الجهلُ إذ يصير مَلَكَة




خالد المرسي | 30-10-2011 00:45

المَلَكَةُ هي: أن يتعوّد الإنسان على فعل الشيء حتى يصير فعله لهذا الشيء على العادة بدون انتباه ولا تفكر؛ كترتيبنا في غسل أعضاء الوضوء للصلاة الذي صرنا نفعله بدون انتباه ولو كان ذهننا مأخوذا لشيء آخر وقتَ الوضوء، وكذلك الإنسان يتعود الإعراضَ عن التربية العلمية الثقافية ويصر على الجهل فيأتيه الوقت الذي يصير فيه جاهلاً بالمَلَكَة، وهذا النوع من الجهل أخطر من (الجهل المركب) إذ كان الجهل المركب هو أن يجهل الإنسانُ بالشيء وهو يظن نفسه عالمًا به! أما ( مَلَكَة الجهل) فشأنها عجيب وهي: أن يجهل الإنسان بما صدّقه وآمن به، فهو يصدق بالشيء ويؤمن به طواعية صدقًا من نفسه بدون أي خوف أو إكراه من أحد، ثم هو يجهل بنفس الشيء في آن، صادقًا في جهله غير متصّنع ،وكأنه لم يسمع بما آمن به وكأنه لم يفهمه! على أنه قد فهمَه حقا؛ إذ كيف يؤمن به وهو لم يفهمه!! ، وقد لمحت من مظاهر هذا الجهل الشيءَ الكثير في حياتنا، وأقرب ما يحضرني الآن مثالان من الجانب التعبدي العقدي لدى الناس ( ومحل هذا الجانب هو الإعراض عن تعلم الدين بقواعده وفهم أدلته بفهم علماء أهل السنة والجماعة ) . المثال الأول: رأيت أحد الناس وقد ذهب للشيخ مصطفى العدوي – حفظه الله – يريد التبرع بمبلغ مالي كبير لشراء بيت ووقْفه على تحفيظ القرآن الكريم، فلما سأله الشيخُ: هل حججت بيت الله الحرام؟ فرد الرجل في لهجة تعجب واستنكار قائلا: أنا تعبت في تحصيل هذا المال !فتبسم الشيخ متعجبا وقرأ عليه قول الله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) فلم يزل الرجل على ما هو عليه حتى أجابه الشيخ إلى مطلبه وانصرف عنه متعجبا! .

المثال الثاني: الرجل الذي أحدث ضجةً قريبا بسبِّه من اعتقد تَفرُّد المسلمين بدخول الجنة ، فلما استفصله أحد الشيوخ الاعلاميين عن مقصده وحاول الرجل التخلص وتحسين صورته بحجة دلالة السياق وما إلى ذلك، كان مما دار في الحوار بينه وبين الشيخ الإعلامي – وهو محل الشاهد من إيراد المثال هنا - أن سأله الشيخ عن قول الله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فأجابه الرجل بالتعجب وقال: طبعًا أؤمن بالآية وأعاد عليه الشيخ الآية بلفظها ومعناها فعاد الرجل بتأكيده في حماسة الإيمان! ، وهو هو الرجل بعد ثوان يقول: و ما المانع في أن أعتبر فلانًا النصراني الذي مات أعتبره شهيدًا كأمنية في نفسي!!!! وببداهة العقل هنا يلزمه اعتبار أن كل نصراني مات إنه في الجنة - كأمنية كذلك - وإلا فلا فرق!، وهذا يتناقض بداهةً مع لفظ الآية التي أكد إيمانه بها في حماسة وعاطفة قوية، وحيث إنني لا أشك في صدق الرجل في إيمانه بالآية الكريمة ولا أشك كذلك في صدق أمنيته؛ كان من هنا جاهل بالمَلَكَة. ولا يغرَّنك كون أصحاب هذين المثلين مبدعين في مجالهما المهني مثلاً! لا محل للعجب لأن الثابت علميًا أن الإنسان قد يجتمع فيه (العَتَهُ والإبداعُ) في آن، ولكن هل ينفع الإنسانَ أن يبدع فيما هو من مكملات الحياة ومرفهاتها مع جهله وانصرافه عما لا تصح حياتُه في الدنيا والآخرة إلا به!؟.ومن يتأمل في حياتنا الأخلاقية والإجتماعية سيجد مظاهر كثيرة لهذا النوع من الجهل، وهذا النوع يكون معه صاحبه قد دخل في حالة حرجة جدا يكاد يكون من المستحيل إنجاؤه، وهذا النوع من الجهل هو كجهل من كفر بالحق من الذين وصفهم الله بفقد السماع وعدم العقل رغم أنهم سمعوا وعقلوا ثم كفروا! (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) ( ووجه الشبه هو في الجهل كنسقٍ عام وطبيعة واحدة لا تختلف بغض النظر عن استلزامه الكفر أو الإيمان أو العقوبة دون الخروج من الدين) وهذا النوع من الجهل لا يُعذر به الإنسان في الدنيا ولا في الآخرة لأنه اكتسبه بفعله، وهو الذي أوصل نفسه الى هذه الدرجة بإعراضه عن التعلم وإصراره على الجهل حتى طال عليه الأمد فترسب الران والصدأ حول عقله وقلبه (رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).

