نظرنا إلى طرفيّ الزمان الكونيّ , فيطيل بنا على صورة العالم في ماضيه وفي مستقبله , في بدايته وفي نهايته , كما يوجه نظرنا إلى طرفيّ الزمان الإنساني فيرينا صورة من صنيع الله في الأفراد والأمم : في ماضيها وفي مستقبلها القريب والبعيد , في إسعادها وإشقائها , في إبقائها وإفنائها , في مثوبتها وعقوبتها .

هذه النظرة الشاملة إلى صنع الله في النفس والآفاق , وهذه المفعرفة بالله في مظهريّ عدله وفضله , في صفتيّ جلاله وجماله إذا وقعت موقعها من النفس تقاضتها حتماً أن تتخذ لها موقفاً عملياً تجاه هذه الحقيقة المقدسة العليا , وما ذلك إلا موقف الوقير والخشوع أمام هذا العدل والجلال , وموقف الولاء والحب أمام هذا الفضل والجمال . فمن عرف الله خشعت له نفسه , وأطمأن له قلبه . وذلك هو روح العبادة وجوهرها , الخشوع التام عن طوع واختيار , وعن رضىً ومحبة .

فإذا كان هذا الأصل النظري الأول , هو معرفة الله فالأصل العملي الأول الذي يثمره ذها الأصل , هو توقير الله . ومن جملة هذه الأصلين يتألف الجانب الإلهي بعنصريه النظري والعملي ... والقرآن يفصله تفصيلاً , وسورة الفاتحة إجمالاً في شطرها الأول : (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهذه هي المعرفة الأساسية . (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) , وهذا هو الموقف العملي الذي تثمره تلك المعرفة .

وقبل أن ننتقل إلى الجانب الإنساني , الذي يتناوله الشطر الثاني من السورة , يجمل بنا أن نقف وقفة يسيرة أمام هذه الحبات الدرية التي يتألف منها هذا الجناح الأول من السورة لكي تتمتع عقولنا وقلوبنا بتذوق معانيها , واجتلاء جمال مواقعها , ولنبدأ بهذه الصفات : (رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) شذرات ثلاثة انتظمت أركان العقيدة القرآنية الثلاثة , في ترتيب بالغ الغالية في الإبداع والإحكام : المبدأ , فالواسطة , فالمعاد ... التوحيد , فالنبوة , فالجزاء ... (رَبِّ الْعَالَمِينَ) : ليس إله قبيلة أو شعب أو إله خير أو شر , أو إله نور أو ظلام فحسب , ولكن رب كل شئ : بارئه ومصوره , منقله في أطواره , مبلغه غايته , ممده بحاجاته , مبتليه أو معافيه . وبالجملة مربي كل شئ بأنواع التربية الظاهرة والباطنة . هذا هو التوحيد الخالص , وهذا هو ركن المبدأ . (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) .

ليس رحماناً رحيماً فحسب , ولكنه هو الرحمن الرحيم . ليس واحداً من جملة الراحمين ولكنه هو المصدر الوحيد للرحمة . ثم هو الذي ليس ذو رحمةٍ واحدة , ولكنها رحمتان مفسرتان في القرآن : رحمة وسعت كل شئ , ورحمة يختص بها من يشاء ؛ فالرحمة الأولى وسعت الإنسانية جميعها , لا أقول وسعتها بنعمة الوجود والحياة والرزق المادي فحسب , ولا أقول وسعتها بنعمة الهداية الفطرية وكفى ولكن بنعمة الهداية السماوية نفسها وذلك بإرسال الرسل إلى كل الأمم : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) . هذه هي الرحمة الأولى ؛ الرحمة الأساسية العامة , التي هو بها [رحمن] ممتلئ الجزائن بالرحمة , باسط اليدين بالنعمة (واتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)  .

