الدكتور محمد دراز يتحدث عن إصلاحات الشيخ محمد عبده



الدكتور محمد دراز يتحدث عن إصلاحات الشيخ محمد عبده:
(هذه محاضرة ألقيت في حفلة إحياء ذكرى المرحوم الشيخ محمد عبده في الاسكندرية في 17/8/1922م. يتحدث فيها الشيخ العلامة محمد دراز على إصلاحات الشيخ محمد عبده) وتكرمت بنقلها لنا من كتاب " دراسات إسلامية"الباحثة المغربية " جميلة حسن تِلوت" جزاها الله خيرا.
نص المحاضرة:
لقد اجتمعنا في هذه الليلة التاريخية لإحياء ذكرى المرحوم الشيخ محمد عبده الذي كان علما من أعلام الفضل وكوكبا من كواكب الهداية.
اجتمعنا لغرض شريف ومقصد حميد. فإن ذكرى محاسن العظماء والإشادة بفضلهم وعرض صحائف تاريخهم المجيد على أنظار الأمة تعود فائدتها في الحقيقة إلى الأحياء. تبعث فيهم الداعية إلى ترسم آثارهم وتحفز هممهم إلى حسن القدوة بهم. ولذلك ورد في الحديث الشريف (اذكروا محاسن موتاكم) ونحن في زماننا هذا أحوج ما نكون إلى التذكير بمكارم الأخلاق وبعث الهمم إلى التمسك بها.
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فنعمت الفكرة (فكرة إحياء ذكر المرحوم) ونعما الداعون إليها.
لقد عهد إلي أن أتكلم في أدوار حياة الأستاذ الإمام على دور إصلاحه للتعليم الديني بالجامعة الإسلامية (الأزهر الشريف) وقبل الخوض في شرح تفاصيل تلك الإصلاحات التي قام بها أذكر لحضراتكم كيف توفرت للمرحوم الشروط التي أهلته لزعامة الإصلاح.
المرحوم الشيخ محمد عبده من أولئكم الرجال العظام الذي صفت نفوسهم فاتصلت بأوج الفضيلة وأشرقت بصيرتهم فتكشفت لهم أسرار الحياة الصحيحة النبيلة.
ليست الحياة في عقيدة هؤلاء العظماء هي إنفاق العمر في جمع الحطام واستعمال أنواع الحيل للوصول إلى الترف والبذخ. وتمتيع الجسم بملذات تنقضي بمجرد حصولها. وإنما الحياة عمل يدوم أثره ويعظم خطره بإسعاد المرء وكل من يمت إليه.
كذلك كانت حياة الأستاذ وكذلك كان استعداده ومع هذه الفطرة السليمة أتاح الله له تربية أهلته لأن يلج أبواب العمل لإسعاد أمته فتعلم علوم الدين والفلسفة واللغة العربية بالأزهر الشريف الذي كان لمصر والعالم الإسلام مشرق المعارف ومنار الهداية منذ ألف سنة.
نبغ في الأزهر نبوغا بذ الأذكياء. وكان السابق في حلبة النجباء ثم اتصال بالمرحوم جمال الدين العالم الديني السياسي. فاستكمل به من صنوف العرفان والوقوف على سياسة الأمم في هذا الزمان ما جعله كلِفا بمصالح أمته. والعمل لإصلاح أهل ملته. ثم جد من الحوادث ما زاده علما وفضلا وإعدادا للجهاد في سبيل إنهاض الأمة المصرية حيث نزح عنها منفيا إلى بلاد الشام فأفاد بعلمه واستفاد من اللغات الأجنبية ما زاده اطلاعا وتبصرا في أحوال الأمم وأسباب صعودها وهبوطها. فقارن بين ما وصل إليه المسلمون وما كان عليه أسلافهم الراشدون. فأيقن أن هذا الذهول الذي اعترى المسلمين بعد النضرى والخمول الذي ضرب عليهم بعد الشهرة أن كانت له أسباب جمة فجماعها نقص في التعليم وانحراف عن مبادئ الدين والله تعالى يقول: ''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم''.
لذلك تشبعت نفس الأستاذ وامتلأت إحساساته حتى أن من يقرأ مقالاته الممتعة في جريدة العروة الوثقى وتحليله أحوال الأمم الإسلامية وتشخيصه أمراضها ووصفه أدويتها يرى ما كان يبدو عليه من قرب اقتحامه للمخاطر ومصارعته للشدائد في سبيل إنقاد أهل ملته وأنه يستعد عن كثب للوثوب إلى صيحة شديدة تنبه الغافل وتوقظ النائم.
