محنة النخب السياسية الحاكمة‏!‏ بقلم سيد يس

نخبتنا التغريبية الفاشلة - المقلدة الجامدة - تزيف علينا صورة الغرب فتخرجها وكأنها صورة بيضاء نقية ليخدموا بذلك توجهاتهم التغريبية، والحقيقة أن الواقع في الغرب سيء على كل المستويات - التي هي موضوع وجوهر الحضارة والنهضة - ، ومن أمثال ذلك ما ستقرؤه في هذا المقال .

محنة النخب السياسية الحاكمة‏!‏ 
 بقلم : السيد يس 
لو ألقينا ببصرنا علي مختلف بلاد العالم لأدركنا حقيقة بارزة وهي أن النخب السياسية الحاكمة علي تنوع اتجاهاتها الأيديولوجية واختلاف طريقة وصولها للحكم تمر بمحنة عميقة‏!‏
وهذه المحنة لها مؤشرات متعددة لها, أهمها الفجوة العميقة بين السياسات التي تطبقها النخب الحاكمة والمطالب الشعبية من ناحية, وخداع الذات من ناحية أخري!
والواقع أن ثورة الاتصالات الكبري بما تتضمنه من بث تليفزيوني فضائي وذيوع استخدام شبكة الإنترنت التي تتدفق منها المعلومات كل ثانية, أتاحت للبشر في كل مكان التأمل في الأوضاع العالمية, والتعرف علي سياسات الدول, وأهم من ذلك تتبع سلوك أعضاء النخب السياسية الحاكمة بما له من دلالات مهمة.
وليأذن لي القارئ في أن أقدم له عينة من ملاحظاتي التي استقيتها من قراءة الصحف الأجنبية وتتبع ما تنشره وكالات الأنباء.
الملاحظة الأولي تتعلق بفرنسا, خصوصا ما يتعلق بانخفاض شعبية رئيس الجمهورية ساركوزي, الذي نجح في انتخابات رئاسية نزيهة وشفافة بعد أن وعد الجماهير الفرنسية بإصلاحات واسعة المدي كفيلة بتحسين الأوضاع الاقتصادية في فرنسا وجعلها قادرة علي المنافسة العالمية من ناحية, وترقية الأوضاع الاجتماعية للجماهير لتلبية مطالبهم في تحسين الأجور وتطوير شبكات الأمان الاجتماعية.
غير أن الممارسة العملية أثبتت للجماهير أن ساركوزي يعمل في الواقع في خدمة أهداف الطبقة الرأسمالية الفرنسية, ويعمل علي خصخصة المجتمع الفرنسي بكامله, بغض النظر عن الإضرار بحقوق العاملين, مما أدي إلي مظاهرات شتي قام بها أساتذة الجامعة والأطباء وغيرهم من الطوائف.
غير أن ساركوزي مصمم علي سياساته, وإن كان أنحني أمام إضراب الأطباء لخطورة نتائجه, وفي الوقت نفسه لم يبال بإضراب أساتذة الجامعة!
وأحيانا لا يستطيع المراقب السياسي أن يتجاهل السلوك الشخصي لأعضاء النخب السياسية الحاكمة, لأن الشخصيات العامة ـ شئنا أم أبينا ـ ينبغي أن تراعي في سلوكها قواعد وأعرافا مرعية.
غير أن ساركوزي حطم عديدا من التقاليد الفرنسية المتعلقة بسلوك رئيس الجمهورية, ذلك أن زوجته السيدة كارلا عارضة الأزياء السابقة محبة للغناء, وقامت بإحياء حفل غنائي في لندن, وهو سلوك غير معتاد لزوجة رئيس للجمهورية الفرنسية.
غير أن الأنباء حملت لناأخبارا مثيرة تقول إن زوجة ساركوزي ستمثل دورا في فيلم يخرجه المخرج الأمريكي الشهير وودي آلن تدور أحداثه في باريس, وفي يوم التصوير شوهد الرئيس ساركوزي يتفرج علي زوجته وهي تؤدي دورها في أحد شوارع باريس.
والسؤال هنا: هل هناك علاقة بين سياسات ساركوزي غير الشعبية وبين سلوكه الشخصي وسماحه لزوجة بممارسة الغناء والتمثيل في سابقة لا مثيل لها بالنسبة لتقاليد رئاسة الجمهورية الفرنسية؟
قد تكون الإجابة بنعم! لأن الذي يجمع بين السياسة غير الشعبية والسلوك الشخصي هو الاستهانة بمصالح الجماهير من ناحية, وعدم الاهتمام بمشاعرهم من ناحية أخري.
لقد صمم ساركوزي علي تطبيق سياساته الرأسمالية المتطرفة والتي تقوم علي كف يد الدولة عن رعاية المواطنين وتركهم لتفاعلات قوي السوق المنفلتة من ناحية, وعدم اهتمامه ـ في الوقت نفسه ـ باستنكار الجماهير الفرنسية لسلوك زوجة الرئيس والتي تمارس الغناء في حفلات عامة أو تقوم بالتمثيل في أفلام سينمائية تصور في باريس!
وننتقل إلي إيطاليا لكي نجد ظاهرة بيرلسكوني رئيس الوزراء المليونير المتهم في قضايا فساد كبري, والشهير بسلوكه العلني المستفز.
والسؤال هنا: كيف انتخبت الجماهير هذه الشخصية السياسية التي لا يتصور ابتداء أنه سيطبق سياسات تخدم في المقام الأول مصالح الجماهير العريضة؟
أما من ناحية سلوكه الاجتماعي, فقد نشرت وكالات الأنباء صورة له وهو محاط بمجموعة من الحسان وهو في طريقه لقضاء اجازته الصيفية!