ورحمة أخرى خصوصية إضافية , علاوة يمنحها لمن يستحقها , تلك هي رحمة الاصطفاء والجتباء , والقيادة والإمامة والتوفيق والرشاد , والمزيد من الفضل : (اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ) . (اللّهِ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) . (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) . (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) . (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) . (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وهذه هي الرحمة التي هو بها رحيم , على هاتين الرحمتين يقوم ركن النبوات فهو رحمة عامة للمرسل إليهم . ورحمة خاصر للمرسلين , ومن اهتدى بهديهم . ولهذا هو الواسطة بين المبدأ والمعاد... (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إليه وحده ترجع الأمور وبيده تقرير المصير الأخير , يقف الخلق جميعاً بين يديه مسئولين , فيدينهم ويجزيهم بما كانوا يعلمون . وهذا هو الركن الثالث والأخير ؛ ركن المعاد والجزاء .

عرفنا الآن مغزى هذه الصفات الثلاث ومواثعها فيما بينهما . فلننظر إلى موقعها مما حولها لنرى كيف وقعت بين قضيتين , [الحمد لله] , و[إياك نعبد] فكانت تأييداً لما قبلها , وتمهيداً لما بعدها . فمنزلتها من قضية الحمد منزلة البرهان الدعوي , ومنزلتها من قضية العبادة منزلة القوة المحركة من الحركة المطلوبة .

وفي الحق أنه إذا كان الله وحده هو الذي أعطى كل شئ خلقه , وهو الذي كفل كل شئ وتعهده بالإمداد آناً فآناً حتى أبلغه مداه . وإذا كان هو وحده الذي يملك خزائن الرحمة والنعمة كلها , وهو الذي ينفق منها , وهو الذي يضاعفها لمن يشاء , وإذا كان هو وحده الذي بيده فصل القضاء , وتقرير المصري . فأي شئ أحق منه بنعوت الجمال والجلال ؟ بل أي شئ غيره يستحق هذا الثناء والإجلال ؟ الحمد والثناء كله حق مستحق خالص مخلص لله ... تلك إذا قضية معها برهانها .

هذا البرهان الاستقرائي , الذي يستقصي مظاهر العظمة والرحمة كلها في الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل , فيحصرها في الله , هو في الوقت نفسه قوة دافعة تأخذ بأقطار نفسك وتوجهك إلى غاية معينة عملية , فإنَّ نظرة إلى ماضيك وقد أتى عليك حين من الدهر لم تكن شيئا مذكوراً فتعهدك الخلاق في مختلف أطوارك حتى بلغت أشدك وأصبحت سميعاً بصيراً خصيماً مبيناً مستأهلاً لخلافة الأرض , لابد أن تتفاضاك حق الاعتراف له بالفض والجميل , قياماً بواجب الرضاء , ونظرة إلى حاضرك وإلى مستقبلك القريب وأنت تتقلب كل آن في رحمته , وتطمع كل آن في المزيد من نعمته , لا شك تثير فيك نخوة باعثة الحب والرجاء ونظرة إلى مستقبلك البعيد وأنت واقف أمامه في ساحة القضاء , وقد علق مصيرك في كفتيّ ميزانه , لابد أن تبعث في روعك مزيجاً من الرغبة والرهبة والاستحياء .

ماذا يكون موقفك إذاً من هذه الحقيقة المحيطة الغامرة , وأنت كلما التفت إلى أمْسِك أو إلى يومك أو إلى غدك لم تر إلا يد جلالها أو يد جمالها ؟!

النتيجة الطبيعية التي لا تستطيع دفعها عن نفسك بعد هذه المقدمات الثلاث , هي أن يضمحل في عينك كل ما ترى في الوجود من مظاهر زائفة وظواهر زائلة , وأن ترتفع فوق العالم كله بهامتك , وأن تتحول كل رغبتك ورهبتك إلى هذا المنبع الأول والوحيد لكل قورة ورحمة , وهناك لا يسعك إلا أن ينطلق لسانك غي حب خاشع قائلاً : أيها الحق الجامع المانع ! لك كلي , لك صلاتي ونسكي , ولك محياي ومماتي , إياك أعبد , ولك وحدك أركع وأسجد . على أنك لو كنت أوسع أفقاً , وأيقظ قلباً , لوجدت نفسك لست وحيداً في هذا الموقف , لرأيت العالم كله حولك راكعاً ساجداً أمام هذه العظمة الباهرة . لا تقل إذاً : إياك أعبد , ولكن قل (إياك نعبد) وهذه هي النتيجة الحقيقية التي أعلنها القرآن الحكيم : [إياك نعبد , وإياك نستعين] , لا نعبد إلا إياك , ولا نستعين إلا إياك !!