لقد جاءت الفرصة أيها السادة وهو على أتم ما يكون علما بالدين واضطلاعا بأحوال الأمم ووفورا في الصحة فصرح له بالعودة إلى بلاده العزيزة (مصر) وسرعان ما ألقى بأشعة بصره على الحالة الاجتماعية في البلاد. فوجد المعلمين للأمة على نوعين. معلمي مدارس الحكومة يعملون على مناهج مصبوغة بصبغة علمية محضة لا تمس غلاف القلوب ولا تتصل بالروحيات ولا تتعرض للأخلاق فلم يجد في معاهدها مطلوبه لأنه كان يعتقد ويقرر دائما مبدءا هو (أن أنفس المصريين قد أشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعا لها. فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرا غير صالح للتربة التي أودعه فيها فلا تنبت ويضيع تعبه ويخفق في سعيه) فوجه نظره إلى الكلية الإسلامية (الأزهر الشريف) فوجده غير قادر على النهوض بهذا الواجب ورأى أنه لم يعد للمتعلمين فيه تلك المكانة التاريخية والهيمنة على نفوس الأمم الإسلامية وذلك لأسباب ترجع إلى مناهج التعليم وسياسته.
تشخيصه لأمراض التعليم في الأزهر:
وجد أن مشيخة الأزهر لا تعرف الطالب إلا يومين يوم يقدم لها طلب الالتحاق بها. ثم يوم امتحان العالمية الذي يكون للمجد بعد عقد ونصف من السنين على الأقل وفيما بين ذلك أين هذا الطالب وعلى من يتلقى الدروس وبأي علم يشتغل، وأي كتاب يدرس، كل هذا موكول للمصادفات وحظ الطالب ومقدار رغبته في العلم لا غير..
كذلك الحال بالنسبة للمدرسين، يقرأ كل منهم ما ترتاح إليه نفسه من العلوم وما يختاره من الكتب ويسير فيها حسبما يرشده رأيه حتى أدى ذلك إلى أن كثيرا من العلوم المهمة أهمل أو كاد. والكتب المشتملة على لباب العلوم اندرست. وتعلق المدرسون بكتب زيد عليها من حواشي المتأخرين وتقاريرهم ومباحثهم اللفظية النابية عن مقاصد العلوم ما أبعد جمهور الطلبة عن تذوق روح العلم فتعلقوا من العلوم بقشور لا غناء بها واقتصر أكثرهم على بعض العلوم العربية والدينية وتركوا من العلوم الرياضية والكونية ما جعلهم بمعزل عن الأمة لا يعرفون من الشؤون العصرية والروابط الاجتماعية ما يؤهلهم للتفاهم معها فضلا عن السيطرة الروحية على نفوسها. أضف إلى ذلك كله سوء الحالة الإدارية والحالة الصحية وعدم وجود مكتبة جامعة ولا مالية منظمة ولقد سرى هذا الضعف من الأزهر إلى سائر المعاهد التي بالأقاليم كمعهد طانطا والاسكندرية وغيرهما. وهنالك تحقق أن صلاح الأمة في أخلاقها ومقوماتها الجوهرية لا يكون إلا بإصلاح الأزهر. وهنا موضع العقدة ومحل التفكير العميق ومحك الشجاعة والإقدام.
ليس الأزهر عبارة عن بنيان يصلح إصلاحا هندسيا بفتح بعض منافذ للهواء والنور أو رفع السقف أو إبدال الميضأة بحنفيات أو ما شاكل ذلك ولكن الذي يحاول إصلاحه إنما يحاول تغيير عادات استحكمت في النفوس واشتبهت بالغرائز وانصبغت بما يشبه الدين وتداولها خلف عن سلف حقبة من الزمان حتى صارت كأنها من السنن الدينية فمن يجرؤ على استنكار شيء منها وطلب تعديلها عد في عداد المبتدعين ودخل في زمرة المحلدين واستحق اللعنة من الناس أجمعين إلى يوم الدين. فإذا صاح الأزهريون بهذا قامت ضجة العامة من ورائهم وكثر شغبهم مما قد يؤدي إلى إيقاظ الفتنة فلا يكون طالب الإصلاح قد أفاد الأمة ولا هو تركها من تسليط عوامل الشر والتفريق كما قال الأستاذ في بعض كتبه (أن الإنسان إذا ما أخذ مأخذ المصلحين واستقام على طريقتهم فلا يكاد يخطو بضع خطوات حتى تتعثر أقدامه في أياد مقطعة ورؤوس مجذوذة وأشلاء مبددة وشعور منثورة وصدور مدقوقة ويشهد الطريق مضرسة بقبور الشهداء من طلاب الحق والناهجين في منهاجه ولا محيص عن سلوكها فتبدو له غابات وأدغال يرجع إليه منها صدى زئير الآساد وزمجرة الضراغم وهكذا تتكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات. مصاولة المخاطر أدناها والموت الشريف أقصاها وأعلاها).
