واجب المثقفين في حفظ دين الإسلام " د . محمد دراز"


واجب المثقفين في حفظ دين الإسلام " د . محمد دراز"
المثقفون هم كل من يتعلم العلوم الاجتماعية بغرض فهم الواقع فهما علميا، وكل من يقرأ لهم – ويدخل فيهم علماء العلوم الطبيعية –،
 لا يتخيل هؤلاء المثقفون أن حفظ الدين واجب عليهم، لأننا نظن أن حفظه مقصور على علماء الدين وحسب، ولأننا في الحقيقة جُردنا من الثقافة الإسلامية بفعل الحكومات، ولقصور علماء الدين عن بيانه لنا – وهذا السبب هو الأخطر – إذ كثير من علماء الدين الذين نشأوا في العصور المتأخرة لا يستطيعون فهم العقل المعاصر كيف يفكر، ومن ثم فنتاجهم الديني لا يُبين ولا يحقق البيان الواجب الذي أوجبه الله عليهم في مثل قوله تعالى { وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }"يس:17"، ومن هنا كانت أقرب المعاني إلى عقولهم هي المعاني والمفاهيم التي قدمها علماء الغرب عن مفهوم " الدين" ومن هنا استبعدنا ان يكون على المثقفين واجب شرعي في حفظ الدين سيسألهم الله عليه يوم القيامة، ومن أراد الأدلة على ذلك فسيجدها في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ الله لم يخص نفرا من المكلفين بحفظ الدين دون آخرين إلا باعتبار صفات يمكن اكتسابها تطرأ عليهم يقول الإمام أبو حامد الغزالي في" وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَفَضِيلَتُهُ والمذمة في
إهماله وإضاعته":" ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه الآيات والأخبار والآثار
أما الآيات فقوله تَعَالَى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون فَفِي الْآيَةِ بَيَانُ الْإِيجَابِ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلْتَكُنْ أَمْرٌ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ وَفِيهَا بَيَانُ أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَفِيهَا بَيَانُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا فَرْضُ عَيْنٍ وَأَنَّهُ إِذَا قَامَ به أمة سقط الفرض عن الآخرين إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف بل قال ولتكن منكم أمة فإذا مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة" انظر بقية الأدلة في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم المعروف هو حفظ الدين ( أصولا وفروعا ) وأعظم المنكر هو تضييعه وترك حفظه، ولا يشك أحد في هذا الزمان ان دين الإسلام ( من حيث كونه علما وموضوعا لا خيالات وقوة مبهمة كما يصفه علماء الغرب) ضائع ومشوه في فهم المسلمين قبل غيرهم، وليس مقصودي بحفظ الدين أو الأمر بالمعروف الواجب على المثقفين هو ما ترونه من الشيوخ البسطاء في الفضائيات الدينية وفي التسجيلات الصوتية وفي كتبهم! ولكن أقصد حفظ الدين من حيث كونه علما وموضوعا ، انظروا عينة تدلكم على ما أقصد من أي كتاب من كتب الإمامين محمد رشيد رضا أو محمد دراز وأمثالهم لتروا الفرق بين الإسلام ( كعلم) وبين الإسلام ( كما يقدمه المشايخ في الفضائيات وفي كتبهم المعاصرة التي لا فرق كبير بينها وبين كلامهم الصوتي، وهذا كلام للشيخ محمد دراز يبين فيه أن حفظ الدين ( كعلم) واجب على المثقفين مع تعليقي عليه وهو منشور في مقدمة كتاب " الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبي :" عزيزي السيد بن نبي
فرغت لتوي من قراءة كتابك القيم (الظاهرة القرآنية)، ومما أعطى لموضوعك أهمية كبرى أنه قديم وحديث معاً.
ففي ضوء العلم الحديث، ولجت قضية رئيسية ما فتئت تشغل المفسرين في كل زمن. ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية.
إن الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤه، لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد، ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد، يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة بل موحدة على الرغم من المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في الم كان والزمان.
وإذا نحينا جانباً أسلوبك الفني في الكتابة، وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء، فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة.
ليس هذا فحسب، بل من غير النادر أن يحمل تفحصنا للأمر المثل نفسه وأن يشير إلى المعنى ذاته.
إن المسألة هي في البحث عن المصدر الحقيقي للقرآن. وأن نعرف ما إذا كان يمكن أن يكون هذا الكتاب قد استخرج من علم أو إدراك من أرسل به. أو منمعرفة بشرية على وجه العموم، أم أنه على العكس من ذلك، هنالك أسباب لا يمكن دفعها تحدونا للأعتقاد بمصدره العلوي الإلهي.
تلك هي المسألة التي جئتَ بدورك تلزم نفسك بالعمل على حلها، بإيجاد الأسس الثابتة والعقلية، للإيمان بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب، وتسليط الأضواء عليها.
