الإسلام والإيمان - أبحاث تمهيدية. د " محمد دراز"


هذا بحث مُقتطف من كتاب " المختار من كنوز السنة، شرح أربعين حديثا في أصول الدين" كتبه الدكتور "محمد دراز" حينما أُسند إليه درس الحديث النبوي لطلاب كلية أصول الدين، وقد اشتركت مع الأستاذ هشام ابن الزبير - العضوم بمنتدى التوحيد - على كتابة البحث ولذلك تجدون هوامش الجزء المطلوب كتابته على كل منا له جانب خاص، ولكن أرقام الهوامش منضبطة تماما ولم نستطع وضعها في مكان واحد لأسباب فنية. وقد راجعت البحث بعناية وهو مطابق تماما لما في الكتاب .
-----------------------------------
كتاب الإيمان والإسلام.

الإسلام والإيمان - أبحاث تمهيدية.


الإيمان والإسلام:
قبل أن نبين لكم معنى هاتين الكلمتين في لسان الشرع نُحب أن نقف بكم على أصلهما في لغة العرب.
فاعلموا  أن الإيمان له في لغة العرب استعمالان، لأنه "تارةً" يتعدّى بنفسه، فيكون معناه التأمينُ أي إعطاء الأمان. تقول: آمَنتُ فلانًا إيمانًا وأمّنته تأمينًا بمعنى واحد. قال تعالى :{ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(1). ومنه اسمُ الله تعالى:"المؤمن" لأنه أمَّن عبادَه من أن يظلمهم."وتارةً" يتعدى بالباء أو اللاّم فيكون معناه التصديقُ {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ}(2) {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}(3).
قال علماءُ الاشتقاق: وهذا المعنى الثاني راجعٌ إلى الأول، لأن من صدَّقك فَقَد أمَّنك من التكذيب والمخالفة.
وكذلك الإسلام له في اللغة استعمالان:"يُستعمَلُ متعدِّيًا" فيكون معناه التسليم أي الإعطاء. تقول: أسلمتُ فلانًا إذا خذلتَه، كأنك سلَّمتَه لِعَدوَّه وتركتَه. وتقول: أسلمت أمرى إلى الله أي: سلَّمتُه إليه.
"ويُستَعملُ لازمًا" فيكون معناه الانقياد والدخول في السَّلم أي الاستسلام، كما أن الإصباح هو الدخولُ في الصباح، والإحرامُ هو الدُّخولُ في الحُرمة.
أقول: ومعنى الإسلام لازمًا يرجعُ إلى معناه متعديًا، لأن مَن انقاد واستسلم للغير فَقدْ سلَّمَ إليه نفسَه وألقى إليه بمقاليده(4).
هذا. ولمَّا كان الإيمان والإسلامُ في الشَّرع منقولَيْن من الاستعمال الثَّاني فيهما – أعني غيرَ متعدَّيين – وَجَبَ أن نقارن بين معنى الإيمان اللاّزم وهو التصديقُ، ومعنى الإسلام اللاّزم وهو الانقياد، مقارَنَةً تحليلية يتبين بها مقدارُ الصلة بين المعنَيَين لغة قبل أن ننظر فيما طرأ عليهما بعد النقل.
والذي يخلُصُ لنا من هذا التَحليل والمقارنة أنَّ " التصديقَ" وهو اعتقادُ الصدق محلُّه القلبُ. هذا أصلُه. فإن سمَّينا الاعترافَ والإقرارَ باللَّسان تصديقًا فإنما نُسمِّيه بذلك لكَونه ترجمةً لذلك التصديق القلبي وعبارةً عنه. وإن ذهبنا لِنُسَمِّيَ امتثالَ الأمرِ تصديقا لُغويّا أيضا لم يكن لنا ذلك إلا على ضرب من المجاز البعيد. أما "الانقياد" وهو الطاعةُ والامتثالُ فإنه بحسب حقيقتِه اللُّغوية يتَّسعُ لكل هذه المراتب الثلاثة، لأنه إما بالظاهر أو بالباطن أو بكليهما.
فالانقياد الباطنيُّ يشمل التصديق والرضى والمحبة والنيَّةَ وغيرَ ذلك من الأحوالِ والأعمال القلبية.
والانقياد الظاهريُّ يتناول الاعترافَ باللَّسان، والخدْمَةَ بالجوارح، والوقوف عند الحدود بحيث يأتمرُ إذا أُمِرَ ويزجرُ إذا زُجِر، كالبَعير ينقادُ بالزِّمام.
وعلى هذا فَمَعنى الإسلام لُغةً أعمُّ من الإيمان عُمُومًا مُطلقًا.
أما ما اشْتَهر أن الإسلامَ هو الانقيادُ الظاهريُّ فَقَط فَلَسْتُ أعرفُ مستندًا فقهيًا(5) لهذا التقييد، إلا أن يكون قد ثَبَت شُهرَةُ استعمالهِ في هذا المقيد أو مبادرةً منه عند إطلاقه، بناءً على أنَّ اللَّفظَ إذا كان له معنى حسيٌّ ومعنى عقليٌّ كان المعنى الحسيٌّ أقربَ إلى الفهم.
فإن ثَبَتَ هذا أو ذاك كان تعريفُ الإسلام بخصوص الانقياد الظاهريَّ حريًّا بالقبول – وعليه يكون معنى الإسلام غيرَ معنى الإيمان، لأن أحدَهما استسلامٌ بالظاهر والآخرَ إذعانٌ بالباطن. ولا تَلاَزُمَ بينهما بل قد يوجد كلٌّ منهما بدون الآخر، كالمؤمن بالشيء يكتمُ إيمانَه فيكون مؤمنًا به غيرَ مسلم، والجاحدُ بالشيء يتظاهرُ بأنَّه موقنٌ فيكون مُسلمًا غيرَ مؤمن. وقد يجتمعان إذا تطابق الظاهرُ والباطنُ على أمر واحد فكان القول والعملُ به مصداقًا للاعتقاد له.
وإذًا يكونُ المؤمنُ والمُسلمُ كلٌَّ منهما أعمَّ من الآخر من وجه.
 - تم تحديد المعنى اللٌّغَويَّ -.
أما في لسان القرآن "فكثيرًا" ما يُرادُ بهما ذلكَ المعنى اللُّغَويُّ نفسُهُ بدون تصرُّف فيه، فيُرادُ من الإيمان مُطلَق التَّصديق بحَقٍّ أو باطل، ويراد من الإسلام مُطلَقُ الانقياد لأيِّ آمرٍ " وكثيرًا" ما يُرادُ بهما معنى أخَصُّ من ذلك صارَ في العُرف الشرعي حقيقةً جديدةً، فيُراد من الإيمان خصوصُ التصديق بخبر السماء المُنزل على الأنبياء ويراد من الإسلام خصوصُ الانقياد لله ربِّ العالمين.
وضابطُ الأمر في ذلك أن ننظرَ في المَوضع الذي يُذكَرُ فيه أحدُهما: هل له في الكلام متَعَلَّقٌ خاصٌ تعدَّى هو إليه بالباء أو الَّلام، أم ذُكر مُجرَّدًا عن المُتَعَلَّق؟. فإذا وجدناهما مُتَعَلِّقيْن بأنْ قيل مثلاً " إيمانٌ بكذا" أو " إسلامٌ لكذا" عرفنا أنهما بمعناهما اللغويِّ البحت، أي مُطلَقَ التصديق والانقياد لما تعلَّقا به، سواءٌ أكان حقًا أم باطلاً مشوبًا بالشرك أم لا. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}(6)، وقال:{ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ}(7)، وقال:{ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}(8)، وقال:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(9)، وقال:{ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(10) وهذه بمنطوقها تُثبتُ الإسلامَ لله. وبمفهومها تنفي الإسلامَ لغيره كأنه قيل: لا نسَلِّمُ لغير الله.
