بين الإيمان بالشرع والإيمان بالعقل.


بين الإيمان بالشرع والإيمان بالعقل.
كنت أقول في حوار مع أحد الإخوة إن على العلماء أن يشيدوا ثقافة إسلامية يقتنع بها المثقفون غير الإسلاميين فيستجيبوا إلى دعوتهم فقال: أليس حين ذلك يكونون قد آمنوا بعقولهم لا بالدين، وهذا إيمان لا يعتد به عند الله؟ أقول هذا الكلام خطير ومنتشر حتى أن في مناظرة العلماني د. فؤاد زكريا مع د . محمد عمارة قال زكريا إنه مستعد لنصرة الإسلاميين إذا قدموا حلولا تلائم متطلبات النهضة العربية فعلق عليه المسئول عن المناظرة حين كتبت قائلا إنه يريد الإيمان بعقله لا بالله وشرعه.
وتصحيح الموقف يكون بالنظر في وضع المسألة شرعا وقدرا.
الشرع يقول : إن نينا بُعث ودعا الناس بحجج القرآن ( النقلية العقلية) فآمن به من آمن عن تعقل ويقين  عقلي بأنه مرسل من عند الله فكان من الطبيعي والعقلاني أن يصدقه في كل ما أخبر بعد ذلك ولو لم يفهم وجه المخبر به، وهذا الوضع لا يعني تشريع الإيمان بما لا يُفهَم والحض على هذا الإيمان، وكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم مملوءة بتفصيل ذلك، وإنما هذا الوضع يعني ان المسلم الذي ضبط الأصول وأيقن بها عليه ان يصدق الخبر وإن لم يفهمه لا لمشروعية الإيمان بغير المفهوم ولكن لضرورة الأوضاع الدنيوية التي أجرى الله عليها الخلق فكم من مسلم يعلم شرائع اسلامية من مصادرها الموثوقة ويضيق وقته القريب عن فهمها فلا يصح له تعليق العمل والتصديق والانتفاع بها حتى يفهم وجه الحكمة من تشريعها، أو يضيق وقته البعيد لعدم تيسر علماء بجواره يبينون له وجه الحكمة، أو لصغر عقله عن فهم الحكمة فمثلا ليس كل المكلفين يسيتطيع فهم الحكمة في كثير من مسائل القضاء والقدر ولا يستطيع فهم كتاب شفاء العليل لابن القيم، فهذا عليه أن يؤمن بأن لله حكمة وغاية وإن لم ييسره الله لعلمها طالما أنه مؤمن بالأصول موقن بها. فهل ترون أن مثقفي زماننا ومفكريه يوقنون بأصول الدين يقينا عقليا كما كان يوقن بها  صحابة نبينا ومن تبعهم بإحسان ؟ بالطبع لا لأن علماء الدين عاجزون عن الدعوة إلى أصول الدين ومقاصده بما يشبع الشهوة العقلية للمثقفين فهل يصح تكليفهم بما لا يعلمون أصله قياسا على تكليف المسلمين الأسوياء الذين علموا الأصول من مصادرها الموثوقة على كيفيتها المشروعة التي تتفق مع صحيح العقل؟( لا أتكلم عن أصل التكليف فأصله ثابت ولكن أتكلم عن كيفيته الكاملة الواجبة الزائدة عن الأصل ولوازمها التي تمثّل بها المسلمون الأسوياء، وابن تيمية يقول إن "الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم بها" ومن لا يعلم العلم المشروع المبين الواضح يُعذر عند الله في الأصول والفروع ، ورغم ذلك فإنك تجد مثقفي المسلمين يصدقون بالأخبار ويحترمون القرآن الكريم والحديث الشريف وإن لم يفهموهما إلا قلة قليلة من المتطرفين جدا، وهذا الكلام كله شأنه في الشرائع التي يتوقف قبولها على الخبر الثابت المنقول عن الله ورسوله. فكيف إذا علمت أن هناك مستوى آخر يتوقف قبوله على أمر زائد مضاف إلى الخبر يشكلان كلا واحدا لا انفصال فيه وتفصيله كالآتي: حقق الإمام الشاطبي أصلا شرعيا مفاده أن كل مسألة شرعية لها مقدمتان كبرى وصغرى، الكبرى هي الثابتة بالخبر المنقول المعصوم والصغرى هي من عمل الإنسان المكلف فمثلا حكم الربا ثابت بالخبر أنه حرام" تلك الكبرى" ولكن هل بنك كذا في مدينة كذا يتعامل بالربا؟ هذه المقدمة الصغرى ، ثم لو ثبت أنه يتعامل بالربا هل هناك حدا للضرورة يبيح هذا المحظور ( وبيان ذلك الحد هو عمل إنساني غير متوقف على الخبر المعصوم وأيضا تقدير آثار الحكم ومسبباته وأبعاده  يؤثر في الحكم وذلك التقدير عمل إنساني، ونحن نعلم حال كثير من الإسلاميين أن عقولهم ضعيفة وعلومهم جامدة فهل ترى أن مثلهم يوثق بعمله الإنساني المختلط بالخبر المعصوم في كل واحد لا ينفصل؟ بالطبع لا يوثق ويكون عدم قبول هذا المركب غير مكفر إلا إذا أعلن أنه يرده كله بعنصره الخبري ولا أحد يرد العنصر الخبري إنما يردون هذا المركب لعدم أهلية القائمين بالعمل الإنساني فيه، فماذا نفعل في كل تلك الحقائق التي نعيشها؟
ستقول إنهم قد لا يفهمون لفساد فطرتهم، أعود وأقول لك بأي مقياس " عقل" تحدد به الحد الفاصل بين عدم الفهم الذي يُعذرون به وعدم الفهم الذي لا يُعذرون به؟!!!الشيخ رشيد رضا يقول إنه لا يوجد كتاب من كتب التفسير وكتب العقيدة من تراثنا الإسلامي يقنع المسلمين بالهداية المتضمنة في الإسلام بالشكل الذي يحرك نظرهم وينمي الوازع للاتباع والاهتداء، وكثير من إسلاميي اليوم يقولون إن كتاب تفسير ابن كثير ونحوه من كتب التفسير والاعتقاد كافية للمسلمين! أرأيت إلى أي مدى تختلف عقلية الشيخ الإمام مع عقلية العلماء المعاصرين؟ فلك أن تتصور حد الخلاف بينهما في تحديد مقدار العلم ( كما وكيفا) الذي من لا يفهمه يكون عدم فهمه لفساد فطرته فهما لا يعذر به، لا أن يكون عدم فهمه لضعف عقل الداعين وجمود علومهم! أنا لا أبرر لأحد العناد مع الدعاة إلى الله ولكني أصف حكم الشرع ثم أصف الواقع "القدر" حتى نراعي ( "الشرع والقدر" عند التفكير ونعلم مدى تعقد الأمور ومدى تقصير الداعين واملدعوين فنعمل ألف حساب قبل أن نتجرأ أو نتدحل في نوايا الناس وفي حكمهم عند الله.
فلننشغل بتأهيل أنفسنا وغيرنا ليكون داعية مناسبا لعقول المثقفين المعاصرين كما كان نبينا وصحابته ومن تبعهم بإحسان، فهذا الذي كلفنا الله به ولم يكلفنا بأن نتدخل بينه وبين عباده ونحكم فيهم بالظنة المخالفة للعلم والعدل

تعليقات

المشاركات الشائعة