الدين أساس كل المدنيات للإمام محمد عبده.



الدين أساس كل المدنيات للإمام محمد عبده.
نقل العلامة محمد رشيد رضا في تفسير المنار كلاما سمعه عن شيخه الإمام محمد عبده في الدروس التي كان يعقدها في جامع الأزهر في تفسير قول الله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
الأستاذ الإمام: طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها ; لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحنا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة، وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية، وبعدها، وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم: أن الإنسان يمكن أن يستغني بعقله، وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم: إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما، وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر. وهذا خطأ من الإنسان، ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين، وأنها هي
الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل. فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه، ومرقيا له بدون معونة الدين.
أقول: يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: أننا نرى كثيرا من أفراد الناس لا يدينون بدين وهم في درجة عالية من الأفكار، والآداب، وحسن الأعمال التي تنفعهم، وتنفع الناس، حتى إن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم، وارتقائهم.
وأجيب عن هذا (أولا) بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر، والقبائل، والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية سواء كانت بدوية، أو مدنية، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين، والكلدانيين، واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله - عز وجل - لهدايتها، فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها، كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع، أو على سبيل الظن. وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظا تاما إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دون في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالنصيرية، وسائر الباطنية، وغيرهم ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل، حتى إنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند، وكيفية الزواج، ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها! ! فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية ; لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي، وها نحن أولاء نقرأ في كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر (هربرت سبنسر) أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين وقائمة على أساسه، وأن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس
الدين، وبناءها على أساس العلم، والعقل، وأن الأمم التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية لا تعرف عاقبتها، ولا يحدد ضررها. هذا معنى كلامه في بعض كتبه. وقد قال هو للأستاذ الإمام في حديث له معه: إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنكليزية وضعفت في هذه السنين الأخيرة من حيث قوي فيها الطمع المادي. ونحن نعلم أن الأمة الإنكليزية من أشد أمم أوربا تمسكا بالدين مع كون مدنيتها أثبت، وتقدمها أعم ; لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل، والآداب، على أن المدنية الأوربية بعيدة عن روح الديانة المسيحية وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير، وإذا لبادت مدنيتهم سريعا. ومن يقل إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط، والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد: أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا كما تسوقه إلى سعادة الآخرة.
وثانيا: إنه لا يمكن الجزم بأن فلانا الملحد الذي يراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره حتى يقال: إنه قد استغنى في ذلك عن الدين، لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربي أولادها على الإلحاد، وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينا، واتباعا لآداب دينهم، وفضائله، ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشئوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان، وآرائه، ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته، وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال، ولو من الحرام كأكل حقوق الناس، والقمار بشرط أن يتقي ما يجعله حقيرا بين من يعيش معهم أو يلقيه في السجن، وكالعفة في الشهوات فيبيح له من الفواحش
ما لا يخل بالشرط المذكور آنفا. هذا إذا كان راقيا في أفكاره، وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث، والنسل إلا القوة القاهرة، ولولا أن دول أوربا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال، ولعمت بلادها الفوضى والاختلال، ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب، والأحكام، فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا

تعليقات

المشاركات الشائعة