وأما إذا ذُكرا هكذا بدون مُتعلَّق فالمُراد بهما تَلك الحقيقةُ الشرعيةُ الخاصَّةُ وهي التصديقُ بالحقِّ والانقيادُ له. لكنهما بعدَ هذا التخصيصِ هل بقي كلٌّ منهما واقفًا عند حدِّه اللغوي فالإيمانُ خاصٌ بالباطن والإسلامُ بالظاهر مثلاً؟ أم أنهما قد أُزِيلت من بينهما تلك الحواجزُ اللغوية وأصبحا في عُرف الشرع كلمتين مترادفتن معناهما واحدٌ وهو" الدين بجملته، ظاهره وباطنه"؟.
الجوابُ عن هذا فيه تفصيلٌ سنرجئه قليلاً ريثما نُبين اختلافَ الناس في حقيقة الدين المطلوب من المكلَّفين: أهو أمرٌ قوليٌّ أم قلبيٌّ، أم عمليٌّ أم مجموعُ ذلك كله – بقطع النظر عن تسميته بإيمان أو بإسلام أو بهما -؟.
حتى إذا ما فرغنا من عرض هذه الآراء وبيان مانرى أنه الحق فيها عدنا إلى البحث في ترادف الكلمتين أو عدم ترادفهما لأن هذا ينبني على ما سنختاره في البحث الأول.
فههنا بحثان:
(البحث الأول)
ما الدِّينُ؟
أهُوَ قوْلٌ فقطْ, أم قول واعتِقاَدٌ, أم قولٌ واعتقادٌ وعملٌ؟
-         آراءٌ ثلاثةٌ.
وإذا أخذناَ بالرَّاْيٍ الثالث فما قيمةُ العمل في هذه المجموعة؟
-         آراءٌ ثلاثةٌ أيضاً.
خمسةُ مذاهبَ إذاً, قدِ انقسمتْ إليها الفِرَقُ الإسلامية, أعني المنتسبةَ إلى الإسلام إن صدقاً وإنْ كذِباً.
1)      قالتِ « الكَرَّاميَّةُ » وبعض « المُرْجِئَةِ» : إنما يُطلبُ مِنَ المُكلَّفِ الاعتراف بلِسانِهِ أن ما جاء به الرُّسُلُ حَقٌّ ولَوْ بلا عملٍ ولا اعتقادٍ لَهُ.
2)      وقال جمهور « المُرْجِئَةِ » : المطلوبُ قولٌ واعتقادٌ فقطْ فلا يضُرُّ بعد ذلك شيءٌ منَ المُخالفةِ والعصيان صغيرا أو كبيرا.
وقال سائر الامّة: المطلوب الثلاثة. القول والاعتقاد والعملُ. وجِماعُ ذلك هو الدّين. ثم اختلفوا في تقدير قيمة العمل.
3)      فقالت الخوارجُ: من أخلَّ بالعمل فترك فريضةً أو ارتكب كبيرةً ولم يتب منها فقد خرج من الإيمان ودخل في الكفر واستحقّ الخلود في النار أبد الآبدين.
4)      وقالت المعتزلة: من أخلّ بالعمل هكذا فقد خرج من الإيمان ووجب تخليده في النّار كالكفار, لكنه لا يسمى كافراً فهو في منزلة بين الإيمان والكفر اسماً, وإن كان كالكافرين  في تأْبيد العذاب. فهذه أربعة مذاهبَ كل اثنين منها في طرفٍ. فالكرّامية والمرجئة يضعان الأعمال من ميزان الاعتبار. والخوارج والمعتزلة يرفعان قيمتها إلى مستوى العقائد. والأول من كل طرف أشد غُلُوّاً من صاحبه.
أما قول الكرامية بعدم اشتراط الاعتقاد فهو من السُّخْف والبطلان بحيث تأباه بديهة العقل فضلا عن صريح النّقل. فالقرآن مشحون بتكفير من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه, بل جلعهم أشد الكفار عذاباً (إنَّ المُنافقينَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [11] ثم إنه لو كان الدِّين كلمةً تقال باللسان, صدقا أوكذبا, وكانت هذه الكلمة هي كل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان, ولأجْل هذه الكلمة خلقت السماوات والأرض والجنّة والنّار, إذاً لكان الخلق جهلاً وعبثاً والأمر لعباً وهزْلاً, ولا والله ماهو بالهزل ( أحَسِبَ النّاس أن يُتركُوا أن يقولُوا آمنّا وهُمْ لا يُفتنُون, ولقد فتنّا الذين من قبلهمْ, فلَيعْلَمَنّ اللهُ الذينَ صَدقُوا ولَيعْلمَنَّ الكَاذِبينَ) [12]
فليسقط هذا المذهب عن أول درجةٍ من سلم البحث.
(وأما) قولهم مع المرجئةِ بعدم دخول الأعمال في تقدير الجزاءِ وأن المطيع والعاصي في قسطِ الرحمة سواءٌ. فتلك أمانيهم, وإنها لأُمنيّةُ مخدوعٍ وربِّ الكعبة ( لَيْسَ بِأمانِيِّكُمْ وَلا أمانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [13] ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) [14]. ولا يخفى أن من اللوازم البيِّنة لهذا المذهب بطلان التَّكْليف بالفروع جُمْلةً, وضياعُ آياتِ الوعيد هباء, وصَيْرورتها كذبا وخداعا, تعالى الله عن ذلك. ثم كيف تستوي عند العقولِ عاقبةُ الظلم والعدل؟ أم كيف تستوي طبيعة الخير والشّر؟ ( أمْ نجْعَلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [15] (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) [16].