ويتبقى علينا الآن أن نستخلص نذرًا من فيض العبر والعظات الكامنة في هذه المشاهد لكي نتعظ ونتعلم.

فإلى العبرة والعظة:

نحن نرى من عادة الناس أنهم يفقدون الثقة ولا يبالون ببعض الأشياء التي بطبيعتها تغيب وتطول حتى تعطينا الثمرة الطيبة أو تعطينا الحماية مما يسوءنا ويضرنا ( كما الحال في موضوعنا هذا ) ويضعون ثقتهم في الأشياء سريعة الثمرة، وهذا تفكير جيد لو أنه ساهم في توفير الوقت واقتصار الطريق لقطف الثمر، لكنه يكون خطيرا جدا لو أدى إلى ترك طريق تحصيل الثمر الضروري لحياتنا وإكتساب الحمية مما يضرنا؛ حيث لا طريق لتحصيل هذا الثمر إلا ذلك الطريق الطويل، والواجب في هذه الحالة هو أن ننظر للأشياء بحسب طبيعتها في ذواتها فنقَيِّم الشيء وننظر له من مرآة طبيعته الذاتية؛ وما إذا كان له بدائل أفضل وأقصر منه أم هو الطريق الأوحد بدلاً من أن ننظر من مرآة ثقافتنا التقليدية التي لا تستند لبراهين ، ففي موضوع مقالنا هذا سنجد أن التربية العلمية والثقافية تغيب وتطول جدا حتى تعطينا الثمر وتكسبنا الحماية مما يضر، ولا طريق أمامانا لذلك سوى هذا الطريق الأوحد.

وهو إذا حان وقت حصد ثمرته - أعني في شكلها المتوازن وإلا فبدايات الثمر يمكن لمحها وحصدها من بدايات الطريق ومن وقت مبكر جدا - تكون هذه الثمرة أعظم مما يتخيل المتخيلون وأعظم مما لو تخيلت نفسَك حاصدا الثمر في أوقات مبكرة ومتعاقبة ثم تركمه حتى يصير ركاما بعد وقت طويل.

ولا يساعدنا في الاقتراب من تصور هذه الآثار المهولة إلا بأن نخرج قليلا من أسْر هذا الفكر التجريدي لنرى مثيلاً له في عالم المشاهدة ( العالم الذي ربما لم نعايشه ولكننا سمعنا عنه ولمحنا بعض صوره مما يجعله صالحًا للقياس عليه ) في عالم المشاهدة نرى الإنسان مختصًا بأكبر وأطول فترة طفولة ثم مراهقة عما هي عليه باقي الكائنات الحية، لكن هذه الفترة الطويلة تُسفر عن إنسان صغير حجمه عظيم أثره بأعظم مما يتخيله المتخيلون - إن في الأثر السلبي أو الإيجابي – ففي الأثر الإيجابي تسفر عن كائن إنساني صغير الحجم يسع الأرضَ والسموات على صغر حجمه كما قال علي ابن أبي طالب: "أتزعم أنك جِرْمٌ صغير ----- وفيك انطوى العالَمُ الأكبر؟! "، بل يسع اللهَ – تعالى – كما في الأثر الاسرائيلي المشهور ( يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).

وفي الأثر السلبي تسفر عن كائن إنساني ذي قلب أقسى من الحجارة (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ضائق صدره بمن حوله بل يضيق صدره بنفسه أحيانا ، إنسان لا يسمع ولا يعقل فهو (كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

والواجب الأكبر على الحكام والنخبة في المجتمع عليهم أن يقربوا منابع هذه التربية ويوصلوها إلى الناس ويتبقى على الناس الاجتهاد في التلقي.
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=84527


تعليقات

‏قال خالد المرسي
انظروا توضيحي في تعليقي هنا
http://www.humanf.org:8686/vb/showthread.php?t=106572

المشاركات الشائعة