الأحزاب الإسلامية تواجه خمس سلطويات

 مقال تأصيلي مهم كعادة مقالات الدكتور التي لا غنى عنها لمريد النهضة والاصلاح 
بقلم الدكتور - ابراهيم البيومي غانم
من المغرب الأقصى إلى أندونيسيا وماليزيا في المشرق الأقصى، ومن تركيا شمالاً إلى اليمن جنوباً بدأ هلال «العدالة والتنمية»، أو «الحرية والعدالة»، أو «النهضة والإصلاح» أو غير ذلك من الأسماء التي اتخذتها الأحزاب الإسلامية يتمدد وينشر أضواءه على مساحات واسعة من خريطة العالم الإسلامي. وكلمة السر في هذا الصعود القوي للأحزاب والتيارات الإسلامية هي «الحرية»؛ فأنصار هذه الأحزاب والتيارات عانت أكثر من غيرها من غياب الحرية في ظل الأنظمة الاستبدادية التي حكمت بلادنا منذ منتصف القرن الماضي تقريبا. وهؤلاء الأنصار هم الأكثر إيمانا بالحرية في أبعادها النابعة من ذات الإنسان وليست المتحصّلة من علاقات القوة والضعف بين أبناء المجتمع.

ما يؤكّد أنّ شعوبنا العربية والإسلامية بدأت تدخل عصراً جديداً باتجاه نهضة إسلامية شاملة هو الميل الشعبي العارم نحو الأحزاب الإسلامية في أيّ انتخابات حرة ونزيهة. حدث هذا في تونس وفاز حزب النهضة الإسلامي، وحدث في المغرب وفاز حزب العدالة والتنمية الإسلامي، ويحدث في مصر وقد فاز حزب الحرية والعدالة الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين (في الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت يوم 28 تشرين الثاني).

هذه الانتصارات المتوالية تفرض على الأحزاب والتيارات الإسلامية الانتباه إلى التحديات الهائلة التي ستواجهها في المرحلة المقبلة داخليا وخارجيا. كما تفرض عليها أن تعد العدة لمواجهة «خمس سلطويات» ترسّخت أقدامها في مجتمعاتنا في ظل الحكم الاستبدادي القمعي الذي أطاحت به ثورات الربيع العربي. وفي ظنّي أنّ «ثورات الربيع العربي» لن تكتمل إلاّ بتقويض أركان السلطويات الخمس، وهذا هو التحدي الأكبر أمام الأحزاب الإسلامية التي سيتعيّن عليها أن تتحمّل مسؤوليات الحكم وإدارة شؤون المجتمع والدولة. وهذه السلطويات الخمس هي:

1ـ سلطوية «الأسر الحاكمة»، وهي بحد ذاتها لا تشكّل «نخبة» بالمعنى العلمي لمفهوم النخبة، وسواء جاءت هذه «الأسر» بالوراثة في النظم الملكية، أو بالانقلابات العسكرية في النظم الثورية، أو بالاستفتاءات أو الانتخابات المزيّفة في النظم التي ترفع شعار «الديمقراطية»؛ فإنّ جوهر ممارستها للسلطة واحد وهو «الاستئثار». وقد وجدت هذه النخب السياسية الحاكمة باستمرار دعمأً من «البيروقراطية» المدنية وفق «برادايم» عتيد يقضي بانصياعها للأوامر الآتية باستمرار من أعلى لأسفل. وعوضاً عن أن تقوم البيروقراطية بدورها «التحديثي» في ترشيد أداء الجهاز الحكومي، وتعظيم المصلحة العامة، تحوّلت تحت قيادة النخب «المتعلمنة» في أغلبها إلى ميدان للمحسوبية والرشوة والفساد والإهمال ومن ثم باتت عنواناً على «الفشل».

