تعليقاتي على كتاب "روح الدين" للدكتور طه عبد الرحمن(2)



تعليقاتي على كتاب "روح الدين" للدكتور طه عبد الرحمن(2)
يقول الدكتور ص 75:" الأصل في الأقوال الدينية أن تكون حمالة لوجوه، وذلك لأنها لم ترد بلغة تقنية يوضع فيها كل لفظ بإزاء معنى معجمي مخصوص، وكل جملة بإزاء معنى تركيبي محدد، وإنما وردت بلغة الجمهور، متوجهة بالخطاب إليه؛ ومعلوم أن الجمهور لا يفتأ يتوسع في الاستعمالات ويكثر من الدلالات، بحيث لا يؤمَن دخول اللبس والغموض والاضطراب على عباراته الطبيعية؛ وعليه، فلا يبعد أن يختلف الفاعلون الدينيون في فهم مدلولات الأقوال الدينية وتحديد سياقاتها الزمنية والمكانية اختلافا قد يبلغ حد دخول شبهة التعارض على بعضها"
تعليقي: الكلام كله اضطراب فلا أستطيع الامساك بمعنى محدد أوقن أن الدكتور يعتقد به لكي أرد عليه، ولكن سأبث فكري "رابطا إياه" كرد على بعض العبارات التي وردت في فقرته.
من يقصد بالجمهور؟ واضح أنه من كلامه في هامش الكتاب، يقصد بهم علماء الأصول إذ ضرب لكلامه في التوسع الدلالي مثالا كدليل عليه، بأحد الترتيبات التصورية التي وضعها علماء الأصول، ولا أظن هذا الترتيب يقول به علماء الأصول فلعل هذا فهمه لكلامهم، لكن إذا كان علماء الأصول هم المقصودين بالجمهور في كلامه فأين النخبة؟ من هم النخبة في التاريخ الإسلامي؟! نحتاج إلى جواب الدكتور.
قول الدكتور بنفي اللغة التقنية بشرحها الذي شرحه كلام خطأ، فمثلا في تفسير القرآن الكريم لا يجوز للمفسر أن يفسر الكلام قبل أن يعرف معاني المفردات، يقول أبو حامد الغزالي "فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط" ثم أفاض الإمام في التمثيل على ذلك في كلامه في "الوجه الثاني من البند الرابع في باب بعنوان في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل، من كتاب إحياء علوم الدين"
أما عن وجود المعاني التركيبية المحددة فهذا موجود في المصطلحات الشرعية كالكفر والإيمان والصلاة والزكاة والحج والوضوء ونحو ذلك.
وبخصوص كلام الدكتور عن التوسع الدلالي الذي يوصل إلى ذلك اللبس فهو كلام خطأ، لوجهين.
 كما أن نسبته الإسلام إلى لغة الجمهور لا اللغة التقنية تفريق خطأ تحكمي، والدليل من "الوجه الأول" أن العلماء أجمعوا على اعتماد الأقوال والاجتهادات التي لها محل من النظر الشرعي والاجتهاد المنضبط بمنهج علمي، وما عداها من أقوال وأنظار رموها وفسروا بها حديث النبي "إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ" رواه البخاري، وأضف إلى ذلك أن ذلك "القيل والقال" ليس من مقول قول العوام، ولكنه مقول قول قوم منتسبين إلى العلم والنخبة وهم "المقلدون" هؤلاء أجمع علماء الإسلام على عدم احترام أراءهم أو اعتبارها لو حكيت في كتب العلم في مسائل (الاجماع أوالخلاف) (راجع رسالة الإمام الشوكاني في القول السديد في مسائل الاجتهاد والتقليد)
 وكذلك قد يقع "القيل والقال" من الأئمة الكبار فيرد عليهم، إذا فعلماؤنا أجمعوا على ضبط ذلك التوسع التأويلي والازدحام التنظيري الصادر من المنسوبين الى العلم، ضبطوه وحددوه وحصروه ب "المنهج العلمي" مما يدل على أن تفريق الدكتور بين اللغة التقنية ولغة الجمهور ناسبا إلإسلام للغة الجمهور هو تفريق تحكمي خطأ.
 والوجه الثاني (وهو أخطر من الأول على خطورته أيضا) أقول: الدكتور طه جعل الثنائية المشهورة ب (النخبوية والشعبوية) أو (اللغة العلمية ولغة العوام) وهي ثنائية مشكلة تحدث تعارضًا بين طرفيها، جعلها أصلاً وحاكم بها الإسلام، وبيان ذلك أن تلك الثنائية موجودة قدم التفكير الانساني لأن المفكرين الإنسانيين كانوا يضعون القواعد الفكرية بعقولهم غير مهتدين بدين صحيح ثم إذا خاطبوا الجمهور بتلك القواعد الفكرية وجدوا شيئا من النفرة وعدم الانجذاب المرجو بينهما (نخبوية وشعبوية) بمعنى أن هؤلاء المفكرين لهم لغة علمية خاصة متأثرة بقواعدهم الفكرية لا ينجذب إليها جمهور المثقفين والعوام الانجذاب الكافي لإحداث توافق وانسجام بين الفريقين، فالدكتور طه تشبع بتلك الثنائية وكانت هي خلفيته وإطاره حيث تحدث عن اللغة الجماهيرية للإسلام (على اضطراب الكلام كما أشرت في صدر المقال) كما أن كان له إطار وخلفية أخرى مضافة، نص عليها مرتين بعبارة صريحة في أول مئة صفحة من الكتاب، وكان شرحه كله في تلك المئة مطبوعا بتلك الخلفية التي تقول إن الدين الأصل فيه العمل، وهي أيضا خلفية خاطئة إذ الأصل في الإسلام هو الفكر لا العمل، كما سأبين ذلك بعد قليل.
