هل يوجد في بلادنا في العصر الحديث مفكرون وباحثون علميون؟ (2)



هل يوجد في بلادنا في العصر الحديث مفكرون وباحثون علميون؟ (2)
نأتي الآن إلى البراهين
أنا أنفي وجود مفكرين وباحثين علميين، أي: شيئين
 1- مفكرون وهم الذين يبتدأون التفكير في مرحلة اشتداد الأزمة في الأمة أو مرحلة النظر في بواكير تدوين العلم، كالأئمة الكبار جدا الذين قامت عليهم العلوم الإسلامية وكالأئمة الأوروبيين الذين قام على أكتافهم التفكير المستنير العصري
2- باحثون، وهم قوم يتبعون المفكرين في تمحيص أفكارهم ونقدها وإعادة إنتاجها وتفعيلها (نظريا وتطبيقيا) لكنهم لا يحملون العقول الجبارة التي يحملها المفكرون، وهؤلاء كأصحاب الأئمة كالمجتهدين المقيدين (كما يسميهم الأصولويون) وأتباعهم في العلوم الاسلامية، وكأصحاب وباحثي المدارس الأوروبية اليوم، وبالطبع إذا انتفى وجود مفكرين انتفى وجود باحثين بالأولى.
ما الذي يجعل المفكر مفكرا؟ أهو هندامه الحسن أو ثروته المادية أو مسماه الوظيفي؟ لا، إنه عقله وحده، إذن فالتعبير عن مطلبي بهذه الصيغة "لا يوجد مفكرون" هو مرادف للتعبير بهذه الصيغة "مفكرونا لا عقل لهم" إذن أنا أنفي عنهم العقل، ولكن نفي القيمة عن شيء هو فرع عن المعرفة بهذه القيمة المنفية، فنفي العقل عن المفكرين يستلزم وجود عقل صحيح سوي لم يتوفر فيهم، فما هو هذا العقل الصحيح؟ هذا العقل الصحيح له خصيصة نوعية، وهو يتكون للإنسان في مرحلة متأخرة بعد أن يجتاز الدرجة العلمية المسماة (بكارليوس أواماجستير) أو ما يعادل هذه الدرجة من دراسة ذاتية، أو بعد أن يتعلم مهنة ما، فهناك بين كل من الباحثين التجاريين، والباحثين الحقوقيين، والطبيين والهندسيين والزراعيين والتكنولوجيين ...الخ وكذلك المهنيين كالسائقين والنجارين والسباكين والحدادين ... الخ، لكل من هؤلاء عقل متميز في (جنسه) من غيره، تعارف واصطلح عليه أهل المجال الواحد، ولذلك لو أنا في نقاش ما مع نجار أو باحث تكنولوجي وأخطأت خطأ فادحًا في النقاش لن يشتد عليّ ولكنه سيفهمني في هدوء، لكني لو كنت أمتهن هذه المهنة معه (كنجار أو باحث تكنولوجي) وأخطأت هذا الخطأ وجب عليه أن يرفع أمري  إلى النقابة الخاصة بالمهنة لتحقق في هذا الأمر وسينتهي التحقيق إلى سحب الشهادة مني والإعلان عن طردي من هذا الوسط المهنى نهائيا، ثم سجني بعد ذلك، والسبب هو اكتشافهم أني لا أحمل  العقل الذي يجب عليّ أن أحمله، وبمقتضى حمله استحققت العمل والامتهان في هذه المهنة وتوليت مصالح الناس مقابل أجر.
فكذلك إذن أنا أقول إن "مفكرينا" فاقدين العقل الذي يجب على من يقوم بدورهم أن يحمله، يعني هذا العقل هو "الانحياز" إلى جملة مفاهيم محددة معينة، انحيازا تام الترابط والالتصاق بلا أي فجوات وثغرات، هذا هو العقل الذي يكون صاحبه مستعدا لخدمة الصالح العام، فإذا خدم الصالح العام بهذا العقل أي مارس البحث أو المهنة كان بذلك قد تحصل على العقل بالاستعداد وبالفعل أو الممارسة، فالعقل هو البصيرة، وهو كالبصر، أي عين العقل كعين الوجه، تكون سليمة بالاستعداد لكنها لا ترى الأشياء إلا إذا رفع صاحب الوجه (جفنَه) وتوجه بجسمه تجاه الشيء المراد رؤيته وسلط عينه عليه ليقف على سماته وعلاماته ويبصرها بوضوح.
 ويتم قياس جودة الترابط والالتصاق في إنحياز الرجل إلى جملة المفاهيم بواسطة الاختبار، فإما أن يأتي النجار أو الباحث لمن يريد أن يختبره فيناقشه أو يكلفه بأعمال نجارة مثلاً في منزل ما أو بإجراء بحث علمي، ثم يقيم عمله لينظر هل فيه ثغرات وفجوات أم هو عمل تام مترابط؟
ولتوضيح المراد بجلاء أضرب مثلاً لعين العقل بعين البصر، كيف يبصر الإنسان؟ يبصر إذا كان جسمه منحازًا إلى جهازه البصري بكل ترابط ثم إذا فتح جفنه، لكن لو خدش عينَه خادش أفسد عليه انحيازَه التام إلى جهازه البصري، فسبب تهتك أو تمزق في القرنية أو أعصاب العين، لا بد من إجراء عملية تهدف إلى رتق هذا الفتق وسد تلك الفجوة، وإعادة الترابط مرة أخرى كما كان عليه في الانحياز القديم، فانحياز جسم الرجل إلى جهازه البصري بلا فجوات هو مثال لانحياز الرجل إلى جملة المفاهيم بلا فجوات، وتحريك الرجل جسمه وفتح جفنه وتسليط عينه تجاه الشيء المراد تفحصه هو مثال لتطبيق وتفعيل الرجل لجملة المفاهيم التي انحاز إليها على الواقع المراد وصفه وتفسيره وشرحه وتقييمه وتغييره، ونكمل المقال القادم إن شاء الله

تعليقات

المشاركات الشائعة