2ـ سلطوية «النخب المثقفة»، وهذه النخب في أغلبها تلقّت تعليماً عصرياً، وفي أرقى المدارس والمعاهد الغربية في كثير من الأحيان، أيّ أنّهم لم ينقصهم شيء فيما يتعلّق بمعرفة قيم الحداثة وأصولها النظرية، ولم يعوزهم الاطّلاع على مؤسساتها ومنافعها، كما لم ينقصهم الاستمتاع ببعض ثمرات هذه المؤسسات ونتائجها الإيجابية. وأغلبيتهم مكّنتهم «السلطة الاستبدادية» من الإمساك بمفاصل الدولة، وبخاصة في مجالات التعليم، والثقافة، والإعلام الرسمي، فضلاً عن مؤسسات نشر الفنون والآداب وكل ما يؤثّر في تكوين وتوجيه الوجدان العام في المجتمع. ومع كل هذا، لم تقم هذه النخبة إلاّ بدور تسلّطي، ولم تتحوّل إلى ممارسة دور تنويري للرأي العام، وكان السبب الرئيسي في انفصالهم عن هذا «السواد الأعظم» هو أنّهم تبنّوا فكراً «وافداً» وسعوا لفرضه بقوة «الدولة»، كل من خلال تسليط صلاحيات منصبه البيروقراطي في فرض رؤيته الخاصة، وإقصاء أصحاب الرؤى الأخرى حتى من الوظائف البسيطة في مؤسسات التربية والتعليم، كما حدث في مصر مرات لا تحصى بإقصاء آلاف المدرسين وتحويلهم لوظائف إدارية بحجة أنّهم «متطرفون» ينقلون تطرّفهم للأجيال الجديدة!

وكان سؤالنا دوما عندما يحدث شيء من ذلك هو: لماذا يؤثّر هؤلاء المتطرفون ولا تؤثّرون أنتم في الأجيال الجديدة؟ ولماذا لا تطبّقوا معهم مبادئ وقيم الحداثة مثل: الحوار، واحترام القانون، وحقوق الإنسان، وسماع الرأي الآخر؟

3ـ السلطوية «العسكرية»، وهذا النمط مارسته النخب العسكرية بعيداً عن الأنظار، في أغلب الحالات، وفي وضح النهار في حالات أخرى عندما كانت تقوم المؤسسة العسكرية بالانقلاب على الوضع القائم، الأمر الذي تكرر عشرات المرات في مختلف البلدان العربية منذ أول انقلاب عسكري قام به بكر صدقي في العراق في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى آخر موجة انقلابية حول نهاية الستينيات وبداية السبعينيات في كل من ليبيا والسودان وسوريا. وكانت «مؤسسات الحداثة السياسية» الهشة، هي أول ضحايا تلك الانقلابات في كل مرة (إلغاء الدستور، حل الأحزاب، تعطيل البرلمان، مصادرة الصحافة..إلخ)، ثم سرعان ما يسترد «رئيس مجلس قيادة الثورة» من تلك المؤسسات ما يشاء منها، وما يراه نافعاً في تثبيت أقدامه في الحكم إلى ملا نهاية. وتصادف أنّ جميع قادة الانقلابات العسكرية العربية كانوا من أصحاب التوجهات «الحداثية» العصرية، ولم يكونوا من ذوي التوجهات الإسلامية، اللهم إلاّ لمرة واحدة في السودان سرعان ما أحطاتها المؤمرات من الداخل والخارج. وليس أدل على قسوة «السلطوية العسكرية» وكراهيتها «للسواد الأعظم» من الحالة الجزائرية التي انقلب فيها قادة الجيش على الإرادة الشعبية في أول انتخابات حرة سنة 1991، وفضّلوا إغراق البلاد في بحر من الدماء مدة عشر سنوات، على أن تخوض البلاد التجربة إلى نهايتها وتتحمّل نتيجة اختياراتها الحرة مهما كانت.