- ماذا أقول ؟ لا نستعين إلا بك ! إني لأكاد أسمع من يهمس في أذني همساً يقول لي : أما (إياك نعبد) فقد فقهماها وأما [إياك نستعين] ففي النفس منها شئ, إذ من ذا الذي يطيق الاستغناء الكلي عن معوة الخلق ؟ أليس الناس كلهم يعين بعضهم بعضا , ويستعين بعضهم ببعض , أليس التعاون هو أساس الحياة ؟ أليس القرآن نفسه يقول : {وتعاونوا على البر والتقوى}.

- بلى أنا أستعين بك , وأنت تستعين بي , ولكننا كأمة , والناس والعالم أجمع , بمن نستعين وراء طاقتنا المحدودة , وحيلنا المعدودة ؟ ثم إني حين أستعين بك وتستعين بي , فمن ذا الذي يبعث الباعقة في قلبك لمعونتي وفي قلبي لمعونتك ؟ ومن ذا ييسر لي ولك وسائل هذه المعونة . ومن ذا الذي يُنجِح هذه المعونة ويؤتيها ثمرتها ؟ الله وحده في الحقيقة وفي النهاية هو المستعان .

{إياك نعبد وإياك نستعين} , بإجماع هاتين الكلمتين بطل الشرك كله : شرك العبادة لغير الله , وشرك الاستعانة والاستشفاع بما لم يأذن به الله وبإجماع هاتين الكلمتين بطلت العقائد المتطرفة كلها : عقيدة الجبر المحض , الذي ينكر قدرتنا ومسئوليتنا , وبطلت عقيدة الاختيار المحض الذي يدعي الاستغناء عن معونة ربنا . فنحن نعمل ونتوكل , نعبد ونستعين .

نعبد أولاً ونستعين ثانياً .. نؤدي واجبنا ثم نطالب بحقوقنا .. ألا فليستمع أولئك الذين لا يفتأون يطالبون بحقوقهم , ولا يبدأون بأداء واجباتهم .. إنهم لم يتأدبوا بأدب القرآن .. ألا فليصححوا موقفهم من فاتحة الكتاب , التي يرددونها في صلاتهم كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل .

هكذا عرفنا الله بصنيعه في الآفاق وفي أنفسنا , وعرفناه فيما صنع , وفينا يصنع وفيما سوف يصنع , عرفناه بعقولنا وقلوبنا , ثم توجهنا إله بعزائما , وبرغائبنا .

هذا الجانب الإلهي نظرياً وعملياً , يمثل نصف المهمة القرآنية , وقد رأينا كيف جمعته سورة الفاتحة في شطرها الأول .

غير أن الإنسان ليس كائناً روحياً محضاً , حتى تكون رسالته في الحياة أن يتأمل في صنع الله , وأن يمتلئ إعجاباً به , إنه كائن مزدوج : عبد الله وسيدٌ للكون , إنه خليفته في الأرض , مسئول عن عمله في خلافتنه , كما هو مسئول عن موقف عبوديته . الله يخلق ويصنع , والإنسان يعمل ويكتسب : حياته الطبيعية تتقاضاه أن يعمل , وحياته النفسية تتقاضاه أن يعمل , وحياته في أسرته وفي بيئته وفي أمته وفي الأسرة الإنسانية وفي علاقته الروحية , كل هذه جميعاً يتقاضاه أن يعمل .

فلننتقل إلى هذا الجانب الإنساني, إلى عمل الإنسان . هو جانب يتألف كذلك من عنصرين : عنصرٌ نظريٌ تعليمي , نرى فيه نماذج الأعمال الإنسانية في مختلف صورها , جميلها ودميمها , حميدها وذميمها ؛ وعنصر عملي تنفيذي , هو صدى تلك المعرفة , وثمرة تحريكها لعزائمها  .

