نظرات عامة في فكر الدكتور محمد عبد الله دراز (2)

نظرات عامة في فكر الدكتور محمد عبد الله دراز (2)

هذه إضافات تفيد إن شاء الله.

من الملاحظات التي أشرت إليها في المقال الأول أن الشيخ دراز لم يكن يخاطب بنتاجه فئة معينة من الناس ( المتخصصين) ولكنه كان يخاطب كل مسلم مثقف، ونسيت أن أضيف إلى الأدلة المذكورة كلامه من كتابه النبأ العظيم المُصنف في دائرة " علوم القرآن" الذي كان أصله دروسا في التفسير قدمها لطلاب كلية أصول الدين بالجامع الأزهر، رغم أن الكتاب مليء بالنظرات العلمية الإبداعية في علوم الاعتقاد والبلاغة وغيرها بل هو يطبق نظرية علمية قال بها علماؤنا المتقدمون يطبقها على نماذج من القرآن الكريم يقول الشيخ في مقدمة كتابه عن أخر مراحل الكتاب:"اكتمل به قوامه، وأخذ بها أهبته للخروج من نطاق الثقافة الجامعية، إلى فضاء الثقافة العالمية، لكي يتحدث إلى كل عقل واع ناقد، لا يأخذ إلا على بصيرة وبينة، ولا يذر ما يذر إلا على بصيرة وبينة؛ وإلى كل وجدان تجريبي ذائق لا يكتفي بالخبر عن المعاينة؛ ولا يستغني بالوزن عن الموازنة.
إنه حديث يبدأ من نقطة البدء ...
فلا يتطلب من قارئه انضواءً تحت راية معينة؛ ولا اعتناقًا لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصًا في ثقافة معينة؛ ولا حصولًا على مؤهل معين، بل إنه يناشده أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء؛ إلا من فطرة سليمة؛ وحاسة مرهفة؛ ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن.
وإنه إذًا لواصل إن شاء الله.".

فالشيخ كان عالم عامة، كما كان أغلب علماء أهل السنة والجماعة طيلة التاريخ علماء عامة " قاله د أحمد القاضي" ولا يكون العالم في هذا الزمان عالم عامة إلا إذا درس العلوم التي يتعلمها " العامة" والمقصود بالعامة هم الناس المثقفة التي تكتب ليقرأ لهم المثقفون الذين يستمدون فكرهم من علوم الاجتماع الغربية، فلن يكون عالم اليوم عالم عامة حتى يفهم مجمل الإطار والمحتوى الذي ينشغل به أهل عصره ثم يقوم بدوره كعالم بحسب ما تؤديه فطرته ومواهبه واهتماماته البحثية في فحص هذا المحتوى ومقارنته بمراد الله ورسوله، فلو فعل علماء العصر ذلك لوجدت اختلافا بينهم بحسب اختلاف شخضياتهم واهتماماتهم، فهذا الاختلاف لا يضر فهو كالاختلاف مثلا بين محمد عبده رشيد رضا ومحمد دراز وابن عاشور ونحوهم، فكل منهم مختلف عن الآخر في نتاجه بحسب قدراته واهتماماته لكن كلهم مشتركين في فهم الإطار والمحتوى الذي يفكر به أهل عصرهم، أما ما حدث منذ عهد بعيد وإلى الآن من أن يتوجه العالم أو الداعية إلى الناس ويخاطبهم بالإسلام وهو لا يفهم العقل المعاصر فهما مقبولا على أقل تقدير، فسييء كثيرا من حيث لا يشعر، وهل دخلت العالمانية والإلحاد في العالم المعاصر إلا بسبب تقصير العلماء في هذا الأمر؟! من حين افتقد العالم أو الداعية وصف المثقف. فبعد أن كان عالم العامة هو المثقف في التاريخ الإسلامي كما كان " اللاهوتي" في العالم الغربي هو المثقف، طبعا مع فرق بين النوعين فالأول كان مثقفا على وفق التفكير العلمي، والثاني كان مثقفا لا على وفق التفكير العلمي ولكن لكونه من أصحاب السلطة في الواقع كسلطة المستبد السياسي لا أساس لهما من العقل والفكر.

وقد بدأ ظهور مصطلح المثقف أول مرة في بدايات عصر النهضة مع نشأة العلوم الاجتماعية، هذا ظهوره أول مرة كلفظ ومصطلح مع ثبوت معناه الضمني ( وهو المساهمة في تشكيل الواقع والعقل) منذ القديم فارتبط ظهوره كمصطلح بالعلمانية فصار المثقف هو أهل العلم الاجتماعي الذي يبحث في الدنيا وحسب في مقابل اللاهوتي فلا دينه - كنصوص الهية ونبوية - يُصنف في دائرة العلوم ، ولا تدخل الدنيا والواقع في موضوع بحثه وتفكيره ، ثم جاء مفكرو العرب المسلمون لينقلوا لنا مصطلح المثقف كما هو عند الغرب، ومما دعم هذه الشبهة لديهم أن كثيرا من علماء الدين في عصرنا الحديث للأسف فقدوا وصف المثقف، و انشغلوا بعلوم التراث الديني وجعلوها كل همهم وكأن الله أنزل دينه للدراسة الذهنية المجردة من غير اقترانها بالواقع المُعاش الذي سيسألنا عنه!،حتى صاروا يتكلمون في الدين من واد والنخبة المتعلمة في واد آخر! فهذا عقل وذاك عقل آخر مختلف تماما،، مما جعل النخبة المتعلمة تعتقد في الدين وفي علماءه مثلما اعتقد أمثالهم في الغرب، وإن كان البعض من نخبتنا المتعلمة لم تعاد الدين لكنهم لم يجدوا من يجدد فهمهم له ليلتمسوا منه حلول المشكلات المختلفة ويتخذوا نصوصه مادة للدراسة المستمرة والتفكير الدقيق – وهذا هو فرض الله على كل مسلم سيما المثقفين وعلماء الاجتماع والطبيعة - ، حتى أن منهم من قال إن الإسلاميين يريدون إحلال الواعظ مكان المثقف وهذا تدمير لأسس التقدم الثقافي، وكل ذلك حدث من غفلة علماء الدين وقد تكلم ابن تيمية عن مثل هذا الخلل حين قصر علماء الدين في الكوفة عن معرفة سياسة رسول الله وسياسة خلفائه الراشدين وتقصيرهم في معرفة السنة الصحيحة فَصَارَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ إذَا حَكَمُوا ضَيَّعُوا الْحُقُوقَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ حَتَّى تُسْفَكَ الدِّمَاءُ وَتُؤْخَذَ الْأَمْوَالُ وَتُسْتَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتُ، فتمخض عن تقصيرهم هذا في رأي ابن تيمية أن حدث نوع فصل ما بين الشرع والسياسة فصار يُقال هذا شرع وهذا سياسة حين صارت الخلافة في ولد العباس فدخل هذا الفصل في الكوفة وفي كثير من الأمصار بسبب تقصير أهل الدين عن القيام بواجب البيان الذي يتفق مع تحديات عصرهم ومطالبه.


تعليقات

المشاركات الشائعة