4ـ سلطوية رأس المال الطفيلي واحتكار القلة. وقد نما هذا النمط من الرأس مال في ظل أنظمة القمع والاستئثار بالسلطة، وقاد مؤسسات القطاع الخاص نخبة من خريجي «النظام القمعي»؛ فأصحابه إما مسؤولون سابقون بالحكومة، أو من كبار ضباط الجيش والأجهزة الأمنية بعد انتهاء خدمتهم الرسمية، أو من أصهار وأتباع وحواشي الأسر الحاكمة، وأغلبهم من ذوي التوجهات «الحداثية» ومن عشاق نمط الحياة الغربية والوله بمتابعة آخر صيحاتها. وأغلب مشروعاتهم لا تخدم «السواد الأعظم» وإنّما هي لخدمة «النخب» التي ينتمون إليها، أو للقيام بمشروعات استهلاكية تسهم في تدمير قيم العفة والاقتصاد عن «السواد الأعظم». وفي جميع الحالات فإنذ روابط جماعات رأس المال الطفيلي مشدودة للخارج أكثر من اتصالها بالداخل، وأغلب مكاسبها التي تمتصها من دماء «السواد الأعظم» تسرع بتحويلها للبنوك الأجنبية وتحرم الاقتصاد الوطني منها.

5ـ سلطوية «المدينة» على ما عداها من المراكز والمناطق الريفية والبدوية في مختلف بلداننا العربية. ورغم أنّ قاطني الأرياف والبوادي يزيدون عن ثلاثة أرباع سكان أيّ بلد عربي، فإنّ حظهم من الثروة القومية والوظائف العليا لا يتكافأ مع نسبتهم العددية ولا مع دورهم الكبير في تزويد سوق العمل والإنتاج بالنسبة الأكبر من اليد العاملة. وبحكم نشوء النخب المتغرّبة، ووجود مركز السلطة السياسية وأغلبية مؤسسات «الحداثة السياسية» في المدينة/العاصمة والمدن الكبرى؛ سادت ثقافة لدى «السواد الأعظم» مفادها أنّ «العاصمة» هي سيدة المدن، وأنّ المدن هي سيدة القرى والأرياف، وعليه فقد سادت نظرة «دونية» إلى أبناء الريف والمراكز الحضرية الصغيرة والبوادي، باعتبار أنّه لم يتحصّل على قدر كاف من «الحداثة»، حتى ولو أثبت أنّه أكثر ذكاءً وفطنة من أبناء المدن.

وتبيّن المقارنات بين طبائع الاجتماع السياسي لأهل «المدن»، و»أهل الريف» أنّ الأغلبية أو «السواد الأعظم» من الجانبين «متدينة»، ومحافظة في سلوكها الاجتماعي؛ بحكم وحدة المنشأ الاجتماعي لكليهما، وبحكم حركات الهجرة الواسعة من الريف إلى الريف إلى المدن سعياً وراء فرص عمل أفضل، أو للحاق بـــ»حداثة المدينة»، بعد أن نسي الممسكون بأزمة القرار أن ينقلوها إلى الأرياف في إطار سياسات التنمية غير المتوزانة التي انتهجتها سلطات «الدولة الحديثة». وفي جميع الأحوال ظلّت «المدينة» هي مستقر المجموعات النخبوية الأربعة: الأسر الحاكمة، والنخب المثقّفة/المتغرّبة، والقيادات العسكرية، وكبار رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال. ومن ثم اكتسبت المدينة «سلطوية» إضافية على حساب القرى والمناطق الريفية.

تلك هي «السلطوية» خماسية القوة التي أفرزتها الحداثة السياسية المزيفة في بلادنا. وما يبشّر بالخروج من أسرها وكسر أغلالها هو أنّ الشباب الذين أسهموا في صناعة الربيع العربي قد أتوا من جميع أنحاء المدن والبلدات والقرى والنجوع والبوادي، وليسوا «ظاهرة مدينية» فقط. وفي تقديرنا أنّ المهمة الأولى للثائرين العرب هي أن يمسكوا بهذه اللحظة النادرة في تاريخ الاجتماع السياسي العربي، وأن يجعلونها بداية حقيقة لعودة «السواد الأعظم» إلى حلبة «المجال العام».

ومن حق «الأغلبية الصامتة»، أو «السواد الأعظم» أن يتخوّف من أولئك المتعلمنين، وأن يحذر من أن يكرروا الفشل والاستبداد والهزائم والمظالم والعذابات التي أسهموا في وقوعها بتحالفهم مع الحكام المستبدين خلال المراحل السابقة من عمر «التحديث» في بلادنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة