العلم الدقيق في المقالات أكثر منه في الكتب.

يشيع بين الناس أن مؤلفي الكتب والمكثرين منها أغزر علما وأدق فكرا من المكثرين من كتابة المقالات هذا إن كانت المقالات (عندهم) علامة علم وتجديد أصلا!
ولكن الواقع أن العكس هو الصحيح يقول "ريمون بودون":" يتحقق لدينا يوما بعد يوم أن العلوم الاجتماعية، كالعلوم الطبيعية، تنمو وتصيب تقدمًا بفضل المقالات أكثر منها بفضل الكتب"
وسر ذلك هو أن المكثر من المقالات يختلف عن المكثر من الكتب في أن الأول تفكيره تفصيلي، وهو نوع التفكير المحروم منه مفكرونا وتُرجعُ الدراساتُ الغربية تخلفنَا إلى فقدان مفكرينا له، ويشيع فيمن يكتبون الكتب في زماننا التفكيرُ الشمولي ووجوده سبب تخلفنا في نظر الدراسات الغربية الصادقة جدا.
المكثر من المقال يدل على أنه يرى الدنيا تفاصيل كثيرة ولتسارع وتيرة الأحداث يكثر هو من تحليلها كتفاصيل صغيرة تتابع في نظره في مقالات متتابعة ومتوالية، فيكثر من المقالات لكثرة ما يرى من التفاصيل ذات الوتيرة المتسارعة، أما المفكر القرد فيحتمي بتأليف الكتب إذ لا تحتاج الكتبُ منه إلا إلى قراءة مراجع ومصادر في ذات موضوعه ولا يضطره الكتابُ إلى إعمال فكر ذي طابع خاص، أما صاحب المقال فلا يستطيع الرجوع إلى مراجع بالشكل الذي يسهل على صاحب الكتاب، إذ موضوع نظره جديد حي فيضطره ذلك إلى استعمال منهجه العلمي الذي يمتلكه (وهل العلم إلا منهج؟!) كما أن القرد والحمار المجددَين في الأمم المتخلفة حينما يعجزون عن التعامل مع ظاهرات واقعهم المعاش في تعقدها وتفاصيلها،أو حينما يعجزون عن رؤية وجود تفاصيل هنا وهناك، ومناطقَ مهجورة؛ يحتمون بتأليف الكتب ويتسترون ورائها لئلا تنكشف طبيعتهم القردية والحمارية أمام متبوعيهم فيخسروا الغنائم، إذ حينما يرى الأتباع عددَ كتب مفكرهم يفتتنون به، وهو يأمن على نفسه الافتضاح من جهة أنّ فرص تسليط الضوء على كتابه من جهة مفكرين مقتدرين ومن جهة الناس العاديين؛ تكون قليلة جدا بالنسبة إلى تسليط الضوء على المقال، فتقييم الكتاب يحتاج إلى من يتفرغ له ليبحث موضوعه من جديد ويحتاج إلى تقييم مدى حاجة الأمة إلى موضوعه ضمن سلم الأولويات الواجب، كما أن الاعتماد على تأليف الكتب يتيح لمؤلفها ترسيخ الوهم بأنه (مجدد وصاحب مشروع فكري نهضوي) فيتمتع بهذا الشعور، وتُبعدُ جدًا وجود أي احتمال بأنه (حمار أو قرد) ويبرر ذلك لنفسه بأن مشروعه الفكري من تعقده وجبروته صار موزعا على كتبه كلها ولن يلتفت المفكرون إليها حتى تمر فترة على صدورها تسمح لهم بالانتباه إليها ثم عقد دراسات علمية حولها، وحينها سيعرفون قيمة وأصالة مشروعه (وطبعا هذا سيحدث بعد موته) فهو يعيش في وهمه مجددا عملاقا ويموت معتقدا بذلك أيضا، ومنذ 3 سنوات كانوا يحتفلون ببلوغ أحد مفكرينا الإسلاميين سن الثمانين وأن صارت عدد كتبه مئتين وخمسين كتاباً ولذلك طبعا هو يعتقد أن لديه مشرع فكري إسلامي تجديدي!
أما صاحب المقال فلصغر حجم المقال وانتشاره وازدياد فرصه في تسليط الضوء عليه؛ يشكّل عامل مسرِّع جدًا لعقد امتحانات لصاحب المقال في نظر الناس (بمختلف شرائحهم) في حياته، ولسرعة ظهور تلك الامتحانات بتوالي وتعاقب مقالاته تزداد فرص ظهور المفكر على حقيقته في حياته، فهل مقالاته تعبر عن فكر أصيل أم زائف وعظي؟ وما درجة رقيها في سلم الأصالة لو كانت أصيلة؟ فاهتموا بالمقالات واعرفوا قدرها، ولذلك يكتب شيخنا حاتم العوني مقالات وخواطر كثيرة ويكثر منها وهناك مفكرون آخرون يفعلون مثله

تعليقات

المشاركات الشائعة