من هذا نعرف الموقف الذي كان فيه المرحوم يجيش صدره لعلاج أمراض أمته وإصلاحها ولكنه تتمثل أمامه تلك المخاطر المهلكة وشتان بين موقف الجندي في صفوف الحرب ساعات وأياما معدودات فإما فوز وإما موت معجل وراحة أبدية وبين المصلحين أمثال المرحوم بإزاء الآلام التي يستهدفون لها ليل نهار طول حياتهم. لكن شيئا من ذلك لم يثن عزيمته لأنه كان لا يعرف اليأس ولم يظفر الجبن بمنفذ إلى قلبه الكبير ولطالما شرح واستشهد بقوله تعالى: ''إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
إصلاحاته:
تقدم إلى العمل بجنان ثابت وعزيمة صادقة فوضع كأساس للإصلاح جملة مشاريع نافعة لتكون علاجا للأمراض التي سبقت الإشارة إليها نذكر من أهمها عشرة مشاريع:
أولا: إحياء العلوم التي أهملت كالحساب والجبر والهندسة وتقويم البلدان والتاريخ والفلك والخط والإملاء والإنشاء وغيرها. قرر إعادة تدريس هذه العلوم بالأزهر بعد أن غابت عنه دهرا طويلا وعين لتعليمها العدد الكافي من المدرسين الأخصاء بالمرتبات المناسبة ومفتشا خاصا بها. وكان هذا المشروع من المشاريع التي صادفت الاستنكار والتشنيع والمعارضة مدة طويلة ثم لم يلبث أن نفذ وجاء بنتائج باهرة بسرعة مدهشة حتى لقد وضعت مسابقات للتوظف في تلك العلوم فبرز فيها الأزهريون على خريجي المدارس وفازوا بالوظائف ولم تمض السنوات الأربع الأولى على العمل حتى تخرج من علماء الأزهر من شغلوا الوظائف التي كان فيها أساتذتهم.
ثانيا: تقوية العلوم التي ضعفت كعلوم التوحيد والمنطق والحديث والأخلاق فانتخب لتعليمها أربعة وعشرين عالما ممن يعترف بفضلهم ومنحوا علاوة على مرتباتهم وكان يستدعيهم من وقت لآخر يتذاكر معهم في طريق العمل وتحسينه فظهرت فوائد ذلك في الامتحانات.
ثالثا: اختيار الكتب القيمة التي وضعها المتقدمون في لباب العلوم الخالية من القشور ولقد كان له في هذا الشأن وقفات لقي فيها مصادمات ومشادات من بعض كبار الشيوخ الذين جمدوا على كتب المتأخرين وكانوا يخشون من التقصير في واجبهم إذا تركوا هذه الكتب وكلفوا بكتب لم يطلعوا عليها مع أنها أقرب إلى التناول وأبعد عن التعقيد مما ألفوه. ولكن الناس أعداء لما جهلوا. وكثير منهم الحاقد والمعاصر المعاند فكانوا وإياه على حد قول المتنبي:
تفرقهم وإياه السجايا    ويجمعهم وإياه النجار
وبعد طول الأخذ والرد ظفر باستصدار أمر عال بقانون يحظر إضاعة الوقت في الحواشي والتقارير وحمل مشيخة الأزهر على إصدار قرارات لتعيين الكتب وتحديد مواعيد لدراستها بعد أن كان ذلك بمحض إرادتها المدرسين.
رابعا: قيامه بتدريس العلوم المهمة كالتفسير والمنطق والتوحيد والبلاغة.
