{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2)

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (2)
في تفسير الدكتور محمد دراز لقول الله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يقول :"أجل. إنه لأمر ما لم يقل القرآن: ونفسك فطهر. أرى ذلك –والله تعالى أعلم- لكي لا يقع في حسبان حاسب أن الله يريد أن يرهقنا عنتا لا طاقة لنا به، وأن يطالبنا بعمل في صميم الروح الذي هو من خاصة شأنه... وتلك كانت شبهة اليائسين والمتشائمين، الذين زعموا أنه لا حيلة لنا في تهذيب نفوسنا ولا أمل لنا في إصلاحها، لأنها من صنع الله الذي لا تبديل لخلقه... لقد التبس الأمر على القوم، فخلطوا بين حقيقة النفس وجوهرها، الذي لا سبيل لنا عليه، وبين ما يحيط بها من غلفها وحجبها وآثارها، وملا بساتها، التي وكل إلينا علاجها وتدبيرها... وتلك هي الثياب التي أمرنا الله تعالى بتنقيتها وتصفيتها، حيث يقول {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}"
السر الذي استنبطه الدكتور دراز هو بالنسبة إلى عدم إمكان تطهير وتغيير جوهر النفس بما جبلت عليه من جهالات، وهناك فائدة أخرى من تعبير الله ب "الثياب" هي بالنسبة إلى عدم القدرة على تغيير الصفات ذاتها التي أمرنا الله بتغييرها، من حيثية ما سيأتي بيانه.
الاستعارة بالثياب هو لأن الإنسان يرتدي الثياب نظيفة ثم تتسخ بحكم سيره في الحياة ثم يخلعها ويلبس غيرها نظيفة وهلم جرا، فلا يمكن أن يظل طيلة حياته بثياب واحدة نظيفة لا تتسخ ولا يضطر إلى خلعها وتغيييرها، سيقول قائل: تفسيرك هذا يتناقض مع مبدأ التقوى الإسلامي وهو أن التقوى والأخلاق المطلوبة من المسلم تحصيلها هي ليست مجرد أفعال وسلوكيات تقع صدفة بشكل عارض، ولكنها تلك التي تقع منه استجابة لمبدأ فكري وهيئة منه راسخة في النفس يلزم عنها صدور سلوكياته حال تعامله مع الناس كافة بلا فرق ما دامت حقا سلوكياته صادرة عن المبدأ الذي تحققت به نفسُه، لا أنها صادرة عن ظرف مختلف عارض أحاط بمن حسنت أخلاقُه تجاههم كظرف من الترغيب أو الترهيب الدنيوييين.
وهذا المبدأ لا يتنافى مع قول الدكتور دراز، إن جوهر النفس لا يتغير، لأن هذا المتقي بهذا المبدأ، لا ينجيه من ممانعة جوهر نفسه له في كل حين بل وعجزه عن ممارسة مبدأه أمام قوة هذه الممانعة في أحيان نادرة، ولكن هذا استثناء، ولكل قاعدة استثناء، لا ينقضها ولا ينفي تحققها ووجودها.
 أما أن يكون (إمكان ومشروعية) تخلي المتقي بهذا المبدأ الراسخ  وهيئته الراسخة في النفس لا ينافي تفسيري، فلأن هذا المبدأ يمكن تحققه في نفس الأمر والوجود الفعلي فقط،  لكن لا يمكن للمتقي أن يعرف أنه تحقق به وتمثَّله، وإلا لوقع في الأمن من مكر الله وهذا الأمن كبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك نص العلماء على أن "أمر  التقوى يخفي على المتقي نفسه" وهذا المبحث ككل مباحث الأخلاق، مباحث عزيزة المنال ودقيقة، ولما لم يفهمها البعض وقع في أوهام كثيرة تنكر إمكانية تحقق هذه الأحوال في النفس، فإذا قرأ الشخص عن علماء الصحابة أنهم كانوا يعلنون خوفهم من الله ألا يتقبل منهم الصالحات كما قال الله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} لأنهم لم يكونوا يرون أنفسهم متقين، ظن أن خوفهم هذا هو حيلة منهم من باب التخييل لئلا يقعوا في العجب، وأنه لا حقيقة لخوفهم ولكلماتهم التي عبرت عنه!! أعود فأقول لا تناقض بين المبدأ وتفسيري، وإن كان يمكن والمشروع، والواقع فعلاً كثيرا من العلماء والصالحين قديما وحديثا، ولكن لا يمكن للمتقي أن يعرف وقوعه منه لأن معرفة تمثُّله به منوطة بمواقف تجريبية (كما يسمى في العلم الاجتماعي بالعينة الضابطة) يحتاج لمواقف تكون محكًا ومعيارًا يعرف منها هل سلوكه في أمثال هذا الموقف قديما كان صادرا عن مبدأ أم لا؟ فلو كان صادرا عن مبدأ للزم صدور ذات السلوك في هذا الموقف الجديد (رغم اختلاف بعض الظروف المحيطة بهذا الموقف  وبين ظروف سوابقه مما تشبهه من المواقف) وشأن المواقف التجريبية ليس بيد الإنسان، إنما هي بيد خالق المواقف، كما أنه لو تيسرت لمتقي مواقف ما (وحقا تتيسر له الكثير) لخفيت دلالة الموقف عليه وسيحتاج إلى مواقف ضابطة كمحكات كل مرة، وأغلب ما يُتصَّور من ضعفاء المتقين هو تحسين الظن بأنفسهم وبربهم فقط، بالقدر الذي يمنعهم من مكر الله، كأن يخافوا من حسن الخاتمة لا من حالهم الآني الوقتي مثلا، أما أقوياء المتقين فالشأن عندهم أخطر وأدق من ذلك ويخفى في نظرهم حالهم الآني الوقتي لا مجرد خاتمة حياتهم فقط، فلا يلفتون إلى تحسن الظن بأنفسهم وبربهم ولا يتكلون على حسن الظن بربهم، بقدر ما يتكلون على رحمته بهم، وكأنهم عصاة أصلاً لا يرون في أعمالهم ما يوجب لهم الاتكال على حسن الظن بالله في رضاه عنهم، ولكن يطمعون في رضاه عنهم من جهة رحمته بهم لا أكثر، ولا شك في أن شأن هؤلاء الأتقياء حقيقي لا خيالي، وهو يحتاج إلى معرفة واسعة ودقيقة لأسرار الشرع والنفس والاجتماع، ولا تتيسر لدى الأكثرية.
خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة