مقدمة كتاب" المختار من كنوز السنة" للدكتور محمد عبد الله دراز

مقدمة كتاب" المختار من كنوز السنة النبوية شرح اربعين حديثًا في أصول الدين" 

بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله) الذي نزل أحسن الحديث كتابا لا يضاهيه كتاب من بعده ولا من قبله، وأرسل نبيه "محمدا" ليبين للناس ما نزل إليهم بقوله وفعله، وآتاه جوامع الكلم، وأصول الحكم، وجعل أحسن الهدي هديه، وأعظم الخُلُق خلقه، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين، وسائر الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم يهتدي المهتدون وعلى آثارهم يقتدي الموفَّقون، وحسن أولئك رفيقا.
( أما بعد ): فإنه لما أُسند ألي درس الحديث النبوي لطلاب كلية أصول الدين في أبواب مختارة من كتاب " تيسير الوصول" الذي وضعه العلامة" الزبيدي" الشافعي المتوفي سنة 944 من الهجرة، وكان هذا الكتاب كأصله وأصل أصله(1) مجموعًا من الكتب الستة المشهورة: " موطأ مالك" (95 – 179 ه) و" صحيح البخاري" (194 – 256) و" صحيح مسلم" ( 206 – 261 ) و " سنن أبي داود" ( 202 – 275 ) و " جامع الترمذي" ( 200 – 279 ) و " سنن النسائي" ( 214 – 303) مع بعض زيادات انفرد بها عنهم " رزين العبدري"(2).
وكان صاحب" التيسير" كغيره إذا نسب الحديث إلى مرجع من المراجع اكتفى بذكر اسم من أخرجه، فيقول أخرجه البخاري أو رواه أبو داود مثلا، من غير تعيين لموضوع إخراجه في أي كتاب، وفي أي باب من أبواب ذلك الكتاب.
مع أنه لا غنى للناظر في الحديث عن معرفة درجته قوة وضعفا، ومعرفة مورده إن كان له مورد خاص يستبين به معناه من مساقه، ومعرفة ما عسى أن يكون في بعض رواياته من زيادة تفسَِر ما أُجمِلَ في البعض الآخر، ومعرفة أقوال الناس فيه ليكون على بينة من أمره قبل أن يخوض فيه برأيه.
وكل ذلك لا يتم إلا بالوقوف على الحديث في مكانه، واستقائه من منبعه وهو مطلبٌ شاقٌ يحتاج إلى صبر وجَلَد في البحث والتفتيش، إذ كثيرا ما يكون للحديث الواحد مناسبة لعدة أبواب فيوجد في بعضها دون بعض، وقد لا يوجد في شيء من مظانه وإنما يعثر عليه في مكان لا يُظَنُّ ورودُه فيه. مثال ذلك الحديث الذي رواه صاحب "التيسير" (ج/1 – ص 30) " عن " سهل بن أبي أمامة" أنه دخل هو وأبوه على "أنس بن مالك" فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاةُمسافر. فلما سلّم قال" أبوأمامة" : يرحمك الله! أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيئُ تنفَّلتَه؟ قال "أنسُ": إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأتُ إلا شيئًا سهوتُ عنه. ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تُشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }(3) قال صاحب " التيسير" أخرجه " أبوداود"(4). فأنت إذا أخذت تستقرئ مظانَّ هذا الحديث فيه:" صة المسافر". أو"صلاة النافلة"أو " تخفيف الصلاة" أو " ذمِ التعمق في الدين" الخ لم تجده حيث تظن، ولكنك تجده في باب " الحسد" من" كتاب الأدب"، ذلك أن للحديث بقيةً تناسب ذلك الباب لم يخرجها صاحب "التيسير" اكتفاءً منه بما يناسب مقصده الذي أورد الحديث من أجله، وهو الاقتصاد في الأعمال.
ومثال آخر: الحديث الذي رواه " مسلم" و" النسائي" وغيرهما عن " معاوية بن الحكم السَُلمي"، ومحصوله أنه لطم جاريته ثم ندم وأراد أن يعتقها ، فامتحنها النبي صلى الله عليه وسلم وقال له(أعتقها فإنها مؤمنة)(5) والحديث عند "مسلم"و "النسائي" ليس في شيء من المظان التي يرشد إليها نصُّه، وإنما هو عندهما في كتاب الصلاة، وذلك أن أصله يشتمل على جملة من الأحكام، وصدره متعلِّق بتحريم الكلام في الصلاة، ولم ينقل صاحب "التيسر" منه إلا عجزه المناسب للموضع وهو بيان حقيقة الإيمان. فإذا كان هذا هو الشأن في الأحاديث القولية المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بالأحاديث الوصفيَّة التي لا تشتمل على لفظ من ألفاظ النبوة! بل ما ظنك بالأحاديث المعلَّقة التي لا يُذكرُ سندُها، والآثار الموقوفة المنسوبة إلى الصحابة، أو المقطوعة أي: المنسوبة إلى التابعين.