ولنبدأ بالعنصر النظري : كيف عرض القرآن علينا صورة العمل الإنساني ؟

إنه يتبع في ذلك منهجاً مزدوجاً , يجمع بين القيم الذاتية والقيم العرضية للأخلاق والسلوك . منهج القيم الذاتية الذي يخاطب الضمير , يدعو إلى الفضيلة باسم الفضيلة . مصوراً ما فيها من جمال واعتدال , وينهى عن الرذيلة باسم الرذيلة , مبيناً ما فيها من دنس وانحراف . ومهج القيم العرضية الذي يخاطب العاطفة , ويرغب في الفضيلة , وينفر من الرذيلة باسم المصلحة الحقيقية , ويحكم النظر إلى عواقب الأمور وآثارها في العاجل والآجر , ويضرب لذلك الأمثال الكثيرة , ويثص من أجل ذلك السير التاريخية في مختلف العصور .

والعجيب من شأن سورة الفاتحة أنها على فرط إيجازها قد انتظمت المنهجين جميعاً في كلمتين . ذلك أنها حين حببت إلينا طريق الفضيلة بينت لنا أولاً قيمته الذاتية , فوصفته بالاعتدال والاستقامة : {الصراط المستقيم} ثم بينت ما في عاقبته من نفع وجدى , فوصفته بأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله ونعمته , وأشارت في الوقت نفسه إلى مثله التاريخية في سيرة أهله الذين نصبوا أفنسهم للقدوة الحسنة {صراط الذين أنعمت عليهم} من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. ثم لم تكتف بذلك بل وضعت معياراً لأنوا الطرق المنحرفة أن الإنحراف على ضربين , انحراف عن قصد وعلم , عناداً واستكباراً , واتباعاً للهوى , وهو طرق [المغضوب عليهم] الذين رأوا سبيل الرشد فلم يتخذوه سبيلاً , ورأوا سبيل الغيّ فاتخذوه سبيلاً ؛ وانحراف عن جهلٍ وطيش , وهذا هو طريق {الضالين} الذين لا يتوقفون عند الشك , بل يقتفون ما ليس لهم به علم , فيخبطون خبط عشواء , دون تثبّت ولا تبصّر , لا ريب أن كلا الضربين مذموم , وإن كان بعضهما أسوأ من بعض : العالم المنحرف مأزور , والجاهل المنحرف غير معذور . والعالم المستقيم هو المبرور المأجور .

هذه المشارب الثلاثة نجد دائماً أمثلتها في الناس , لا في الخلق والسلوك فحسب , بل في كل شأن من الشئون : في الاعتقاد والرأي والتعليم والإخبار والفتيا , والحكم , والقضاء . وهكذا جاء في الحكمة النبوية ((قاض في الجنة وقاضيان في النار ؛ فالقاضي الذذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به , واللذان في النار رجل عرف الحق فقضى بخلافه , ورجل قضى للناس على جهل)). - أخرجه أبو داوود وابن ماجة -

من استحكمت معرفته بهذا الأصل النظري , وتبينت له مسالك الهدى والاستقامة , ومشارب الاعوجاج والضلالة , ماذا يكون موقفه العلمي منها .

لا ريب أن العاقل الرشيد يلتمس من هذه الطرق أقومها , ويطلب أسلمها , ويتوجه بعزيمته إلى أحسنها . وهذا الالتماس والطلب والتوجه هو الذي ترجمته لنا سورة الفاتحة في كلمة واحدة {اهدنا} أهدنا الصراط المستقيم!

وهكذا نرى السورة الكريمة قد انتظمت فيها المقاصد القرآنية الأربعة : الجانب الإلهي نظرياً وعملياً والجانب الإنساني نظريه وعمليه ... كل ذلك في أوجز عبارة وأحكم نسق .

سورة الفاتحة إذن هي خريطة القرآن وفهرست مواده , إنها جوهرة القرآن ونواته ولب لبابه . فهي بحق "أم القرآن".

تعليقات

المشاركات الشائعة