مقدمة عاصمة من الضلال

خالد المرسي   |  16-10-2011 23:56

رأيت أحد المصريين المنشغلين بالفلسفة يتكلم عن بدء العالم في إحدى مقالاته، ورأيت آخر يقول إن كل الناس من مسلمين وبوذيين وأهل كتاب وغيرهم سيدخلون الجنة، والأول تكلم بخيالات الظن والثاني لم يذكر استدلالات واكتفى بقوله: إن الموضوع كبير!، ولهؤلاء كلهم أسوق هذه المقدمة التي تحكم هذه المجالات المعرفية، وسأورد فيها ضوابط تحكم من يريد البحث أو التكلم في هذه المجالات المعرفية مستدلاً بكلام أساطين الفلاسفة المسلمين، ثم أذكر موقف الفلسفة الغربية من الحقائق الواردة في هذه المقدمة ثم أتكلم عن بعض حِكَم الاسلام وتعاليمه من وراء تقريره لهذه الحقائق الواردة في هذه المقدمة.

أقول: إن البحث عن كيفية بدء العالم وعن مصير الناس بعد موتهم لا يخضع لقوانين العقل البشري المفكر ولا لقوانين التجربة عبر الحواس الإنسانية – سواء بالمباشرة أو بواسطةٍ عبرَ الآلات والماكينات – وذلك لأن العقل البشري له في إدراك الأشياء طرق معينة يسلكها ، وما لم تتوفر له هذه الطرق يستحيل أن يدرك بدونها الشيء المبتغي إدراكه وفي هذه القاعدة يقول الفيلسوف الدكتور محمد دراز – رحمه الله – " العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه. فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزًا في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدس, وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة. وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام."(1) وكما نعلم أن مسائل الوجود الكبرى ككيفية بدء العالم ومصير الناس بعد الموت لا يتوفر لنا فيها أي طريق من هذه الطرق بتاتًا فلا نعلم أحدًا كان موجودا وقت خلق العالم فنسأله أن يقص لنا ما رآه! (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) سورة الكهف:50.

وكذلك ما هو بعد الموت لا يتيسر لنا فيه أي طريق من طرق المعرفة، ولا سبيل لمعرفة هذه الحقائق إلا بالخبر عمن يعلمها وهو عند المسلمين ( الله رب العالمين الذي خلق كل شيء وأحاط بكل شيء علمًا وقدرة)، وعند من لم يؤمن بإله كما هو الحال عند بعض أو كثير من فلاسفة الغرب فيرون – أو كانوا يرون – إمكانية معرفة هذه الحقائق بالبحث والتأمل والتفكر، وبالفعل ظلوا مئات السنوات يبحثون ويتأملون ويكتبون تأملاتهم عن المسائل الوجودية الكبرى المتعلقة بالعالم والإنسان، والسؤال الآن: هل يمكن أن يصل هؤلاء لشيء ذي بال؟ وما هي مآل جهودهم الآن؟ وما موقف الفلسفة الغربية الحديث من مجالات البحث هذه؟.

لا يمكن أن يصل هؤلاء لشيء وذلك لأسباب عديدة منها – مع ما تقدم ذكره - أن القاعدة تقول : إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده" فلما غلا هؤلاء في العقل وأقحموه في غير مجاله انقلب العقل إلى ضده، وضدُّه هو اللاشيء، وما لا فائدة فيه، بل، و فيه كل الضرر، وهذا في نظري هو السبب من وراء جنون بعض فلاسفة الغرب في آخر حياتهم ( ونرجو أن لا يدخل بعض فلاسفتنا المصريين في هذه الحال من الجنون لأنه بدت بوادر من بعضهم تفيد بأن عقولهم بدأت في التلاشي وقد رأيت أحدهم يسجل في مقال له في سياق التعظيم والإجلال حالَ بعض فلاسفة الغرب الذين ماتوا في آخر حياتهم مجانين! وكأن الجنون عندهم هو ذروة الإبداع! كما أن الإنسان قد يبكي من شدة الفرح أو الضحك!!!).

أقول: إن من الأسباب التي تؤكد استحالة أن يصل هؤلاء لشيء غير الخسارة المؤكدة، هو ما سجله أساطين الفلسفة من المسلمين من أن الولوج في بحث هذه المسائل الوجودية الكبرى من غير أبوابها وطرقها الصحيحة يُفضي بالعقل إلى التلاشي في التفاصيل، فلا يعرف حقيقة قط ، ولا يقف على شيء ثابت أبدًا، ومن هؤلاء من يُجَن في النهاية كما سبق ذكره، يقول الإمام " الرازي": في وصيته التي أملاها عند قرب موته:" لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك الحقائق العميقة، والمناهج الخفية"(2)، وكذلك يقول الدكتور محمد دراز:" إذا لم يكن هنالك من حقيقة مكتَسَبة، ولا قانون ثابت، فإن العقل سوف يتوقف عن أن يكون عقلاً، سوف يفقد وحدته البنائية، سوف يوؤل إلى هباء، ولن تكون له ادنى سيطرة على الطبيعة"(3).

