كلمة مفيدة جدا عن الدكتور محمد دراز بقلم منصور الأحمد.


كلمة كلها فوائد ودرر لطلاب العلم بقلم الأستاذ منصور الأحمد - ولأول مرة أسمع عنه ولا أدري أحي هو الآن أم لا - .
نص الكلمة:    
 أما الكاتب ، فهو الدكتور محمد عبد الله دراز ، رحمه الله ، وهو عالم غني
عن التعريف ، من حملة لواء الثقافة الإسلامية المعاصرة .  
      وفي حياة هذا العالم مواطن للعبرة ، يحسن بنا أن نقف عندها ونقدمها للشباب
المسلم في كل مكان .
      فأول ما يفجؤك في هذه الشخصية هذا التزاوج الفذ ، والتلاقح الغني بين
ثقافتين متباينتين ، عادت نتيجته بالخير العميم على الثقافة الإسلامية .
      وفي مجال الصراع الفكري والثقافي الذى خاضه المسلمون في العصر
الحديث ، وجدنا ألواناً متعددة من التأثر .
      _ فهناك طائفة خضعت خضوعاً كاملاً وذليلاً للثقافات الغازية .
      - وطائفة شعرت بشراسة الهجمة الفكرية ووطأتها ، فاستعصمت بخطط
دفاعية ، إن نفعت في رد عادية الغازي الواغل (الذي يدخل في القوم وليس منهم)
مؤقتاً ، فهي لن تنفع أمام فكر لا يزال يستخدم كل أساليب الحيلة والمكر ، وينصب
كل أحابيل الشيطان الكرة بعد الكرة ليستأنف هجومه عوداً على بدء .
      - وطائفة ثالثة أغمضت عيونها ، وأصمت آذانها عن كل ما هو غريب عن
الإسلام والمسلمين ، متجاهلة أن هذه الأرض يعيش عليها المؤمن  والكافر ،  
ويتجاور فيها البر والفاجر ، وأنها -بفضل المكتشفات العلمية الحديثة ، والسرعة
الخيالية التي تطورت فيها وسائل الاتصال- قد ضاقت رقعتها ، وتضامَّت أطرافها ،
فكان من شأن هذه الطائفة - مع توفر النيات الطيبة- أن عزلت نفسها في عالم
خاص اصطنعته لنفسها ، ورضيه لها من يفرضون على أمتنا فكرهم وطريقة
حياتهم ، فصار يُنظر إلى هذه الفئة نظرة منكرة ، وكأنها خارجة للتوِّ من تحت
أطباق القرون ، مع أنها تعيش في هذا العصر ، ولكن بجسمها ، بينما فكرها ملتفت
إلى الوراء فحسب ، وقد خلقه الله ليلتفت إلى الجهات الست .
      - وهناك طائفة رابعة ، تشبعت بالثقافة الإسلامية الأصيلة ، ولم يشفها ذلك ،
حيث رأت نفسها تعيش في عالم تمور فيه الأفكار من كل لون ، والثقافة التي
تشبعت بها قد زوحمت وحوصرت وأُقصيت من مجالاتها الحيوية ، فلم يفتَّ ذلك في
عضدها ، بل رأت أن الأمر جد ، وأنه لابد من معرفة كنه هذه الثقافة الغازية ،
ولابد من سبر غورها ، وذلك لا يكون إلا بأخذ العدة لها ، وخوض غمارها ، فأقبلوا
على ذلك ، غير مدخرين جهداً ، بنفوس واثقة لا تعيقها عن غايتها عقدة نقص ، ولا
يفتنها عن دينها بهرج الحضارة الغربية .
      ومن هذه الفئة الأخيرة مؤلف هذا الكتاب محمد عبد الله دراز ، فبعد أن حاز
أعلى الدرجات العلمية من الأزهر سافر إلى فرنسا ، فقضى هناك حوالي أحد عشر
عاماً درس فيها مناهج البحث عند الغربيين ، حتى هضمها وتَمَثَّلها أحسن تمثُّل ،
وليس هذا القول من قبيل الدعاوى العريضة ، فنظرة إلى ما ترك من آثار علمية
تجعلنا نستيقن ذلك .
      وإن ما يستوقف النظر في شخصية هذا العالم أنه حينما يتناول ثقافة الغرب
تراه ناظراً إليها من عَلٍ ، مشرفاً عليها من قمة الفكر الإسلامي ، واضعاً لها في
الموضع الذي يجب أن تكون فيه ، ثقافةً أرضيةً مبتوتةَ الصلة عن وحي السماء ،
قامت على مبادئ الهيمنة ، وبلغت أشدها في ظل الظلم والغرور ، قصارى أهلها
والمفتونين بها أنهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ     
[ الروم : 7] .
      والثقافة (الموسوعية) لهذا الرجل تغري الإنسان أن يلتفت حوله في أرجاء  
العالم الإسلامي ليرى كثيراً من علماء المسلمين من يقف نفسه على كتب سلفنا
الصالح - ونعمت - لا يغادرها إلى غيرها ، وينقضي عمره بالبحث عن دقائق 
 ما اختلفوا فيه من المشكلات ، لا ليستخلص من ذلك منهجاً يعالج به مشكلات   الحاضر ، بل ليقنع نفسه ومن حوله بأن العلم هو هذا ، وأن ما وراءه لا يعدل   شيئاً .
      نعم ، إن هذا من العلم ، ولكن بمقدار أن لا يشغلنا الماضي عن الحاضر    
وبمقدار ما يفيدنا في حل المعضلات التي تأخذ منا بالنواصي والأقدام ، وبمقدار ما
نتسلح منه بما نناضل به في ساحة صراع شرس ، وحرب معلنة شُنت علينا
مستهدفة عقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ووجودنا كله ، وأي بقاء لأمة تذوب في غيرها ؟ ! .  
      ومن أعجب العجب أنك تجد العالم في علم النحو والبلاغة والتفسير والفقه
والحديث لا يشق له غبار ، إلا أنه قد يجهل أين تقع قدمه من خريطة العالم ، ومن
الذى يتحكم بمصيره ومصير أمته ومن يتصرف بالنيابة عنه في أخص  
خصوصياته ، بل قد يجهل من الذى ضيّق مجال علمه ، وأبعده من واقع الحياة ،    حتى جعله مقصوراً على حلقات بحث - إن وجدت - أشبه بمراجعة آثار بائدة ،   ومن أعجب العجب كذلك من تراه يريد تطبيق ما فعله رسول الله - صلى الله عليه   وسلم - مع وفد نصارى نجران على الغرب الصليبي وعلى أمريكا ! .
      إنه قد يكون استظهر حادثة وفادة وفد نصارى نجران على الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وقارن بين الروايات ، ووازن بين أقوال العلماء فيها ورجَّحَ ..
ولكنه يجهل حال الغرب الصليبي العقائدية ، ولا يعرف عن التطورات التي انتابت
المسيحية عبر تاريخها ، لا من حيث بدايات التأثير الوثني ، ولا من حيث تلاعب
الأهواء البشرية ، بل وتلاعب اليهود بها حتى وقتنا الحاضر ، فأين حال من حال ،
وأين نصارى من نصارى ؟ ! .
      وهذا مثال ضربته لأشير من خلاله إلى أن تغيير حال المسلمين لا يكون إلا
بحسن فهم لثقافتهم ، واعتزاز عميق بها مع معرفة عميقة ونظر وتحليل للظروف
الداخلية والخارجية التي تؤثر فيهم ، أو يمكن أن تؤثر فيهم في المستقبل القريب أو
البعيد .
من مقال بعنوان" النبأ العظيم ، نظرات جديدة في القرآن" عرضه الأستاذ منصور الأحمد في مجلة البيان عدد ربيع الآخر عام 1407 من الهجرة، ديسمبر عام 1986 م

تعليقات

المشاركات الشائعة