ولأجل أن يكون لإرشاداته في إصلاح التعليم قيمتها ولعلومه الواسعة ما يليق بها من الانتشار وعموم النفع رأى من الواجب وقد وهب لسانا فصيحا وحجة صادقة أن يقرن القول بالعمل ويجلس في الأزهر لتدريس بعض العلوم المهمة فضرب بذلك المثل العالية في طرائق التعليم المثمر وأفاد الجماهير من الناس على اختلاف طبقاتهم لا سيما في دروس التفسير الذي داوم عليه جملة سنوات يجتمع عليه ما لا يحصى عددا من علماء الأزهر وطلابه وكبار الموظفين وأهل الفضل المولعين بالاغتراف من معينه العذب. والناظر في كتب المفسرين يراها قد اختلفت مشاربها فمفسر بالمنقول ومفسر بالمعقول ومتعلق بأوجه الإعراب وناظر في وجوه الأحكام وباحث عن أسرار البلاغة ومولع بالتواريخ والقصص إلخ..ولكنها بالإجمال بعيدة في صبغتها عن الروح السارية في تفسير الأستاذ الإمام. فكم فيها من شتيت الأقوال ومختلف الاحتمالات والاعتراضات وقلما تجد في تفسير المرحوم ترديدا بين احتمالين أو اختلافا على قولين بل كان بما رزق من نافذ البصيرة وصحيح الطبع وسليم الذوق في أساليب اللغة العربية يلتقط من جواهر المعاني أقربها إلى روح الكتاب الكريم وأسلوب العرب والعقل السليم ضاربا صفحا عما عداه ثم لا يزال يعمل بفصيح لسانه وقوي بيانه في إبراز أسرار الآيات حتى تنفرج الصدور وتستنير القلوب وتمتلئ النفوس روعة والأبدان مهابة وخشية.
وأول ما يتعلق بالخاطر عند مطالعة أو سماع تفسير الأستاذ الإمام نزعة اجتماعية أخلاقية لم تعهد في سالف التفاسير فقد كان حريصا عند كل مناسبة على شرح سنن الكون والآيات التي في الأنفس والآفاق وتطبيق أحوال الأمم وقواعد الاجتماع على إرشادات القرءان الكريم وبيان مناط العبرة منها لأمته وتوجيه الأنظار إلى المثل الأعلى في الدين من الإخلاص لله وتمجيده والتزام حدوده والحث على مكارم الأخلاق ومحاربة البدع والرذائل. كل ذلك بأسلوبه مؤثر صادر من صميم القلب نافذ إلى أعماق القلوب وهكذا كان في درسه واعظا مرشدا ومعلما مفسرا في آن واحد.
خامسا: امتحانات سابقة : لما رأى ما كان يعترض الطلاب في امتحان العالمية من الدهشة والارتباك لعدم تمرنهم على مواقف الامتحانات فرض في نهاية كل عام امتحانا في جميع العلوم ورتب للسابقين فيه مكافآت مالية وأدبية وكان على كثرة أعماله يباشر هذه الامتحانات بنفسه ثم يقيم احتفالا يجمع ألوف الطلاب وعلماء الأزهر ويخطب فيه شارحا نتائج الامتحانات ذاكرا نوابغ الطلاب بما يزيدهم نشاطا ثم يوزع عليهم مكافآت مالية ذات قيمة فقد وصلت مكافأة طالب إلى عشرة جنيهات. فخاطبه المرحوم معجبا بحسن إجابته قائلا (إني سررت جدا من بيانك وإني لم أعقب ولدا وما كنت أرجو أن يكون لي ولد إلا لمثل موقفك هذا ولكن بك وبأمثالك قرت عيني) فأجابه الطالب (إنك يا مولاي أكثر الناس عقبا وذرية نافعة فهؤلاء الآلاف من طلاب العلم ليسوا إلا بعضا من أبنائك البررة).
سادسا: فك قيود امتحان العالميات: اعتاد رؤساء الأزهر في امتحان العالمية عدم الإذن بالامتحان لأكثر من ستة أشخاص في العام من بين مئات الطالبين فكان ذلك من أسباب خمود هممهم وتسرب اليأس إلى نفوسهم فقنع الكثير منهم بدرجة محدودة في العلم، وبعد فإما أقاموا على كسل وإما سافروا إلى بلادهم ليشتغلوا بما ينفعهم فعني بوضع قانون التعليم الشامل لبيان العلوم، مقاصدها ووسائلها وطريقة امتحان العالمية وأن يكون لكل مستعد. فكان متوسط الذين  يدخلون الامتحان نحو مائة في كل عام ربما نجح نصفهم.
سابعا: إنشاء المكتبة الأزهرية: من أهم وسائل التعليم سهولة الحصول على الكتب. نظر فيها المرحوم نظرة عناية فوجد الحالة مؤلمة. وجد الكتب التي أرصدها أهل الخير على الأزهر قد مزقت شر ممزق والبقية الباقية منها مشتتة في الأروقة والمساجد الأخرى مخلوطة الأجزاء أكلتها الأرضية وأبلاها الإهمال فسعى حتى صدر الأمر بالمال اللازم واختار أحسن مكان في الأزهر ليكون مكتبة لائقة بفخامته فجمعت الكتب بعد تفرقها ورتبها العمال واستخرجوا منها نفائس المؤلفات ورتب النساخين لاستكمال بعض ما فقد وعين مبلغا سنويا للاستزادة من الكتب وحرك عاطفة الموسرين فأهدوا المكتبة بكتب كثيرة قيمة ولم يمض زمن حتى امتلأت هذه الدار الفسيحة بذخائر الكتب في سائر العلوم ولما لم تعد تسع أكثر مما فيها أضيف إليها دار أخرى في الأزهر فامتلأت أيضا حتى أصبحت المكتبة الأزهرية تعد المكتبة الثانية في مصر. ولا يخفى ما في هذا العمل الجليل من تأسيس ركن عظيم من أركان النهضة العلمية.
ثامنا: إصلاح الحالة الإدارية: كان شيخ الأزهر ينظر في الأعمال التي ترفع إليه في منزله وليس له في الأزهر مكان يجلس فيه وأكثر الأعمال بيد كاتب واحد فسعى لإنشاء الأبنية الضخمة بالجانب الشمالي من الأزهر فكان منها مكان فسيح للإدارة ومساكن صحية للطلبة. ووظف بالإدارة جملة من الكتاب تحت إشراف رئيس لهم وصار شيخ الأزهر يحضر للإدارة كل يوم في مواعيد مضبوطة فأنجزت الأعمال في أوقاتها وشعر العلماء والطلاب برقابة عليهم فزاد جدهم ونشاطهم وكانت مرتبات الأزهر الضئيلة (أربعة آلاف جنيه في العام) مبعثرة لا ضابط لها ولا قاعدة لصرفها وكانت تتبع الشفاعات لا الأعمال والكفاءات فسعى حتى تمكن من جعلها تزيد على عشرة آلاف في أول الإصلاح وأخذ وعدا بإجابة طلباته المادية متى ظهرت ثمرة أعماله. فوضع نظام الأمور المالية واستصدر به أمرا عاليا وجعل تقرير الاستحقاق من حق مجلس الإدارة. فاطمأن الطلاب والعلماء وأقبلوا على شؤونهم.
تاسعا: إصلاح الحالة الصحية: كانت الأمور الصحية في الأزهر مهملة إهمالا تاما فالخدم المنظفون قليلون والاستضاءة بمصابيح الزيت القليلة المبعثرة في فجاج الأزهر والمياه المستعملة في الطهارات قليلة ملحة راكدة، ولا طبيب يعود المرضى ولا مراقب على نظافة الأزهر فكان من أعماله السريعة زيادة الخدم للنظافة وتعيين طبيب يراقب الشؤون الصحية ويعود الطلبة في كل يوم في مكان خاص به ما يلزم من الإدارة وأدخل نور الغاز بدرجة كافية للمطالعة الليلية فكان هذا المشروع والذي قبله من الإصلاحات المحسة الملموسة التي تدهش من تغييب عن الأزهر بضع سنين ثم عاد إليه.
عاشرا: التوسع في التعليم بإصلاح بعض المعاهد وإنشاء بعض آخر: ظهرت ثمرات الإصلاح في الأزهر فاشتغل رحمه الله بإصلاح معاهد طنطا ودسوق ودمياط على طريقة الأزهر ووجه رغبة ولاة الأمور إلى إنشاء معهد الإسكندرية الحالي فأسس على نمط جديد وجعل التعليم فيه على أقسام ثلاثة: أولى وثانوي وعال. لكل قسم منها علوم مخصوصة وامتحانات سنوية للنقل والشهادات. فكانت هذه كبيرة مفيدة وبذرا صالحا أينعت ثماره بعد عهد المرحوم فتوجهت رغبة ولاة الأمور إلى تعميم نظام معهد الإسكندرية في الأزهر وسائر المعاهد القديمة. كما توجهت رغبتهم الشريفة إلى الاستزادة من المعاهد فأنشئ معهد أسيوط منذ أعوام وتقرر في هذا العام إنشاء معهد آخر كبير في مديرية الشرقية.
       وبالجملة فقد أجهد نفسه في إصلاح التعليم الديني وتقويم الأخلاق مبتغيا بذلك إصلاح أمته وضحى بصحته وراحته في مرضاة ضميره وربه. وكم لاقى في جهاده من المتاعب والآلام خصوصا من أقرب الناس إليه وأولاهم بالعطف عليه حتى لقي الله على خير ما يلقاه عبد نصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
       فعليه من الله الرحمة والرضوان. وسلام عليه في العلماء العاملين، وسلام عليه في المصلحين الفائزين. وسلام عليه حتى نلقاه في جوار ربه.

تعليقات

المشاركات الشائعة