وهنا أيضا ليس هناك تفسير للسلوك السياسي والشخصي إلا ظاهرة اللامبالاة من قبل أعضاء النخب السياسية الحاكمة والتي قد تدخل في باب الطرائف الملفتة للنظر, ننتقل إلي الولايات المتحدة الأمريكية التي كان لانتخاب أوباما رئيسا لجمهوريتها صدي عالمي عميق.
جاء الرجل رافعا شعار التغيير, وكان يعني التغيير في السياسات الخارجية والداخلية معا.
في السياسة الخارجية, وعد بسحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق في تاريخ محدد, وكذلك الحال بالنسبة لسحب القوات من أفغانستان.
أما بالنسبة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي فقد نادي في خطبته التاريخية التي ألقاها في جامعة القاهرة بحل الدولتين, بمعني حق الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبا إلي جنب مع الدولة الإسرائيلية.
وتتمثل محنة الرئيس أوباما في أن خطته لسحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق واجهتها مشكلات شتي أهمها عدم الاستقرار السياسي في العراق من ناحية, وعدم توقف العنف الإرهابي من ناحية أخري, والذي زعم الأمريكيون أنهم نجحوا في القضاء عليه!
وفيما يتعلق بوعده بسحب القوات المسلحة الأمريكية في أفغانستان, قوبل بابتزاز واضح من قبل القادة العسكريين, وذلك أن الجنرال مكريستال قائد القوات في أفغانستان طالبه بإرسال ثمانين ألف جندي إضافي حتي يستطيع أن يكسب الحرب ويقضي علي طالبان.
وتتردد أوباما كثيرا في اتخاذ قراره, وبعد ثلاثة أشهر قرر إرسال ثلاثين ألف جندي فقط. ويبدو أن الجنرال مكريستال أيقن أنه لا يمكن أن ينتصر علي طالبان تحت أي ظرف, وأن الهزيمة الأمريكية قادمة لاشك فيها, ولذلك أدلي بتصريحات غريبة سخر فيها من الرئيس أوباما ومن وزير الدفاع وأركان إدارة أوباما, مما دفع الرئيس إلي إقالته وتولية قائد جديد.
غير أن هذا القائد الجديد صرح بأن المهمة صعبة للغاية, ولمح أن النصر علي طالبان مستبعد, وهكذا تتمثل محنة أوباما في أنه قد لا يستطيع الوفاء بوعده بالانسحاب في التاريخ الذي حدده, وإلا تحول هذا الانسحاب إلي هزيمة مهينة علنية علي غرار هزيمة أمريكا من قبل في فيتنام!
غير أن مشكلة أوباما الكبري تظهر في الساحة الفلسطينية, وذلك لأنه بعد أن ظهر حازما وقاطعا في خطبة القاهرة بشأن إنشاء دولة فلسطينية, وبعدما دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي إلي تجميد الاستيطان في الضفة الغربية لمدة عام حتي يتاح للإسرائيليين والفلسطينيين التفاوض بشأن المستقبل في هدوء, إذا بنيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي يرفض بكل عنجهية مقترحات أوباما ويصر علي عدم تجميد الاستيطان, بل ويشرع في تهويد القدس بخطة نشطة!
وتبرز محنة أوباما الكبري في تسليمه الكامل بمطالب إسرائيل في زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة لواشنطن, حيث قابله بمنتهي الترحيب وأقر علانية بأن أمن إسرائيل له الأولوية, وأن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة التزاما مطلقا بالدفاع عنها, وتجاهل وعوده السابقة بشأن الدولة الفلسطينية, ودعا السلطة الفلسطينية للتفاوض بدون أي شروط مسبقة!
وهكذا ظهرت الفجوة الكبري بين القول والفعل للرئيس الأمريكي الذي وصل لمنصبه لأنه وعد بالتغيير الجوهري في السياسة الخارجية الأمريكية, وها نحن نشهد فشله في العراق وأفغانستان وفلسطين.
ولا يمكن لنا أن ننسب فشل أوباما لأسباب شخصية تتعلق به, لأنه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية يخضع في الواقع لمراكز القوي التي تتحكم في المشهد السياسي الأمريكي والتي تتمثل أساسا, في الجنرالات أو المؤسسات العسكرية ومديرو البنوك والشركات الكبري, وأعضاء الطبقة السياسية التي يحترف أعضاؤها السياسة سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين.
وإذا كنا قد ألقينا نظرة مقارنة علي محنة النخب السياسية الحاكمة في كل من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية, فهل نستطيع أن نلقي الضوء علي محنة النخب السياسية العربية الحاكمة؟
نجيب عن هذا السؤال في مرة مقبلة!

تعليقات

المشاركات الشائعة