من أجل ذلك كان أولَ ما عنيتُ به عند الدِّرس استخراجُ كل حديث نُسب إلى الكتب الستة أو بعضها من موضعه الذي ورَد فيه منها، ثم تَتَبَُعُ الزيادات المفيدة التي توجد في بعض رواياته، ثم الرجوع إلى ما تيسر من أقوال الشَُراح وأهل اللغة فيه، وبيان معناه على وفق ذلك مع ما يفتح الله به من زيادة أو تنقيح وخصوصًا فيما يتصل بالمعلومات الدينية العامَِة التي تعني طالب أصول الدين. واعلم أنك لن تجد ههنا من الأحاديث ما فيه تفصيل لكيفية الوضوء والصلاة وأحكام الطلاق والظهار والمواريث والحدود ونحوها من الفروع التي أوسعها الفقهاء بحثًا واختلافًا، فإن طالب تلك الفروع إن كان من الجمهور فكتب الفقه أدنى إلى تناوله، وإن كان من الخواص، أعني من طلاب الاجتهاد أو الترجيح في الشريعة، فإنه يجد ضالته عند " ابن تيمية الأكبر" في " المنتقى" و " ابن حجر" في " بلوغ المرام" وأمثالهما من الكتب التي عُنيت بجمع أحاديث الأحكام خاصة وعُنيت شروحها ببيان وجوه الاستنباط منها، ووصف معترك الخلاف فيها بين المجتهدين.
ولكنك ستجد إن شاء الله في هذا " المختار" ضربًا من الحديث كان متفرقًا في كتب السنة تفرُّق الذهب في مناجمه ولا أعلم أحدا أفرده بالتأليف قبل اليوم على شدة حاجة الناس إليه وقلِّة اختلاف الفقهاء فيه. هذا الضَّرب من الحديث منه تُستَمد أصولُ العقائد الإسلامية، وأصول الأحكام العملية والآداب الشخصية، والاجتماعية، والسيرة الصحيحة النبوية ومنه تتجلَّى عظمة الإسلام في متانة عقائده، وجماله في سهولة تعاليمه وسمو مقاصده، وبه تجد الدعوة إلى الدين مساغًا في نفوس جاهليه، وتزداد محبته تمكنًا في قلوب أهليه وفيه ما يحتاجه العقل من تثقيف، والنفس من تهذيب وإليك نموذجًا من هذه المجموعة: ستسمع الحديث عن "مبدأ الوحي وحقيقته"، وعن:" معنى القدر وعقيدته"، وعن " حدود الإيمان وأركانه"، و" الإسلام وشرائعه"، و " آداب العلم وفضائله" وسترى " صورة هَدي النبي صلى الله عليه وسلم، في عباداته، وسيرته في بيته بين أزواجه"، و"سيرته بين أصحابه وأعدائه" وتقرأ "أخبار غزواته وفضائله.
ومعجزاته وفضائل أصحابه وإخوانه الأنبياء"، وتجد آدابًا عامةً في الطعام واللباس والطب والتداوي والبيع والشراء والكسْب واليمين والصحبة والضيافة ، وتقف على شيء من " أحكام العوائد الفاشية، كالتصوير والغناء واللهو والسحر والكهانة والطيرة والفأل وتعبير الرؤيا". ثم تأخذ ما شئت من أحاديث الأخلاق والحكم والأمثال والمواعظ والرقائق ،إلى أشباه هذه المعاني.
وقد جعلتُ في آخر كل حديث مفتاحًا بين موضعه من هذه الأصول الستة بتعيين الباب والكتاب، ليرجع إليه من شاء. وربَّما كفى في الحديث المشترك بيان موضعه ف البعض، وخصوصًا الصحيحين" أو أحدهما، لعناية الشَُراح فيهما بذكر ما زاده غيرهما، أما إذا انفرد بأخراجه واحدٌ فقد لزم بيانه أيًا كان. والله المستعان..
أسأله تعالى أن يعصمنا من ضَلة الأفهام، وزلة الأقلام. وأعوذ به من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يُسمَع،  وعمل لا يُرفَع.
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي}(6).
1350 من الهجرة = 1932م               محمد عبد الله دراز
(1) أصله جامع الأصول للإمام ابن الآثير الجزري المتوفى سنة 606 ه وأصل أصله هو " التجريد في الجمع بين الصحاح" للحافظ رَزين العبدري المتوفي بعد سنة 520 ه.
(2) رزين بفتح الراء وكسر الزاي كما ضبطه شارح "المشكاة". لا مصغرًا كما اشتهر على الألسنة. والعبدري نسبة إلى عبد الدار بطن من قريش.
(3) "سورة الحديد : 57 – الآية 27 – م – ".
(4) "سنن أبي داود: 2/ 574 – كتاب الأدب – باب في الحسد".
(5) "صحيح مسلم 1/382 5 – كتاب المساجد ومواضع الصلاة. 7 – باب تحريم الكلام في الصلاة الحديث رقم : 33".
(6) سورة طه /20 : الآيات 25 – 28 ك –".

تعليقات

‏قال صلاح مصطفي الشكري…
الحمد لله الدري وفق زمرة من عباده لاعلاء دينه ونفعنالله وجميع المسلمين

المشاركات الشائعة