هذا وأما أصحاب الطَّرَف الآخر الذين رفعوا قيمة العمل إلى صفّ العقيدة, وجعلوا العاصي بترك العمل كالعاصي بتكذيب الله ورسوله فلدينا أيضاً مِن نصوص الدين ونظر العقل السليم ما يُفَنِّدُ زعمهم:
أما النصوص الشرعية فإنك ترى فيها من التفرقَة بين العاصي والجاحد في الاسم والحكم. فقد سمّى الله المذنبين باسم المؤمنين قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) [17] وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) [18] وقال: (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ) [19] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ  ) [20]  وجعل للمعصية  التي دون الشرك حكما غير حكم الشرك فقال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [21] واستثنى الله من الذين شَقُوا ومن الذين سَعِدوا بقوله: ( إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ) [22] فريقا لا يخلدون في النار لا يخلدون في الجنة, بل حياتهم في النار مقطوعة من آخرها وحياتهم في الجنة منقوصة من أولها. فهولاء هم الجَهنّميّون أي: عصاة المؤمنين. ولما وصف النبيّ الصراط ومرور الناس عليه وسقوطَ من يسقطُ منهم في النار قال: «فمنهم من يوبَق بعمله ومنهم من يُخَرْدَلُ ثم ينجُو, حتى إذا أراد اللّه رَحْمَةَ من أراد من أهل النار أمر الملائكَة أن يُخْرِجُوا من النّار من كان يعبُدُ اللّهَ, فيعرفُونَهُم بآثار السُّجودِ وحَرَمَ اللّهُ تعالى على النار أنْ تأكُل مواضعَ السّجودِ.» أخرجه الشيخان والتِّرمِذِيُّ. وقال صلّى الله عليه وسلم: « وإني اخْتبأْتُ شفاعةً لأُمّتي يوْمَ القيامةِ. فهيَ نائلةٌ إن شاء الله من مات من أمّتي لا يُشركُ بالله شيئاً.»[23] رواه مالك والشيخان. وفي حديث الشفاعة عند الشيخين أنّ الرسول إذا قال: « يا ربِّ أمّتي أمّتي.» يقول الله تعالى: « انطلقْ, فمن كان في قلبه مثقال حبّةٍ من شعيرٍ من إيمان فأخرجه من النار.» فإذا انطلق النبيّ ففعل ثم عاد للسؤال قال الله له: «انطلق, فمن كان في قلبهِ أدنى من مثقال حبةٍ من خردل من إيمانٍ فأخرجْه منها.» فإذا عاد الرابعةَ وقال: « ياربِّ ائْذنْ لي فيمنن قال لا إله إلاّ الله.» قال الله تعالى: « ليس ذلك إليك, ولكن وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنّ منها من قال لا إله إلاّ الله.»[24]
وأما النظر العقلي فإن العارف بطبائع النفوس البشرية يفرّق بين جريمة المعصيةِ من المؤمن وجريمة المعصيةِ من الكافر: فمعصية الكافر محاربة واستكبارٌ لا يبقى معها في القلبِ مثْقال ذرّةٍ من خيرٍ, ومعصية المؤمن لايزالُ معها في القلبِ نواةٌ من الخير وبصيصٌ من النّور, ولذلك يشعرُ –مع مُطاوعَتِهِ لهواهُ واندفاعه في تيّار الشّهوةِ أو الغَضَب- بوخْز الضمير والاعتراف بينه وبين نفسه بأنّه ترك ما ينبغي وفعل مالا ينبغي. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في الرّجُلِ الذي كان يُدمن الشراب على عهده وكان يجلدُه كثيراً: « لا تلعنُوه, فوالله إنه ليحبُّ اللهَ ورسولَهُ.» أو كما قال. انظروا حديث البخاريّ في كتاب الحدود.
وتعليلُ ذلك أن ظلمة الهوى لا تطفئُ في قلب المؤمن نور الهُدى, وإنما تزاحمه وتغلبُه فيبقى ذابلاً ضعيفاً. وهذا ما يشير إليه علماء المنطقِ حين يقسمون العلم إلى حُصولي وحُضوري, ويعبّر عنه  علماء النّفْس بتزاحُمِ حاليْن نفسيّيْنِ على الخاطر يكون أحدهما واضحاً جليّا حاضراً متسلطاً فيسمّى في بؤرةِ الشعورِ, والآخرُ غامضاً متقهْقراً فيسمّى في حاشية الشّعُورِ[25] وقد يتبادل الحالان فيعودَ المغلوبُ غالباً. وسبحان مُقَلِّبِ القلوبِ.
وأضربُ لكم مثلاً لمعصيةِ المؤمنِ ومعصيةِ الكافرِ:
فمثلُ المؤمن حين يعصي كمثل رجلٍ نهاه الطّبيبُ عن طعامٍ أو شرابٍ خاصٍّ وهو يعلمُ صحّة رأي الطبيب ويثقُ بنصحهِ لهُ, وقد يعرفُ بالتجربة في نفسه وخامةَ عاقبة التّسرّع بتناول الطعام الذي نهاه عنه, ولكنّه لا يجد صبراً على ذلك, فتضعفُ إرادته عن مقاومة هواهُ.
ومثل الكافر يعصي كمثل ذلك الذي يعصي الطبيبَ مُسْتَجْهِلاً له مسْتهْزِئاً برأْيِهِ. أترى أن الطبيب يعامل المريضين بنوع واحدٍ من القسْوة ويُنزلُهُما عنده في منزلةٍ واحدة من البغضِ والمقتِ أم هو يَرثِي لأحدهما ما لا يرْثي للآخرِ؟
وإذا لمْ تكن الجريمتان سواءً فكيف يجعلهما القاضي العادل في حكم العقوبة سواءً, والله تعالى يقضي بالحقّ ويقول: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [26].
الآن وقد تبيّن لكم مصادمةُ هذه المذاهب للمعقول والمنقول فقد آن لكم أن تسألوا: كيف انتسب أهلُها إلى الإسلام ودخلوا تحت رايةِ القُرآن؟
والجواب أنّ هذا من عجيبِ أمرِ اللغة العربيّة التي جاء بها القرآنُ والسنّة, فإن هذه اللغة بما فيها من احتمال الحقيقة والمجاز, والعموم والخصوص يتّسع صدرها بحسب الظاهر لكلّ هذه الفِرَقِ, فتجدُ كلّ فرقةٍ في جانبٍ منها مُسْتَنَداً لِزَعْمِها. ولأمرٍ ما أنزلَ اللهُ الكتابَ (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فمن قرأ كتاب اللهِ وسنة رسوله وجد فيهما أطرافاً يميلُ إليها المتطرّفون, وأوساطاً يأخذ بها المقتصدون, (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ). وأما الرّاسخون في العلم فيردّون المتشابهَ إلى المُحْكم ويقولون: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [27].
فالمرجئةُ نظروا في آيات الوعْد التي وعدَ الله فيها المؤمنين بالجنّة[28] فجعلوها عامةً تستوي فيها مراتبُ الإيمان, وجعلوا الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات.
و « المعتزلةُ», وسلفهم « الخوارج», أخذوا آيات الوعيد[29] عامّةً فسوّوْا بين معصيةِ الشرك وما دونها. قال البخاري: "وكان ابن عمر يرى أن الخوارج شرار الخلق ويقول: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين." وروى مسلم عن يزيد بن صُهيب أنه قال "كنت قد شَغَفَني رأيٌ من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحجّ ثم نخرجَ على الناس, فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدّثُ الناس, وإذا هو قد ذكر الجَهنّميين. فقلت: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تُحدّثوننا والله تعالى يقول: (إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ )[30] ويقول: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا )[31] فما هذا الذي تقول؟ فقال: أتقرأُ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأْ ما قبلهُ, إنه لفي الكفّار. ثم قال: فهل سمعت بمَقام محمد المحمود الذي يبعثه الله تعالى فيه؟ قلت: نعم قال: فإنه مقامُ محمّد المحمود الذي يُخرج الله تعالى به من يُخرج من النار, ثم وصف وَضْعَ الصّراط ومرّ الناس عليه. قال فقلنا: أتَروْن هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منا غيرُ رجلٍ واحدٍ."
فهذان هما الطّرفان في أمر الدين: أحدهما طرف الأملِ والغرور. الثاني طرف اليأسِ والقنوط. ومن مال كل الميل إلى الطرف الأول فقد عرف ربّه بالرحمة والنّعمة, ولم يعرفه بالبطش والنّقمة, ومن مال كل الميل إلى الطرف الثاني فقد عرفه بضدّ ذلك. وكلاهما ناقصُ المعرفة بربّه, ما عرفه حقّ معرفته, ولا قَدَرَهُ حقّ قَدْرِهِ: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ )[32].