لا زلنا في "الوجه الثاني" للحديث عن الثنائية سابقة الذكر وموقف الإسلام منها، تلك الثنائة المتناقضة وقعت لأن فكر المفكرين الوضعيين غير متناسب مع عالم الفكر الحقيقي والعقل البشري الذي خلقه الله في كونه، أما الإسلام أو الله تعالى فقد أتى إلينا بفكر عام هو الوحي المطهر ومنهج تعامل السلف معه، وذلك ملائم لإنتاج الفكر وتحصيل المعرفة الحقيقية التي خلقها الله في كونه، فلو نشأ مفكرون فهموا عن الله ذلك الفكر العام واستخدموه في تحصيل المعرفة لتقلصت تلك الثنائية المتناقضة في حق هؤلاء المفكرين حين يخاطبون الجمهور تقلصا إلى أدنى حدوده الممكنة، وكذلك أنبه إلى أن الإسلام أتي بفكر علمي أي الله تعالى أتى بقواعد فكرية أنشأها هو على علم بها ومعلوم أن ما يُسمى ب "اللغة التقنية أو اللغة العلمية" إنما هي مرادة ومطلوبة من العلماء لكونها وسيلة  إلى تجميع الأفكار والمعاني لا لأن اللغة مطلوبة لذاتها، فهذا تخصص علماء اللغات! والخلل الكبير حين يجمد المنسوبون إلى العلوم المعنوية كالعلم الانساني والشرعي، يجمدون على اللغة رغم كونها فارغة من معنى أو تشتمل على معنى غير صادق علميا، وقد بث الشكوى من ذلك الجمود علماء سلفنا ومفكرو النهضة الأوروبية الحديثة ك"إميل دور كايم" و"مادلين غاوريتز" وفي ذلك الرابط إشارة عامة حول ذلك الخلط وتلك الشكوى
 http://elmorsykhalid.blogspot.com.eg/2016/02/blog-post_24.html
فالإسلام أتى بالمعانى والفكر ثم اجتهد علماؤنا في وضع لغة تقنية أو لغة علمية تحصر تلك المعاني بعد ذلك كما واضح في كتب العلوم الشرعية الأمهات، فمن أين أتى هؤلاء العلماء بتلك اللغة التقنية إذا لم يشتمل الإسلام عليها؟!! نريد جوابا من الدكتور.
إذا فعلينا أن نكتشف الإسلام كمعنى وكفكر لأنه أتى بهما بلغة عربية مشتركة بينه وبين الجمهور، لا، لأن دين الإسلام الأصل فيه العمل لا الفكر؛ لكن لأن تلك الثنائية سابقة الذكر تقلصت إلى أدنى حدودها بسبب خصوصية القواعد الفكرية التي أنزلها الله ولتناسقها مع المعرفة المحصَّلة بسببها والتي يخاطَب بها الجمهور الذي عقله وفطرته هو الآخر مخلوق لله ومُعدّ للانسجام مع المعرفة التي يحصلها المفكر الإسلامي النخبوي الحقيقي.
أما عن الخلفية الأخرى الخاطئة التي تشبع بها الدكتور، فأقول إن الإسلام أصله فكر لا عمل، ولذلك أجمع علماء الإسلام على أن أفضل مقام بعد النبوة هو مقام العلماء، وأجمعوا على تقديم طلب العلم على نوافل العبادات، وأبو حامد الغزالي في موسوعته  الأخلاقية "إحياء علوم الدين" لا يزال يكرر القول على أن مراتب الهداية مرتبة مرتبة تبدأ بالتذكر ثم الفكر ثم الحال ثم العمل، ثم يعود العمل على الفكر بالصقل والتأكيد، فالفكر هو الوسيلة وهو المراد من العمل، ويكرر أن الله إنما يريد من العباد قلوبَهم، ولذلك كان سبب أفضلية أبو بكر الصديق على من دونه هو الفكر لا العمل كما جاء في الأثر "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره"
 وقال ابن مسعود "اليقين الإيمان كله" ويستحيل أن يريد ابن مسعود باليقين تلك العقائد الاسلامية المجمع عليها حين يعتقد بها اعتقاد تقليدي، لكنه يريدها حين يستخدمها العقل البشري في تحصيل المعرفة النسبية ويقول ابن تيمية :"إن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يُعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف، وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا".
خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة