ما سبب غلظة وقسوة قلوب الرواد الاسلاميين المعاصرين؟ (1)



ما سبب غلظة وقسوة قلوب الرواد الاسلاميين المعاصرين؟ (1)
يجيب عن هذا السؤال الإمام المحاسبي في هذا النص ثم أعقبه بتعليقي، يقول:" وَقَالَ لي قد علمت من أَيْن غَلطت، أَحْسَنت الظَّن بِنَفْسِك فتاقت الى دَرَجَات الْمُحْسِنِينَ بِخِلَاف سيرتهم، من غير إِنْكَار مِنْك عَلَيْهَا لمساويء أعمالا وَلَا دفع لما ادَّعَتْهُ من اعمال الصَّادِقين،
وأسأت الظَّن بغيرك فانزلتهم فِي دَرَجَة المسيئين إغفالا مِنْك لشأنك وتفرغت للنَّظَر فِي عُيُوب غَيْرك.
فَلَمَّا كَانَ ذَلِك مِنْك كَذَلِك عوقبت بِأَن غارت (أي زالت) عُيُون الرأفة وَالرَّحْمَة من قَلْبك وانفجرت إِلَيْهِ أَنهَار الغلظة وَالْقَسْوَة فَأَحْبَبْت أَن تنظر الى النَّاس بالإزراء عَلَيْهِم والاحتقار لَهُم وَقلة الرَّحْمَة وَأَرَدْت أَن ينْظرُوا اليك بالتعظيم والمهابة وَالرَّحْمَة فَمن وَافَقَك مِنْهُم على ذَلِك نَالَ مِنْك قربا ومحبة ونلت أَنْت من الله تَعَالَى بعدا وسخطا وَمن خالفك فِيهِ ازْدَادَ مِنْك بعدا وبغضا وازددت انت من الله بعدا وسخطا... فقلبك حيران على سَبِيل حيرة، قد اشتبهت عَلَيْك سبل النجَاة، وشقق حجاب الذُّنُوب فأنست لقربها وطاب لَك شم رِيحهَا فوصلت بذلك الى مَحْض الْمعْصِيَة فادعيت مَا لَيْسَ لَك وتناولت مَا يبعد مرامُه من مثلك
ثمَّ أخرجك ذَلِك الى ان تَكَلَّمت لغير الله وَنظرت الى مَا لَيْسَ لَك وعملت لغير الله فَكنت مخدوعا مسبوعا (أي كمن تعرض لنهش السباع) عِنْد حسن ظَنك بِنَفْسِك وانت لَا تشعر ومستدرجا، من حَيْثُ لَا تعلم فَكَانَ مِيرَاث عَمَلك الْخبث والجريرة والغش والخديعة والخيانة والمداهنة وَالْمَكْرُوه وَترك النَّصِيحَة وانت فِي ذَلِك كُله مُظهِر لمباينة ذَلِك (أي تُظهر أنك من الأتقياء الأطهار).
فَمن كَانَت هَذِه سيرته فَلَا يُنكَر أن يَبْدُو لَهُ من الله مَا لم يكن يحْتَسب
فَلَو كَانَ لَك يَا مِسْكين أدنى تخوُّف لبكيت على نَفسك بكاء الثكلى الْمحبَّة لمن أثكلت ونحت عَلَيْهَا نياحة الْمَوْتَى حِين غشيك شُؤْم الذُّنُوب... فمِلتَ حِين خَالَفتَ طريقَهم الى غَيره فَبَقيتَ متحيرا وَعَن وجع الاصابة متبلدا (أي بليد العقل والشعور لا يفهم ولا يشعر بأوجه عدوانه وآثامه)" (كتاب آداب النفوس،ص: 65)
تعليقي: يقول الإمام المحاسبي:" فتاقت الى دَرَجَات الْمُحْسِنِينَ بِخِلَاف سيرتهم"
وسيرتهم تبدأ من وقوفهم عند ما يعلمون وعدم تجاوزهم إلى ما لا يعلمون، فلا يتحدثون إلا بعلم ولا يسلكون ويتصرفون إلا بعلم، وإلا لسكنوا ولم يتكلموا، وتعطلوا فلم يسلكوا ولم يفعلوا.
 أما المنحرفون فيعجزون عن معرفة قدر أنفسهم فيتوهمون أنهم عرفوا منهج العلماء، وأنهم يتحدثون حين يتحدثون بعلم، ويسلكون حين يسلكون وفقه أيضا، فأدخلهم هذا الوهم في انتهاك أعظم مناهي الله في قوله {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } فنتج عن هذا الانحراف كما يقول المحاسبي أن زكى المنحرفُ نفسَه فأحسن الظن بها ثم أساء الظن بغيره، ثم بالتالي قسى عليهم ووجد في قلبه الاحتقار وعدم الرحمة لهم، وهذا ما نجده ظاهرا من قادة وعلماء الاسلاميين في عصرنا، وبالأخص جماعة الاخوان المسلمين حيث ظهرت أفكارهم وسلوكهم بأجلى مما ظهرت أمثالها من غيرهم من الاسلاميين الآخرين، ومن يعرف الاسلاميين الآخرين عن قرب يعرف أنهم أيضا غلاظ وقساة على من ليس مثلهم من غيرهم، وإن كانوا يرون قسوتهم بتبريرات مختلفة جدا عن تبريرات جماعة الاخوان، إذن هذا الانحراف مزدوج كوجهي عملة واحدة، أول وجهيها هو تزكيتهم لأنفسهم وثاني وجهيها هو إساءة الظن بالآخرين، والعملة الواحدة التي يعبر عنها الوجهان هي الجهل بقدر النفس والتعالم، ففهموا معاني التدين والتقوى على غير مراد الله، يقول المحاسبي :" فَمن كَانَت هَذِه سيرته فَلَا يُنكَر أن يَبْدُو لَهُ من الله مَا لم يكن يحْتَسب
...إلى آخر النص"
 يشير إلى قوله تعالى {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فعدم شعور هذا المنحرف بانحرافه ليس هو الجهل الذي يعذره الله به، بل هو الجهل الذي هو عقوبة من الله يضربها على كل من يعجز عن الوقوف عند حده ومعرفة قدر نفسه، فإذا عجز الانسان عن معرفة قدر نفسه ولم يراجع نفسه ولم يفتشها ولم يحاسبها، عاقبه الله بإدامة الجهل عليه وألزمه آثاره ونتائجه، وغره به، فينخدع ويغتر ويعجبه جهله حتى يعده من أعظم حسناته ومآثره!! كما وصف الله أحوالهم في قوله {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا؟} فحين ذلك يأخذه الله بجهله ويلزمه آثاره ونتائجه بعد أن يكون أمهل له في الدنيا ويسره إلى عمل الجاهلين المفسدين فزادت عليه الحجة وكثر اكتسابه للإثم والعدوان.
تنبيه: من ابتلي بالقسوة والغلظة على المسلمين ممن ليسوا على طريقتهم الدينية، تفسد عليه أمور دينه كلها، فلا بناء بدون أساس، وأساس تقوى الله هو الشفقة على خلق الله كما يقول الرازي: مجامع (أي أصول) الأديان السماوية على شيئين: 1- تعظيم أمر الله 2- الشفقة على خلق الله.
 ولذلك تجدون هؤلاء القادة الاسلاميين حالتهم العامة الفكرية والدينية، وبالأخص المرتبطة بمن ليس على طريقتهم، يتخللها الفساد بانتشار واسع عام لا مجرد فساد يطال أجزاء معينة محددة من حالتهم العامة الكلية.
خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة