ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟

ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟
حكى الله تعالى عن نبيه سيدنا سليمان عليه السلام أنه {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)
في هذه الآية إشارة بديعة إلى أدب مدني لم تصل إليه أوروبا المعاصرة بل ولا قاربته والدليل على ذلك مثلا كتاب "بناء الثقة،تأليف: روبرت سي سولومون وفرناندو فلوريس" حيث بين ان الثقة الموضوعة في هذا العالم اليوم ومتطلباتها الأدبية في التعبيرات والمعاملة السلوكية، ليست ثقة حقيقية وإنما هي ما يسميه الكتاب ب "النفاق الودي" أي ثقة لأسباب خارجية من القوة أو المقابل المادي ونحو ذلك لا لسبب ذاتي.
ما سر هذه الحساسية المفرطة من سيدنا سليمان عليه السلام، وهو يتابع عمل الطير، في إحساسه ثم تعبيره عن الإحساس بلغة الاحتمال، فما الذي منعه من تنحية لغة الاحتمال في (إحساسه ومنطوقة) وهو كان قادرًا والأسهل عليه أن يجري وراء ظنه الباطني والتعبير عنه باحتمال واحد ليقول (لماذا غاب الهدهد؟) فلو كان غائبا حقا صدق احتماله ولو لم يكن غائبا لم يضره؟ سنكتشف أن لغة الاحتمال هذه تنفي (الازعاج النفسي) الذي كان سيشعر به الهدهد لو كان من الحاضرين، فهو كنوع تعنيف يستمر لثوان إلى أن يعلن الهدهد عن مكانه ويثبت حضوره، لأنه لو كان الهدهد حاضرا لم يصيبه ذلك (الإزعاج النفسي) لأن لغة سليمان وضعت احتمالا إلى أنه لم يره وهذا كنوع تقصير منه عليه السلام، يجعل الهدهد في علو نفسي وأدبي لم يكن ليتحقق له لولا تلك اللغة الاحتمالية وذلك التحفظ والحساسية المفرطة من سليمان، وتلك الحساسية تستلزم جهدا من سليمان في كبح دافعه النفسي ومنعه من الجري بالاعتقاد وراء ظنه ثم ضبط لسانه وتقييده بلغة الاحتمال، ما الذي دعاه لهذه الحساسية وهو نبي ملك سخر الله له الانس والجن والطير، فلا يخشى انقلاب عسكري عليه، ثم هذا الانقلاب لن يأتي من الطير، إنما ياتي من إنس أو جن، ولا يصح أن يكون دافع سليمان لهذه الحساسية هو مراعاة قيمة الإنسان، لأن هذا طير وليس انسانا وإن كان محترما لكن حرمته ليست في رقي حرمة الإنسان، ولو فرضنا أنه إنسان لوجب تأويل الدافع بالديني لأن سليمان نبي، والدافع الديني هو إنساني وزيادة ولا يعارضه.
إذن فسليمان لم تتوفر فيه هذه الحساسية المفرطة لسبب ما من الدنيا، لكنه راعى الأدب المدني وحكى الله لنا قصته لنقتدي بها إذ هذه فائدة قصص الأنبياء.
نحن لو تأملنا في أنفسنا لوجدنا أنفسنا نتحفظ ونكون حساسين أكثر إذا تشابكنا مع أناس ذوي قيمة كبيرة (حتى لو كانت قيمة الملابس وشكل الوجه!) فندقق في عبارات التخاطب وفي مجرى الظنون، ولو تابعنا أنفسنا مثلا في وسائل المواصلات نجدنا ربما نألف أشخاصا من جيراننا في المقاعد في القطار أو السيارة أكثر مما نألف غيره، فنراعيه أكثر ممن لا نألفه، سواء في الإعانة على حمل المتاع أو بالتعبيرات الراقية لو احتاجها ونحو ذلك، ويكون الدافع وراء هذا الاختلاف في الحساسية هو الألفة المتحققة من فرق الملابس وشكل الوجه مثلا! وهكذا لو تابعنا أنفسنا في شئون الحياة اليومية لوجدنا أننا نقع كثيرا في هذا التفريق في المعاملة على تلك الأسس الوهمية الشكلية التي لا تراعي الأدب المدني.
خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة