صفات المؤمن(1) " د . محمد دراز"


هذه دروس صوتية مفرغة للدكتور محمد عبد الله دراز – رحمه الله -  عن صفات المؤمن ، مقدمة ثم أربعة دروس.

صفات عامة( أُذيع في إذاعة القرآن الكريم في يوم 9/8/1957م.

قال المربي: أيها الفتى الماجد النبيل، أرأيت الناس حين يلقى بعضهم بعضا؟ أرأيت كيف يبدأ كل منهم أخاه بالسؤال عن صحته؟ فإذا أنا حيّيتك الآن وبدأتك بالسؤال عن صحتك، أتظنني أصنع كما يصنع الناس؟ إن أول ما يعني الناس من ألوان السلامة والعافية، هو ما يتصل بهياكلهم وأبدانهم. وتلك هي القشرة السطحية للجوهرة الإنسانية، أما أنا فإني لست عن هذه القشرة أسألك، فإني أراك – والحمد لله – بخير؛ سليم البنية، موفور القوة، وإنما أسألك عن سرك المصون وجوهرك المكنون أسأل عن صحة روحك، وسلامة خلقك ودينك، وصدق إيمانك ويقينك. فهل أنت راض عن نفسك من هذه الناحية؟ هل تُعدّ نفسك في عداد المؤمنين الصادقين؟

قال الفتى: وما لي لا أعد نفسي في عداد المؤمنين الصادقين، وأنا أؤمن بالله وكتبه ورسله، وأؤمن بالقدر كله خيره وشره، لا يخالجني في ذلك شك ولا ريب؟

قال المربي: لست عن مبادئ الإيمان النظري أستفصلك وإنما أسألك عن حقيقة الإيمان المستجمع لشرائطه؛ عن الإيمان في صورته الكاملة، التي صورها لنا القرآن الحكيم وجعلها شرطا في إستحقاق لقب المؤمنين الصادقين، ولقب المتقين، ولقب أولي الألباب، ولقب عباد الرحمن.. فقبل أن تشهد لنفسك بصدق الإيمان، عليك أن تنظر في مرآة القرآن، لترى فيها صورة الإيمان الصادق، وصورة الإيمان البهرج الزائف، ثم اعرض نفسك على كلتا الصورتين لتعرف إلى أيهما أنت أقرب، وإلى أيهما أنت أحق أن تنتسب.

قال الفتى: هل لك في أن تقدم لي نموذجا من الخطوط التي تتألف منها هاتان الصورتان؟

قال المربي: وماذا أنت صانع بهذا النموذج، إذا قربته إليك؟ أتريد أن تنظر إليه نظرة جامدة واقفة؟ أم تريد أن تنظر فيه نظرة فعالة مثمرة؟

قال الفتى: ما النظرة الجامدة؟ وما النظرة المتحركة؟

قال المربي: أما النظرة الجامدة الواقفة؛ فهي نظرة المعرفة للمعرفة، وأما النظرة الفعالة المثمرة؛ فهي نظرة العلم للعمل.. فإذا كان الذي يحدوك إلى السؤال، إنما هو حب الإطلاع، لتحكم لنفسك أو عليها وكفى، حتى إذا وجدت خيرا رضيت عن نفسك، ووقفت حيث أنت، وإن وجدت غير ذلك، سخطت على نفسك، ووقفت حيث أنت. إن كان ذلك هو كل ما تقصد إليه من المعرفة، فلا تطمع مني في أن أزيدك علما، فإني لا أحب أن أضيع وقتي معك في هذا الضرب من الترف العقلي، ولا أحب أن أدخل في قلبك شيطان الغرور، ولا شيطان اليأس. ثم إني ليحزنني أن يكون العلم الذي تزداده حجة عليك لا لك.. أما إن كنت تبتغي من هذه المعرفة، أن نسير على ضوئها في طريق التطهر والكمال، فلن أضن عليك ببيان صفات الؤممنين وصفات غير المؤمنين، لتكون على بينة فيما تأتي أو تذر.

قال الفتى: أحب أن تطمئن – أيها المربي الحكيم – إلى أن أكبر همي ليس هو تلك المعرفة العابثة. وأن أغلى أمانيّ هو أن أعرف ما يشوب نفسي من صفات غير المؤمنين لأتطهر منها، وما ينقصني من صفات المؤمنين لأستكملها. غير أن عندي مخاوف أبديها لك، ولا أكتمها عنك.. إن الذي أخشاه وأحاذره، هو ما يُصادف السالكين في طريقهم من عثرات، وما يعتري النفس البشرية من هزات وتقلبات. أخشى أن أتطهر من سيئة ثم أعود إليها، وأن أصعد درجة ثم أقف عندها أو أهبط منها بتة، ولا أن أعاهدك عهدا موثقا على أن أمضي في الطريق إلى نهايته، أو أن أصعد في السُلم إلى قمته. فلو قلت لك اليوم، إنني لن أدع خلة من خلال المؤمنين تُعلمنيها إلا تحليت بها، ولن أدع خصلة من خصال غير المؤمنين تبصرني بها إلا اتقيتها، أخشى أن أجيء غدا أو بعد غد فلا أنجز لك وعدي، ولا أوفي لك بعهدي. كيف أبرئ نفسي من الذنب كله؛ دقه وجلّه، وخطئه وعمده، جده وهزله؟ وكل بني آدم خطاؤون؟!

قال المربي: لقد سمعت يا بني مقالتك، وأدركت سرّ مخافتك. يا بني إنه لا يُنتظر من الجواد ألا يكبو ولا من المؤمن ألا يزل، ولكن يُطلب إليه إذا كبا أن ينهض من كبوته، وإذا عثر أن يفيء من عثرته، وإني لن آمرك بأكثر مما أمرك الله به: اتق الله ما استطعت؛ فكن إذًا عالي الهمة، ماضي العزم، بعيد الأمل.. أمل القدرة قبل العجز وقدّر النجاح قبل الفشل، ولا تَهن ولا تيأس، واستعن بالله، فإن الله يهب المعونة على قدر المؤونة، ويمنح التوفيق على قدر العزيمة،{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. وحسبك الآن يا بني، أن توطن العزم على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم. فإن ألممت بذنب فأتبعه من فورك بمطهرات التوبة والندم فإن ذلك أيضا من صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.

قال الفتى: أما على هذه الشريطة فإني أبايعك. وستجدني إن شاء الله صابرا، ولا أعصي لك أمرا. والآن، هل تدلني أين أجد هاتين اللوحتين من صفات المؤمنين، وصفات غير المؤمنين؟.

قال المربي: إنك ستجد عناصرهما منبثة في سور القرآن الكريم.. اما المؤمنون فإنك تجد كثيرا من أوصافهم، في مطلع السورة المسماة باسمهم، وفيما بين يديها وما خلفها من السور.  اقرأ في سورتهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }ثم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}. واقرأ بعدها في سورة النور: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ }(4) وفي سورة الفرقان {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}ثم {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }(5) وفي سورة الشورى {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}وفي سورة الحجرات { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

ثم ارجع صاعدا فاقرأ في سورة الحج {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وفي سورة الرعد {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } وفي سورة التوبة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } وفي سورة الأنفال {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }وفي سورة البقرة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}... يا بني، إنما أردت بهذا كله التنبيه والتمثيل، لا الإحصاء والاستقصاء.

قال الفتى: وهل نطمع منك في أن تقفي على هذا الإجمال بشيء من التفصيل؟

قال المربي: نُرجئ ذلك إلى فرصة أخرى تهيئها المقادير.. والله المستعان، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

تعليقات

المشاركات الشائعة