وإذا كان المفسرون التقليديون، توصلا إلى الهدف نفسه، قد أكدوا بصورة خاصة على الجانب الأدبي من المسألة، فإن هذا الموقف على كل حال يجد تفسيره وما يسوغه في المسلمة الأعم للقرآن. تلك المسلمة التي تميز بها الأسلوب القرآني في جمال لا يضاهى وجلال مميز، وبالاعتراف الفوري بالعجز عن الإتيان بمثله، وهو الوجه الأقرب منالاً لسائر البلغاء من البدو. على أنه من الصحيح أيضاً أن هؤلاء المفسرين، وهم ينظرون في محتوى القرآن، قد رأوا في اتساع وعمق المعرفة التي يحملها للإنسانية، دليلاً في ذاته على خصائصه التي تتجاوز طاقة البشر، وأن التعارض بين توجيه بعض الآيات، كآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب 33/ 37] مثلاً، والمشاعر الشخصية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لشهادة لا تُرَدُّ على استقلالية القرآن عن النبي.
فهل يمكن أن يقال إن هذه النتائج المستخلصة من قبل أجدادنا، تجعل كل محاولة لتفسير جديد عديمة الجدوى؟.
هل يقال إن واجبنا يتحدد من الآن فصاعداً، بتدوين هذه النتائج الجاهزة، وبالنظر إليها كأنها الكلمة الأخيرة حول حقيقة الأشياء؟.
كلا، ثم كلا.(1)
إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سبباً جديداً يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم.(2)
والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة.
فإذا كان صحيحاً أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة(3) والنفس(4) أيضاً كما يقول القرآن نفسه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت 41/ 53].
إذا كان الأمر كذلك فإن واجباً يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم.
إنه التقريب بين جانبي روحه: بين معتقده وعلمه. حين يواجه النصوص المنزلة، لا أقول بفرضيات العلماء التي لم تتحقق أو التي لا تقبل التحقيق، ولكن بالنتائج الثابتة والمستخرجة من تجاربهم، وأن يأخذ من تلك الواجهة ما ينتج عنها من دروس.
وإذا كان في الواقع هنالك حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها.(5)
وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجباً آخر يقع على عاتقه: إنه إخراج ثمار علمه بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم."
(1)- يقول الإمام جلال الدين السيوطي:" إن العلوم وإن كثر عددها، وانتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحرٌ قعره لا يُدرك، ونهايتها طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يُسلَك، وهذا يفتح لعالِم بعد آخر من الأبواب ما لم يتطرق إليه من المتقدمين الأسباب" انظر خطبة السيوطي لكتابه" التحبير في علوم التفسير".
(2) لأن هذا الواقع – خيرا أو شرا – هو من قدر الله واعتقادنا كما يقول الشيخ دراز" إننا نُسأل عن القدر إذا نزل ولا نسأل عنه لماذا نزل" فالقدر النازل يحمل معه تكليفات بالخير او بالبلاء لنُسأل عنها من ضمن ما سنسأل عن أفعالنا وأعمالنا التي عملناها في الدنيا.
(3)إثبات الإعجاز في الوحي المطهر باكتشافات العلوم الطبيعية يقع موقعا هامشيا وعرَضيا كما يقول الشيخ دراز في كتاب الدين ، أما طرق إثبات هيمنة الإسلام وصدقه التي تقع موقعا مركزيا ومحوريا فهي اللغة العربية والفكر كما يقول الشيخ دراز :" نستطيع دراسة القرآن الكريم من زوايا جد مختلفة، ولكنها جميعا يمكن أن تنتهي إلى قطبين أساسيين: اللغة والفكر. فالقرآن كتاب أدبي وعقيدي في نفس الوقت وبنفس الدرجة" من مقدمة كتاب " المدخل إلى القرآن الكريم" وكذلك الوحي كله قرآنا وسنة. فلا يصح قلب هذا الوضع كما يفعل البعض الآن فيحول دين الإسلام إلى كتاب طبي وعلوم طبيعية ويترك الخوض في مجال الفكر المقصود قصدا أوليا بالدين.
(4)- يقصد علوم الاجتماع.
 (5)- يشير إلى قواعد ضرورية من قواعد الإسلام كقاعدة ( عدم تعارض العقل والنقل) وطبقها شيخ الإسلام ابن تيمية على الفكر السائد في عصره في كتاب " درء تعارض العقل والنقل" وكقاعدة: القياس الصحيح والعدل الذي بعث الله به رسوله هو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر‏.‏  ومن المواطن التي أعلم أن ابن تيمية طبقها فيها على الفكر السائد في عصره كلامه في مجموع الفتاوى ج21 فصل " سُئل عن القياس" أما عصرنا الحاضر فيزخر بالفكر الذي ينقض مثل هذه القواعد! وهذا هو واجب المسلمين في البيان المبين الذي يرفع هذا التعارض والتناقض بين الوحي واكتشافات الفكر المعاصر. وهذا يستلزم أن تكون دراسة الإسلام ( كعلم)  دراسة موحدة وملزمة لكل المثقفين المسلمين ، أما دراسة العلوم الاجتماعية فطريقها معروف، وأما دراسة الإسلام ( كعلم) فطريقه غامض ويحتاج لبيان واضح يلاءم العقل الثقافي المعاصر كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا عن تعلم العلوم الشرعية في عصرنا الحاضر:" بقيت حقائق الدين
مجهولة ، ومحاسن الشريعة مدفونة ، وطرق العلم بها حالكة الظلام ، مشتبهة
الأعلام ، والبدع في ازدياد ، تمهد السبيل لفشوِّ الإلحاد " فلنبحث عن الطريق وعن المادة الدينية الأولى بالدراسة وبذل الجهد فيها من بين باقي المواد الدينية. وهذا ما أبحث فيه ، ولكن لنشرع ونسعى في تعلم ما يمكننا تعلمه الآن حتى يتضح الطريق رويدا رويدا، فعادة المتعلم أن يكون ما يتعلمه غامضا في نظره في البدايات ولا يتضح له إلا إذا سعى واجتهد في الطريق.

تعليقات

المشاركات الشائعة