يداك يَدٌ خيْرُها يُرْتجى
وأُخْرى لأعْدائِها غائِظة[33]
ثم إن العقيدة المتطرّفة لا يمكن أن يصلح عليها أمرُ الخلقِ ولا يقومُ بها نظامُ العالم, لأن الاستبشارَ والاتّكالَ داعٍ إلأى التفريط والتهاون والتمرد, ولأن اليأس والقنوط داعٍ إلى الإفراطِ والعَنَتِ والحرجِ وإنما يَصلح أمر القلب إذا أخذ حظّاً من الرجاء وحظا من الخوف: هذا من ورائه يسوقه بعصاه, وذالك من أمامه يَحْدُوه برغائبه ومُناه. ولا يكون ذلك إلاّ إذا اعتدلتِ العقيدة فكانت وسطاً بين التفريط والإفراط, جامعةً بين أطراف الصفات.
وهذا الرأي الوسط, تجدونه عند الأمّة الوسط, وهم أهل السّنة والجماعة فدونكم رسما يوضّح لكم هذا الصراط المستقيم.
5)      قال أهل السنة والجماعة وهم جمهور الأمة وجميع الصحابة وكافّة الأئمة: المطلوبُ من المكلّف أمرٌ مركّب من قول واعتقاد وعمل لكن أجزاء هذا المركب ليست داخلة بنسبة متساوية في تركيبه. فكما أن الإنسان مركّبٌ من جسم حيواني مادي وروحٍ ناطق مفكّرٍ, والجسم مركّب من أجهزة وأعضاءٍ تتفاوت حاجة المجموع إليها. فمنها ما هو عضو رئيسٌ تنحلّ البنية وتذهب الحياة بفقده كالقلب والرأس, ومنها ما هو عضوٌ نافعٌ تنقص المرافق بنقصه كاليد والرّجْل, ومنها ما هو زينةٌ مكمِّلٌ للجمال والتناسق كالشعر والظّفر, كذلك أجزاءُ الإيمان.
فأما الجزء الأول وهو الجزء الذي لا غنى عنه بحالٍ, وإذا عُدِمَ عُدِمَتِ حقيقة الإيمان وحقّت على فاقده كلمة الهوان والخلودُ المؤبّدُ في النيران فهو الاعتقاد وأعني به العلمَ الجازمَ بكلّ ما ثبت بالضرورة أنه جاء من عند الله على لسان رسوله. وليس ذلك فقط بل لا بدّ – مع اليقين الجازم الذي هو حكمٌ عقليٌّ – من أمرٍ آخرَ قلبيٍّ وهو الرضى والارتياحُ النفسانيُّ لهذه العقيدة, بحيث تكونُ طِبْق هواه وميله وعاطفته, فلا يَغَصُّ بها حقدا وحسدا, ولا يَتَسَخَّطُها كِبْراً وأَنَفَةً كقوم فرعون جاءتهم آياتُ الله مبصرةً فجحدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظلما وعلوّاً, و كعلماء اليهود كانوا يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم ولكن شقّت عليهم زعامته واستتباعُه إيّاهم وقد كانوا متبوعين لا تابعين, فودّوا أنْ لم يكن وكرهوا نعمة الله عليه وظنوا أنهم أولى منه بهذا المنصب كما صنع رئيسهم إبليسُ في شأن أبيهم آدم. ومن هنا كانوا كفارا مع اعتقادهم ويقينهم بأمره لأنهم أضاعوا شطرَ هذا الركن الاعتقاديّ وهو الرضى والتسليم: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )[34].
فإذا تحقق هذا الجزء الأول فقد وُجد أساس الإيمان, وكتب لصاحبه عند الله صكُّ النجاة من الخلود المؤبَّد في النار إذا مات على ذلك. ولو لم يتحقّق معه سائر الأجزاء.
الجزء الثاني: إعلانُ هذه العقيدة بالقول أو غيره من الدوالّ الظاهرة كالصلاة ونحوها مما يؤدّي معنى الاعتراف بالدين الصحيح. وهذا الجزء لا يَدخُل عند الله في حساب أصل الإيمان, لأن الله تعالى يتولّى السرائر, وإنما هو فريضةٌ عمليةٌ كسائر الفرائض الفرعية الداخلة في الجزء الثالث, شرعه الله ليكون وسيلة لحفظ النظام الدنيوي, فبه يتعارف المؤمنون ويتناصرون ويتصاهروون ويتبادلون التكريم في الحياة والممات, وليكون حماية لصاحبه وعصمة لدمه ولماله إلا لسببٍ آخرَ يقرره الدين في عقوباته وأحكامه التأديبية. فتارك هذا الجزء هو عند الله كتارك كل فرضٍ من فروع الدين, أعني أنه آثمٌ إن تركه مستطيعا بلا عذرٍ وإلا فلا, قال الله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ  )[35] فمَدَحَهُ بالايمان مع هذا الكتمان, وقال: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا  )[36].
نعم هذا الجزءُ يُعدُّ عندنا من أصول الدين, لأننا لا نحكمُ إلا بالظاهر, ولا اطلاعَ لنا على ما في قلوب الناس إلا عن طريق هذا الاعتراف الظاهري الذي يُعدّ ترجمةً عن العقيدة يدل دلالة ظنيةً على حصولها.
الجزء الثالث: العمل بكلّ ما أمر الله به من فريضة ونافلة, والانتهاءُ عما نهى عنه من حرامٍ وشبهةٍ صغيرة وكبيرةٍ في سرّه وعلانيته, بقلبه وجارحته.
وهذا الجزءُ تتفاوت مراتبه تفاوتا كبيرا. فمن وفّاه بجملته واتّقى الله حق تقاته بقدر الطاقة البشرية كان من السابقين المقربين.
ومن أدى الفرائض واجتنب الكبائر ولكنه قارف شيئا من الصغائر أو قصّر في النوافل كفّر الله عنه ما ألمّ به من سيئةٍ, وأدخله الجنة على قدر درجته في العمل, بغير سابقة عذابٍ: (إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )[37]. (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا )[38]. (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ )[39].
ومن ترك فريضة أو فعل كبيرةً وتدارك أمرهُ بالتوبة قبل أن يَحْضُره الموتُ كان حقا على الله أن يتوب عليه ويُدْخله الجنة بغير عذابٍ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً )[40].
ومن أصر على ما فعل حتى مات على ذلك لم يكن حقا على الله أن يتوب عليه: ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)[41] أي ليست التوبةُ حقا له بل يبقى الفصل في عقوبته مفوّضاً إلى مشيئة الله, فإن شاء عفا عنه بفضله, وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه إلى الجنّة ولو بعد حين.
وهذا هو محلَّ الفرق بين رأي أهل السنة وأهل البدعة. فإذا تنزّلَتِ الأدلّةُ الشرعية على هذا التفصيل التقت وتعانقت. ومن حاول أن يضعَ في المسألةِ رأيا آخرَ فلا مناص له من أن يُعْمِلَ بعض الأدلّة ويُهْمل بعضها, فيكون كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. وإذا كان كلام العاقل الصّادق يجب أن يُفسِّرَ بعضُه بعضاً ويُرَدَّ بعضُهُ إلى بعضٍ, لأنه كلَّهُ حقٌّ والحقُّ لا يناقِضُ الحقَّ فكيف بأحكم الكلام وأصدقِهِ؟ ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا )[42] ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا )[43]


(البحث الثاني)
ما حظُّ كلمة "إيمانٍ" وكلمةِ "إسلام" من هذه العناصر؟
هل تأخذُ كلُّ واحدة قسمًا، فيختص الإيمانُ بالعنصر الأول الاعتقادي، والإسلامُ بالعنصرين الآخرين، كما كانا في أصل اللغة؟ أم صار كلُّ منهما في لسان الشَّارع يدلُّ على هذه المجموعة الدينية بأصولها وفروعها فيكونان مترادفين(44)؟
والذي يستقرئ بنفسه مواردَ الاستعمال القرآني يرى أن الأمرَ ليس مطَّردًا على أحد الوجهين، بل يختلف.
فتارةً يُرادُ من الإيمان خصوصُ الاعتقاد الباطني وتارةً يراد به الدينُ بجملته. وكذلك يردُ بالإسلام تارةً خصوصُ الانقياد الظاهري وتارةً يراد به الأمران جميعًا.
فالإيمان في نحو قوله تعالى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}(45) باطني فقط، وفي نحو قوله:{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا؟}(46) جامعٌ للباطن والظاهر بدليل النشر في الآية التي بعدها. كما أن الإسلام في نحو قوله:{ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}(47) هو الظاهريُّ فقط، وفي نحو قوله:{ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(48) وقوله:{ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}(49) وقوله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا}(50) يراد به مجموع الأمرين.
وقد يستخلصُ المتتبعُ لتلك الاستعمالات المختلفة "قاعدةً استقرائيةً" وهي أنهما "إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا"(51). "أما أنَّهما إذا اجتمعا افترقا" فمعناه أنهما إذا ذكرا لفظًا في سياق واحد كان لفظُ الإيمان باقيًا على أصل اختصاصه بالاعتقاد، والإسلامب اقيا على اختصاصه بالعمل. وسواءٌ في هذا أن يكونا مُثبَتَيْنن أو منفيين أو أحدُهما مُثبتًا والآخر منفيًا. فمثالهما مُثبَتَين قولُه تعالى:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(52) وقوله:{ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(53) مَدَح أهلَ ذلك البيت بالإيمان، أخذًا من قاعدة الاستثناء، ثم مدحهم بالإسلام علاوةً على ذلك، كأنه قال: فما وجدنا غير بيت واحد من أولئك المؤمنين الذين جمعوا إلى هذا الإيمان حليةَ الإسلام. ومثالهما منفيين أن تقول في كافر مجاهرٍ: إنه لم يؤمن ولم يُسلم. – على منهاج قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(54). ومثالهما مختلفين قوله تعالى :{ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}(55).
" وأما أنهما إذا افترقا اجتمعا" فمعناه أنه إذا ذُكر أحدُ اللفظين في معرض المدح والثناء بدون الآخر، ولم تكن هناك قرينةٌ(56) دالةٌ على اختصاص المذكور بأصل معناه كان المُرادُ بالمذكور معناهُ ومعنى صاحبه، ولم يكن تركُ الآخر إغفالاً له، وبالتالي في ذهن السامع.
أما في قصد الشارع فلأن كلا الأمرين عنده مطلوبٌ، وقد جعلهما قوامًا لحقيقة واحدة هي الدينُ، وناط باجتماعهما مصالح في العاجل وربط بهما أجزيةً موعودة في الآجل، بحيث لا يكفي أحدُ الأمرين وحدَهُ في تحقيق تلك المصالح العاجلة ولا في استحقاق تلك الأجزية الآجلة على وجه خالص، لأن الظاهر بدون الباطن كتمثال لا روحَ فيه يحرّكه، والباطنُ بدون الظاهر كمريض مُقعَد تعطلت حركَتَه لعارض فكلاهما قاصرٌ عن تحصيل المصلحة المطلوبة وإن تفاوتَ المدى. ثمَّ الظاهر وحدَه البتة غيرُ مقبولٍ، والباطن وحدَه غيرُ مضمون القبول بل هو مظنةُ العَطَب، هيهاتَ أن يصلَ بصاحبه إلى برّ السلامة قبل أن يوقعَه في أَتُّون الغضب، وعن استحقاق النعيم الخالص في الآجلة، ثبَتَ أنَّ كُلاًّ منهما عند الله مُتمِّمٌ لصاحبه كشرطٍ في استحقاق الثناء الجميل.
وإذا عُلم ارتباطهما هكذا في قصد الشارع انصرف إلى حقيقته المستجمعة لشروطها ومُتمِّماتها المعتبرة في نظر المتكلم. فلفظُ "شجرة" مثلاً حينما نسمعه في وصف حديقة غناء أولَ ما ينصرف الذهنُ منه إلى تلك المجموعة المعروفة التي سرى ماءُ الحياة في باطنها وبرزت في صورةٍ ناضرة يتفيأ ظلُّها ويُتفكَّهُ بثمرها، ولا ينصرفُ إليها وقد اجتُثَّت من الأرض، ولا إلى جذوعها مجردةً عن أغصانها، أو أغصانها مقطوعةً من أصولها، إلا لقرينة تدلُّ على ذلك.
وعلى هذا فإذا مُدح المُسلم أُريد به المسلم المؤمن أي الذي يكونُ عنوانُه الظاهريُّ تَرجمانًا صادقًا لما في نفسه. وإذا مُدح المؤمن أُريد به المؤمنُ المسلم أي الذي أخذت حقيقةُ الإيمان عنده مظاهرها وثمراتها العملية. تَرَوْنَ هذا المعنى واضحًا في قوله تعالى:{ :{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا؟}(57) وقوله تعالى:{ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(58) وأشباههما. بل المفهومُ من لغة القرآن أن عامة البشارات الكلية التي بُشِّر بها المؤمنون إنما هي موجهةٌ في القصد الأوّلي إلى المؤمن المتحلي بالعمل الصالح، فإن ذُكر قيدُ العمل صريحًا فواضحٌ، وإلا فهو ملاحظٌ لأنه من توابع الإيمان المحمود. أما المؤمنُ الظالمُ لنفسه فلا يُذْكّرُ من أجله قصدًا إلا ما كان من النصوص مُنبِّهًا على أن مآله الجنةُ ولو بعد حين، أو أنه قد يُغفَرُ له إذا شاء الله ذلك، أو ما أشبه هذه المعاني مما لا يُعدُّ بشارةً كليةً، وإنما يُعَدُّ تعزيةً للنفس إذا كادت تحترقُ بنار اليأس من رحمة الله، وترويحًا لها بنافذةٍ من نوافذ الأمل في فضله.
وبالتطبيق على هذه القاعدة تعرفون لماذا عُرِّفَ الإيمانُ في حديث "جبريلَ" بخصوص التصديق، وعُرِّفَ "الإسلامُ" فيه بخصوص الامتثال؟ ولماذا حين عرّفَ اللهُ الإيمان عرَّفهُ بجامع الوصفين؟ فقال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(59) وقال:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(60).
                               (بقي بحث ثالث)
وهو أنه كثيرًا ما ورد في القرآن التعبيرُ بزيادة الإيمان، وكلُّ شيءٍ يقبلُ الزيادة يقبل النقصان: فإلى أي المعنيين للإيمان تنصرفُ الزيادة والنقصُ أَئلى نَفْس التصديق أم إلى المجموع الذي عرفناه؟
والجواب أنه بكلا معنييه قابلٌ للزيادة والنقصان، لكن النقصان له حدٌ معيَّنٌ يقف عنده وهو أن يكون انتقاصًا من الزيادة لا من الأصل، فإذا جاوز ذلك لم يُسَمَّ نقصانًا بل يُسمَّى ذهابًا ومَحقًا وبطلانًا.
