{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}




{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
يقول الله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
يقول الإمام ناصح الدين أبو الفرج المعروف بابن الحنبلي المتوفى عام 634 هجرية:" {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يحتمل أن يكون المراد بالأحسن الأظهر من الأدلة" والاحتمال الآخر الذي وضعه هو كالاحتمال الأول تماما وهذا نصه "ويحتمل التعجيز عن الاتيان بمثل القرآن لأنه أحسن الأدلة نظاما وبيانا وأكملها حسنا وإحسانا وأرجحها من الثواب ميزانا، وأوضحها على اختلاف مدلولاتها كشفا وبرهان"
وبما أن قواعد تفسير القرآن الكريم تقول إن الأصل التأسيس لا التكرير، فمن التقليل من شأن هذه الآية الاستدلال بها على الجدال بالرفق رغم أن الرفق مأمور به عموما في آيات كثيرة من القرآن الكريم وفي ذات الآية نفسها {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}
إذن الآية تأمر بالجمع بين الجدل وبين الإتيان بأظهر الأدلة وأقربها، أي بين البعد والقرب، بين الغموض والظهور، لأن الجدل هو لف ودوران وسبح واستغراق في الأفكار في دقتها وبُعد علائقها، أي الجدل هو معرفة ما في بيوت الآخرين الفكرية بواسطة الحيل لا بواسطة الدخول من الباب فقط، ولكن بإضافة الحيل حتى يدخلها من أقصى شبابيكها، ثم أُمِر المجادل أن يأتي من يجادلهم أو من يشرح لهم الظواهر، من أظهر الأدلة وأقربها مع ذلك! أي من الأبواب، وهذا الجمع يستلزم من المجادل أن يستحضر في عقله كل من هذا القرب و ذاك البعد ليستطيع أن يبتعد حيث يشاء ويقترب حيث يشاء، وهذه هي أرقى درجة فكرية يصل إليها البشر، وقوة المفكر تقاس بقدرته على هذا الجمع، والوثاقة به مبنية على قدرته على هذا الجمع على ما فيه من دقة وبعد علائق الأفكار من عمق واختلاف، فمثلا الفلسفة الحديثة أدق من الفلسفة القديمة، ولذا فهو بحاجة لمراعاة هذا التغيير في الدقة، وهذا يتم له بقدرته على متابعة سلاسل الفكر بطولها وترابطها ودقتها ولا يذهل مع ذلك عن تحديد مواضع الأبواب لكي يظهر ويخرج منها وقتما يشاء، والحقيقة أن أي مفكر حقيقي ولو لم يجادل من يخالفه فهو مضطر لأن يمارس الجدل مع نفسه في معمله الخاص، وأي مفكر حقيقي يُعلِّم من يتبعه ويوافقه ممن يؤمن به كما قال الله {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي تسمعهم الحجج والبراهين، كالعلاقة مثلا بين المسلم المثقف والعامي وهو يقرأ لأحد علماء الإسلام اليوم ليتعلم منه أمر دينه وحياته، يجب أن يعلمه بالكتابة او الصوت أتيا له من الأبواب بعد أن قام هو بسبر أقصى شبابيك ذلك التعليم بينه وبينه نفسه، أعظم من جمع بين هذا القرب والبعد والظهور والغموض في عصرنا الحديث على مستوى "الإسلام المُصنَّع" هم المشايخ محمد عبده ورشيد رضا وعبد الحميد بن باديس ومحمد دراز، وأبرزهم هو محمد دراز لأنه تيسرت له الدراسة الأكاديمية لفكر أوروبا، وأبرز من جمع بين ذينك في عصرنا الحديث على مستوى "الإسلام الخام" هما الطاهر ابن عاشور وحاتم العوني.
خالد المرسي



تعليقات

المشاركات الشائعة