أما عن مآل جهودهم الآن وموقف الفلسفة الغربية الحديثة منها فأقول: إن جهودهم هذه لم يثقوا فيها قط كما يقول الدكتور " تمام حسان":

( قلنا إن عهد تكوين النُظُم الفلسفية المتكاملة قد انتهى وولى، كما أن الكلام في الميتافيزيقا – يقصد الغيب أي الكلام في المسائل الوجودية الكبرى - لم يعد أحب موضوع إلى الفلاسفة، ولا أكثر موضوعاتهم أمنًا وثقة، وإن أفضل الموضوعات وأكثرها وضوحًا في نظر الفلاسفة هو ربط النتائج العملية بعضها ببعض، ثم ربطها بعد ذلك بالإنسان، وبكونه الذي يعيش فيه – أي خدمة الفرد والمجتمع -.) ثم ذكر عدة أدلة استدل بها على إنخلاع الفلسفة الغربية الحديثة من النظر في هذه المجالات المعرفية التي لم يصلوا فيها لشيء فيقول: ( كل أولئك دلالة على اتجاهات الفلسفة الحديثة، وتمسكها بنتائج البحوث العلمية المختلفة، دون الجري وراء إنشاء نظم تأملية شاملة لكل ظواهر الكون، كما كان الأمر في القديم.)(4). ونأتي الآن للكلام عن شيء من منن الله تعالى وفضله على الناس بإرساله نبينا – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبياء بدين الإسلام: تبين مما سبق أن البحث في مسائل الوجود الكبرى عبر طرق ليست هي بطرقها مع الإعراض عن طريق الخبر الذي يوحيه الله لرسله وأنبياءه يستنزف كل الجهود الفكرية والأوقات الطويلة دون طائل ولا جدوى وكان هذا الحال هو حال العالَم اليهودي والمسيحي بعد ذهاب أنبيائهم وقبل بعثة نبينا؛ لَما كان يظهر فيهم من المتنبئين( أي مدعي النبوة)، كانوا يظهرون بكثرة فيختلف الناس فيهم ما بين مصدق لهم ومكذب ، وتذهب كثير من قواهم الفكرية في حوارات جدلية توقعهم في فتن كثيرة فتشغلهم عن البناء النهضوي الحضاري على صعيد الأنفس والمجتمعات، فلما امتن الله تعالى على الناس بإرسال نبينا ( كخاتم للأنبياء) خُتمت به النبوة، فلم يعد يمكن أن يأتي نبي بعده صادق قط، فلم يعد هناك مجال للاختلاف حول ( مدعي النبوة ) ليقيننا بأن النبوة خُتمت بنبينا محمد، وكذلك أرسل الله تعالى معه رسالة القرآن الكريم والسنة المطهرة التي فيها الجواب الشافي عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يحتاجها الإنسان ليشبع بها شهوته العلمية والوجدانية وليحدد موقفه وموقعه من الدنيا الآخرة كما قال نبينا في وصف القرآن الكريم: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" ويلخص لنا هذه الحكمة العظيمة المفكر " محمد إقبال" رحمه الله فيقول: (إن الإنسان لا يحتاج إلى أن يرفع رأسه بعدئذ مرة بعد أخرى إلى السماء في انتظار الوحي، ولينظر إلى الأرض، وليستخدم طاقاته في إعمار الأرض وتحقيق الغرض الذي من أجله جعل خليفة الله في الأرض، وليصرف قواه في إعداد الوسائل والتسهيلات للإنسان وتهيئة مايسوق إليه السعادة في الدنيا والنجاة في الأخرة") 5).

أما عن العالم الغربي المعاصر فهو الآن ما زال يتخبط في ضلاله فلا يعرف شيئا عن هذه الأسئلة الكبرى، وإن الإنسان الذي يعيش دون أن يعلم إجابات وافية لهذه الأسئلة الوجودية الكبرى يظل قلقًا في حياته ويظل شاعرًا بالعطش والحاجة الملحة إلى معرفة أجوبة لها تطمئن لها وتثق بها نفسه ، وتتفق مع عقله ووجدانه، والجهل بكل هذه الأجوبة هو الذي أربك الغرب وأقلقه مما حدا بكثير من علمائهم ومفكريهم في الآونة الأخيرة إلى الدعوة لترك العالمانية والعودة إلى الدين( لكن أي دين؟ سيبحثون!) ولمن يريد الاستزادة في معرفة تفاصيل هذه الدعوات الغربية فليراجع هذه المقالات الآتي ذكرها: " العودة الى الدين " و" الانسانية البازغة " و" نوعية الحياة الاجتماعية وتحديات المستقبل" للدكتور أحمد أبو زيد في أعداد مجلة العربي الكويتية برقم 617و 624 و 625.

كلمة اخيرة أوجهها للمبعوث لهم هذه المقدمة: أرجوكم لا تربكونا واستجيبوا لتعاليم الإسلام الذي أوضحتها لكم – وهي أن إجابات هذه الأسئلة والتكلم فيها لا يكون إلا بإتباع الخبر عن الله رب العالمين بفهم علماء الدين القدامى والمحدثين لا بفهم الصحافيين الذين لا حظ لهم من العلم ولا يُعرفون به! – أو على الأقل التزموا بتعاليم الفلسفة الغربية الحديثة التي اتينا على ذكرها، وإن لم تضيفوا لنا شيئا جديدا على صعيد المعرفة والحضارة فلا أقل من أن تكفوا عنا أذاكم، لا نطلب منكم اكثر من ذلك.

مراجع البحث:

(1) النبأ العظيم ص 68.

(2) نقلت الكلام بواسطة الطاهر بن عاشور – رحمه الله- من كتاب التفسير ورجاله ص 71.

(3) دستور الأخلاق في القرآن الكريم ص 126 والكلام منقول عن الفرنسية إلى العربية ، ترجمه الدكتور عبد الصبور شاهين – رحمه الله - .

(4) مقدمة الدكتور لترجمته كتاب "أثر العلم في المجتمع" لبرتراند رسل.

(5) نقله عنه الشيخ أبو الحسن الندوي – رحمه الله -.

تعليقات

المشاركات الشائعة