أما الإيمانُ "بالمعنى الجامع" فأمرُ الزيادة والنقصان فيه ظاهرٌ، لأنه كلما ازداد جُزْؤُهُ العمليَُ ازداد مجموعُه نموًا. حتى إذا استكمل فرائضَه ونوافله ولم تَشُبْهُ شائبةُ الانحراف عن حدوده سُمي إيمانًا كاملاً، وكان مثلُهُ كمثل الرجل المجتَمِعِ الخَلْق الذي لا ينقصه شيئٌ من مقومات بُنيته ولا من أجزاء زينته، وبعكس ذلك كلما فُقِد شيءٌ من أجزائه العمليةِ قليلاً أو كثيرًا نقص من مجموعه بقدر ذلك فصار مشوهًا كالرجل الذي بُتر عُضْوٌ من أعضائه أو أكثر، أو عرِّي من أثوابه أو من بعضها. حتى إذا وصل مِعْوَلُ الهدم إلى الأساس وهو اليقينُ والاطمئنان سواءٌ أكان ذلك عن جَحْدٍ أو شك أم عن إباء وبغض زال اسمُ الإيمان بالكلية وصار كَمَن قُطِعت رأسه وزهقت رُوحُه.
وإنما الكلامُ في الإيمان "بمعنى التصديق واليقين نفسه" فالمشهور عند العلماء أن التصديق نفسَه لا يزيد ولا ينقص.
والصواب أن التصديق نفسَه تَعرضُ له الزيادةُ والنقصُ من جهات ثلاث: من جهة وسيلته، ومن جهة مُتَعَلَّقِه، ومن جهة ثمرته.
"أما تفاوت التصديق من جهة وسيلته وهي الأدلة" فبيانه أن النفس الإنسانية في تأثرها بالمعلومات المختلفة مَثَلُها كَمَثَلِ الأجسام الصُّلبة في انفعالها بالخفر والنَّقر. فكلما كانت آلةُ الحَفْر حَادَّةً وكانت ضرباتُ الحفَّار متكررةً كان الأثرُ أشدَّ غَورًا وأبعَدَ عمقًا وأطول عُمرا. كذلك كلما كان الدليل الذي يُثبتُ المعلومَ في النفس أوضح حُجّةً وأقربَ إلى البديهة وأبعد عن الشُّبهة وكلما تكاثرت الشواهد والبراهينُ التي تؤيدُ ذلك المعلومَ وتَمُدَُه كان أشَدَّ رُسُوخًا في النفس وأعمق أثرًا في القلب فلا تُزلزلُه الشُبُهاتُ ولا تَمحوه العوارضُ والفتنُ. وبِضِدَّ ذلك يكون الأثرُ سطحيًا ضعيفًا قابلاً للمحو بسرعة أو بطءٍ على حسب عُمقِهِ وغوره.
فإن كان عندكم عجيبًا أن تتفاوت دَرَجاتُ اليقين مع بقاء اسم اليقين فيه وظَنَنْتُمْ أن اليقين إذا نقص صار ظنَّاً أو شكًا او ما دون ذلك. فانظروا إلى قضيةٍ وصل إليكم علمُها عن طريق الأخبار المتواترة ثم عن طريقِ المشاهدة، وقارنوا في أنفسكم بين دَرجة العلم في الحالين. فهل من يعلمُ منكم بأن "الحجاز" في عصرنا هذا أصبح في استتباب الأمن مَضرِبَ الأمثال، وانه وَصَلَ في ذلك إلى درجةٍ تكادُ لا تكون إلا في الحلم والخيال، هل من يعلم ذلك وهو لم يره يستوي هو ومن رآهُ رأي العين؟ وكيف يستويان! وهل يكون الخبرُ كالعيانِ! {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(61) بل العيانُ نفسُه يختلفُ، فليس العيانُ الذي يقعُ مرةً ثُمَّ تَلْحَقُهُ غَيْبَةٌ عن الشيءِ المُعايَن كالعيان الذي يتكررُ كل يوم: فإن هذا أبعدُ عن عُرُوض الشُّبَه ومُعارضَة الأوهام.
"واما تفاوتُهُ من جهة مُتَعَلَّقِهِ وهي القضايا المُصَدَّقُ بها" فبيانهُ أن هذه القضايا قد تؤخذُ بطريق إجماليٍّ لا اطلاعَ معه على شيء من تفاصيلها، وقد ينضم إليها شيءٌ من تلك التفاصيلِ قليلٌ أو كثيرٌ. فمن اعتقد مثلاً صِدقَ الرسول وأمانته لشهادةِ المُعجزةِ بذلك، وبدون أن يقف على تفاصيل الدين الذي جاء به حكم بصدقه فيه على الجملة، ليس كمن حكم بصدقه وهو واقفٌ عليه جملةً وتفصيلاً، فالعلمُ الإجمالي علمٌ بمعلوم واحد، والعلمُ التفصيلي علمٌ بمعلومات كثيرة وكلما زاد الاطلاعُ على التفاصيل كان أُفُقُ العلم أوسَعَ، وكانَ إشرافُهُ أعلى وأعَم.
ولا تقولوا إن هذه المعلومات الكثيرة متى كانت داخلة في موضوع ذلك الأمر الإجمالي صارت معلومةً بعلمه سواءٌ اطَلَعَ عليها أو لم يَطّلع عليها. لأن هناك فرقًا شاسعًا بين حصول الشيء بالقوة وحُصُولِه بالفعل. ومَثَلُ هذا كَمَثَلِ الفرق بين الخلية الواحدة قبلَ الإخصابِ وبينها بعدَ الإخصاب والانقسام إلى خليَّاتٍ كثيرةٍ، أو كَمَثَلِ حبَّةٍ واحدة وحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائةُحبة، بل لماذا نذهب بعيدًا؟ فهل من يعرف القاعدة مجردةً كمن يعرفها بمثالها؟ ومن يعرفها بمثالٍ واحد كمن يعرفُ لها أمثلةً عدةً؟ وجملةُ القولِ أنَّ الاطلاع على التفاصيل إن لم تكن مما يزيد العلم في نفسه قوةً فإنه يعطيه كثرةً، لأنه يكثر معلوماته، وإذا كثرتْ معلوماته كثرتْ تعلَُقاته بقدر تلك المعلومات، وإذا كثرت تعلقاته كثر هو أيضا لأن العلم المتعلق بجزيئة ما غير العلم المتعلقب جزيئة أخرى فهاهنا زيادة على كل تقدير، إن لم تكن زيادةً في الكيفية فهي زيادةُ في الكمية.
هذا كله لو كانت التفاصيل والجزيئات سواءً في انتسابها لكُليِّها، بحيث يكفي دليلُ الكلي للإقناع بها وتكون هي بحاجة إلى ذلك الدليل. لكن قد يبلغ بعضُ الجزئيات مرتبةً من الجلاء بحيثُ تصلح هي شاهدًا آخرَ على صحة كُلَِيَِّها، ويصل بعضُها من الخفاء إلى حيثُ لا يكفي ذلك العلمُ الإجمالي في تحصيل اليقين بها بل إنها تعارضه بحسب الظَّاهر. فهذان النوعان يحصل بالاطلاع عليهما فرقٌ جوهري في نفس العلم. والواقع أنَّ هذين النوعين موجودان في موضوعنا بوضوح.
فهناك "نوعٌ" من المعلومات الدينية يحملُ في نفسه شاهدَ صِدْقِه وصدقَ تلك الكلية الدينية التي هو داخلٌ فيها. ولو أني أملك من الوقت أن أدلَّكم الآن على أمثلةٍ من هذا النوع لفعلتُ، ولكنكم لو اطَّلعْتُم على كتب السنة الصحيحة أو قرأتُمُ "القرآن الكريم" بتدبَُر فإنكم تجدون هذه الأمثلة بأنفسكم في طائفة من الأحكام العادلة الحكيمة التي لا يَسَعُ نفسًا مؤمنةً ولا كافرةً إلا الاعترافُ بعدالتها وحكمتها، وطائفة من الأخبار الصادقة التي قد وقع بالفعل كما أخبر، وفي تلك السيرة الطيبة التي هي المثل الأعلى في متانة الخُلُق الشخصي وسمو الحكمة السياسية والجمع بين البشرية والمَلَكِيةِ في حدٍَ وَسَط. فهذا النَّوعُ يعطينا من زيادة الإيمان ما تعطيه كثرةُ الشواهد والأدلة على المعلوم الواحد كما بيَّناه في الجهة الأولى، بل هو أجدى على الإيمان وأدنى إلى إحياء اليقين في القلوب من أدلة المتكلمين مجتمعةً.
وفي مقابل ذلك "نوعٌ آخرُ" هو في الظاهر يُعّدَُ نقضًا لتلك الكلية، وشاهدًا عليها لا لها، كتلك المشكلات والمتشابهات التي لا يظهر وجهُها لائحًا كالشمس، فتنفتح منها أبوابٌ من الفتنة لبعض العقول، وربما شوشت عليها عقيدتها الإجمالية، فرُبَ مؤمنٍ بصدق الرسول أو حكمته على الجملة، لو اطَّلّعَ على شيءٍ من قوله أو فعله أنكره أو توقَّف فيه قبل أن يقف على تأويله، فيقول: لعلي كنت مخدوعًا في أمره وربَّ آخر لا يلمس في ذلك المشكل شيئًا من خشونة الشُّبْهة، ولا يجد في صدره حرجًا منه، بل لا تزيده التجاربُ إلا تأييدًا ليقينه الأول فيه.ففي هذا النوع من التفاصيل تُختَبَرُ قوة الإيمان وثَبَاتُهُ، وفيه تتفاضلُ درجاتُ الإيمان. فهذا الذي يقف على الجزئيات المختلفة في الجلاء والخفاء، ويستوي المحكمُ منها والمتشابهُ في درجة واحدةٍ عنده من الثقة والاطمئنان، أتمُّ إيمانًا من ذلك الذي يتوقف لحظةً في قبول ما لا يبدو وجهُهُ للعقول ثمَّ يُذْعِنُ بعد ذلك. وكلاهما أقوى إيمانًا من ثالثٍ لو امتُحِنَتْ نفسُه أمام هذه المشكلات واصطدمت عقيدتُه بهذه المتشابهات لم تلبَثْ أن تنهار.
ومن هذه الجهة تعرفون أن إيمان الصحابة كان أقوى من إيماننا، لأنهم شاهدوا من هذين النوعين مالم نشاهد، فقد كرعوا من منابع الدين الصافية حتى ارتووا. فلما عرضت لهم تلك العقبات الصارخة عبروها ونَجَوا، أما نحن فما يُدرينا لعلَّ أحدَنا لو شهد أول مرة ما شهدوا من مضايق الأفهام ومزالِّ الأقدام لَرُبَّما كانت له حالٌ غير هذه الحال. فنحنُ بالنسبة إليهم كالعوامَّ بالنسبة للعلماء. بل إن من يطالعُ كتبَ السنة يرى أن الصحابةَ أنفُسَهُم يتفاوتون في هذا الباب تفاوتًا بعيدًا، وأن الذي كان أسبَقُهم دائمًا إلى الإيمان والتصديق، هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، ومن أجل ذلك سُمَي" الصَدَيق".
"وأما تفاوته من طريق ثمرته وهي العمل" فبيانهُ أن الفكرة النظرية التي تأخذ آثارها العلمية تبقى ماثلةً في الوجدان لا تزاحمها الأضدادُ ولا يطغى عليها النسيان لأنها حاضرةٌ غالبًا في مركز الفكر – أو كما يقول علماءُ النفس في بؤرة الشعور – فهي تستمد من العمل بها قوةً وثباتًا وإشراقًا حتى تصبح للنفس مَلَكَةً وخُلُقًا، وكذلك يستمدَُ منها العمل سهولةً ويسرًا عند العودة إليها مرةً أخرى . وهكذا كلما ازداد تكرَُرُ العمل بمقتضى تلك الفكرة ازدادت قوةً في نفسها واستعدادًا لإنتاجِ أمثاله من الأعمال بدون تكلَُفٍ، وازداد العمل لُصوقًا بالنفس حتى يكون انتزاعُهُ ومفارقتُه أشْبَهَ بانتزاع الغرائز. ولذلك قيل:"العادةُ طبيعةٌ ثانيةٌ". وبعكس ذلك من كَثُرَ تهاونُه بتطبيق العلم على العمل نَقصَ من قوة علمه وثبات عقيدته بمقدار تهاونه بالعمل وتضييعه له .
فكذلك نقول: إن من اعتادَ طاعة الله تعالى ازداد إيمانه، ومن كثرت مخالفته لأوامر الله ضعفَ  يقينُه إلى حدٍ ما، فإن هو اعتاد ذلك لم يؤمَنُ ثباتُهُ على الإيمان. نعم، المرآةُ قد تصدأ وتنجلي، ولكنها إذا ما تراكم عليها الصدأُ ولم تعالَجْ بالجلاء آنًا بعد آن لم تلبثْ أن يأكلَ الصدأُ منها العُنْصُرَ المضيءَ فيها. والمعاصي – لو تعلمون – هي الصدأ الذي يغشى وجه الإيمان، وجلاؤها وهو التوبة والعمل الصَّالح. فمن تركها بغير جلاءٍ لم يأمن العاقبةَ في دينه. نبَّهت على ذلك الأحاديثُ الصحيحةُ التي سنرويها لكم في الفرق بين من ترك صلاةَ الجمعة مرةً ومن تركها ثلاثَ مرات فقد قال –صلى الله عليه وسلم -:" من ترك الجمعةَ من غير عُذرٍ فليتصدَّقْ بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار. وفي رواية: بدرهم أو بنصف درهم"وقال:" من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كُتِبَ من المنافقين" وفي رواية:" من ترك ثلاثَ جمعٍ تهاونًا بها طبع الله على قلبه".فانظروا إلى آثار العمل في النفوس، وكيف أنها بالمعصية تنطمس وتخبو، وبالطاعة تنصع وتزكو:{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(62) فحوطوا إذًا جوهرة إيمانكم بصوانٍ من العمل، فإن الجواهر النفسية إذا جُرَِدّت من أصدافها والأشياءَ الغضَّةَ إذا عُرِّيت من غلافها صارت عُرضةً للآفات والتقلَُبات، وأوشكت أن تأخذها الحوادثُ.
كانت هي الوسَطَ المَحمِيَّ فانْتَقَصَتْ -------- منها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفَا(63)
وكذلك المصباح إذا لم تكن له زجاجةٌ ولم يوضع في مشكاة لعبت به الرياح يمنةً ويَسرةً، وربما عصفت به عاصفة فأطفأتْ نوره. فاحفظوا مصباح إيمانكم في مشكاة من تقوى المعاصي تدرؤون بها عنه ريح الشيطان وعواصف الفتن:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(64). وارفعوا على أساس الإيمان بنيانًا من فعل الخيرات تزدادوا إيمانًا إلى إيمانكم ونُورًا إلى نورِكم:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(65).
لقد أطلتُ عليكم كثيرًا في هذه البحوث التمهيدية. ولكني أردت أن تكونوا على بيَِنة من هذه الحقائق التي منزلتها من أصول الدين منزلتها، كما أردت أن أضع لكم بين يَدَيْ أحاديث هذا الكتاب – أعني كتاب الإيمان والإسلام – ما إن تفهمتموه حقَّ الفَهم كان نبراسًا يُضيءُ لكم وجه الصواب في مغزى هذه الأحاديث، وأساسًا يُبنى عليه تأويل ما قد يُشكِلُ ظاهره منها، والله هو الفتاح العليم.
(1)سورة قريش:4
(2)سورة البقرة:136
(3)سورة البقرة: 75
(4) وإذا تأملتم معنى الإسلام في كلا استعماليه وجدتموه لا يخلو من معنى السَّلام وهو الأمان من المخاوف، والسَّلامةُ من العيوب، ومن ذلك اسمه تعالى "السلامُ".
(5) أعني من فقه اللغة.
(6)سورة البقرة:256
(7)سورة العنكبوت:52
(8)سورة سبأ:41
(9)سورة يوسف:106
(10)سورة البقرة:133
(44) لا تنسوا أن محل البحث فيما إذا لم يكن لهما متعلَّقٌ في الكلام. أما إذا ذُكر لهما متعلَّقٌ بأن قيل "إيمان بكذا" أو " إسلام لكذا" فإنهما باقيان على المعنى اللغوي الأعم قطعًا، كما تقدم لكم.
(45) سورة غافر:28
(46) سورة السجدة:18
(47)سورة الحجرات:14
(48) سورة البقرة: 132
(49)سورة آل عمران:19
(50)سورة آل عمران:85
(51) هذا حكم لا يختصُّ بلفظي اٌلإيمان والإسلام، بل يجري في كثير من ألفاظ اللغة العربية التي تختلف معانيها بحسب الدلالة المطابقية ولكنها يكون بين معانيها ارتباط عقلي أو عرفي أو وضعي. فإذا ذكرت مجتمعةً فُهِمَ من كلِّ واحدٍ منها معناه الأصليُّ فقط دفعًا للتَّكرار، وإذا ذُكر بعضُها كان ذكرهُ بمفرده مغنيًا عن ذكره الباقي، حتى كأنَّ كل واحد منها صار عُنوانًا على مجموع تلك المعاني.
(52) سورة الأحزاب: 35
(53) سورة الذاريات: 35و36
(54) سورة القيامة:31و32
(55)سورة الحجرات:14
(56) احتراز عما في قوله تعالى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ} وقوله:{ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}"سورة النحل:106"، ونحوهما.
(57) سورة السجدة:18
(58)سورة البقرة:132
(59)سورة الحجرات:15
(60)سورة الأنفال:2و3
(61) سورة البقرة:260
(62) سورة الشمس:9و10
(63) ديوان أبي تمام – شرح التبريزي: 2/374، وفيه:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ---- ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفًا
(64) سورة النور:63
(65) سورة محمد: 17




[11] سورة النساء: 145
[12] سورة العنكبوت: 2-3
[13] سورة النساء : 123
[14] سورة الزلزلة : 7-8
[15] سورة ص: 28
[16] سورة الجاثية : 21
[17] سورة الحجرات : 9
[18] سورة الحجرات : 10
[19] سورة النساء : 16
[20] سورة البقرة : 178
[21] سورة النساء : 48 ،وهذا نص لا يقبل التأويل. فإن ظن ظانّ إمكان تأويله وزعم أن الذنب الذي يشاء الله مغفرته هو الصغائر قلنا: هذا تعْكيس للفهم, فإن الله عمم في الذنب وقيّد بالمشيئة في المذنب, ولو كان كما زعم لقال "يغفر ما شاء مما دون ذلك". على أن الصغائر مغفورة بلا قيد متى اجتنبت الكبائر ( إنْ تَجْتَنِبوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) سورة النساء : 31. وإن زعم أن الذي يشاء الله المغفرة له هو المذنب الذي تاب من ذنبه قبل موته قلنا: فأي فرق إذا بين المشرك وغيره؟ فإن ( قُلْ للّذينَ كَفَرُوا إن ينْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قدْ سَلَفَ ) سورة الأنفال : 38. ثم إن زعم زاعمٌ متفلسف أن الآية لو أُخِذَتْ على عمومها لكان كلّ ذنبٍ غير الشركِ قابلاً للمغفرة ولو كان نوعا آخرً من الكفر, كإنكار بعثٍ, أو تكذيب رسولٍ, أو عداوة مَلَكٍ أو نحو ذلك, فليزم تخصيصها فلا تبقى حجّةً قاطعةً, قلنا: هذا جهل باللغة العربية, فإنه ليس كلُّ ما غاير الشرك يسمّى « دونَ الشّرك » بل ما دون الشرك هو ما كان أدنى منه مرتبة وأحطّ منزلة, ولا شك أن سائر أنواع الكفر هي مع الشرك في مرتبة واحدة بنص القرآن. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ) سورة النساء : 150-151. (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ) – الآيتين البقرة: 97. وإنما الأمر الذي دون الشرك هو ما كان من المعاصي العمليّة غير مجامع للكُفران,فهذه لا تعادل الكفر ولا تساويه، كما أن المبرات العملية التي لا تجامع الإيمان هي أيضا لا تعادل الإيمانَ ولا تساويه (كالّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) سورة البقرة: 264. ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعمارَةَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنِدَ اللّهِ) سورة التوبة: 19

[22] سورة هود : 107
[23] صحيح مسلم: 1/189 – كتاب الإيمان, باب: (86) الحديث رقم: 338
[24] صحيح مسلم: 1/182-184 –كتاب الإيمان, الحديث رقمك 326, وانظر اللؤلؤ والمرجان 1/48-49, كتاب الإيماان- الحديث رقم: 119.
[25] فقوا عند هذه النظرات العلمية قليلا, ففيها –إن تأملتم- تأويل قوله عليه السلام: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.»
[26] سورة الأنبياء: 47
[27] سورة آل عمران: 7.
[28] مثل قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا) سورة الأحزاب: 47. وقوله (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) الجن: 14. وقوله: (قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) سورة الأعراف: .32 وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) سورة الأنعام: 82. والظلم ههنا فسره النبي بالشرك. ومثل قوله تعالى: لا يَصْلاهَا إلاَّ الأَشْقَى الّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى) سورة الليل: 15-16. وقوله: (وَهَلْ نُجازِي إلاَّ الكَفُورَ) سورة سبأ: 17. ونظير هذا من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فبشّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة, قال أبو ذرّ: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق » رواه الشيخان وقوله: « من شهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله حرّم الله عليه النار » رواه مسلم.
[29] مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) سورة الجن: 23. وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  ) سورة الأنعام: 158. وقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) سورة النساء: 18. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن,  ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمنٌ, ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمنٌ, ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمنٌ.» رواه الشيخان. وقوله: « من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنّة. قالوا: ولو شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو قضيباً من أراكٍ.» رواه مالكٌ ومسلمٌ. هذا إلى كثير من آيات الوعد بالجنة قُيّدتْ بالعمل الصالح مع الإيمان.
[30] سورة آل عمران: 192.
[31] سورة السجدة: 20.
[32] سورة الرعد: 6.
[33] ديوان طرفة بن العبد: 175
[34] سورة النساء: 65
[35] سورة غافر: 28
[36] سورة النحل: 106
[37] سورة هود: 114
[38] سورة النساء: 31
[39] سورة النجم
[40] سورة النساء: 17.
[41] سورة النساء: 18.
[42] سورة آل عمران: 7.
[43] سورة النساء: 82.

تعليقات

المشاركات الشائعة