9- المسئولية عن أهداف العمل

9- المسئولية عن أهداف العمل ( أُذيع في 7/6/1957م)

قال التلميذ لأستاذه: لقد عرفت الآن عنصرًاجديدًا من عناصر مسؤوليتنا المباشرة؛ عرفت أننا محاسبون، لا على آحاد أعمالنا فحسب، وعلى فرائضها هل أديناها؟، وعلى آثامها هل اتقيناها؟. ولكننا مطالبون كذلك بتقديم الحساب عن أنفسنا، عن قوانا ومواهبنا، وعن أسباب نعيمنا، وعن أوقاتنا وأعمارها جملة؛ هل أهملناها وضيعناها؟ أم أفدنا منها واستثمرناها، فلم تركن بها الى الفراغ والعطلة، الا في فتراتٍ نستجِّم فيها، تأهبًا لاستئناف العمل؟. ثم في أيّ ضربٍ من ضروب العمل أو الاستجمام، أنفقنا هذا العمر، ساعة ساعة، ولحظة لحظة،.. لقد كنت على حق أيها المربي الفاضل، حين قلت أن الاجابة عن هذه المسائل، هي أشق الاجابتين وأدقهما.. لعمري إن الحساب على الفرائض والمحارم لا يعد شيئا مذكورا بالقياس الى هذا الحساب، فإني إذا سُئلت: هل صليت..هل زكيت؟. هل قتلت؟. هل سرقت؟. كان الجواب عليّ هينًا ميسورًا: نعم.أو لا . لكن من الذي يحصي عمل حياته، ويذكر ما مضى من حركاته وسكناته ليؤدي عنها الجواب سردًا وعدًًّا على وجه الصواب؟.
قال المربي: يا بني، ليس أكبر الحرج والعسر من هذه الناحية، فإن الذي ننساه نحن يذكرنا الله به، والسجلات حاضرة، والشهود قائمة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} سورة المجادلة. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} سورة الزمر(69). وإنما الحرج العظم، والألم الأشد والأمض، في تذكيرنا – بعد فوات الأوان – بهذه الطاقات العظيمة، التي زُودت بها فطرتها، وهذه الثروة الضخمة من وسائل العمل، التي كانت في أيدينا، وفي سؤالنا عن الموقف الذي اتخذناه بإزائها، هل استعنّا بها على طاعة الله؟. أم تقوينا بها على معصية الله؟. أم أبليناها وبددناها إسرافًا وعبثًا في غير طائل، وفي غير نفع عاجل ولا آجل؟. إننا حتى لو لم نطالب بالجواب، لكان مجرد تذكيرنا بهذه النعم التي لم تُشكر، وهذه الفرص التي لم تستثمر، كافيًا في أن يملأ صدورنا حُرقة وغُصة، وفي أن يذيب قلوبنا ندمًا وحسرة. ومن هنا صح في الأثر: أنه ما من أحد إلا ندم. إن كان مسيئًا ندم ألا يكون أقلعَ، وإن كان محسنًا ندم ألا يكونَ ازدادَ.
قال الطالب: لعلك قد بلغت بنا الآن غاية المدى، في تحديد الأفق الذي تمتد فيه مسؤوليتنا.
قال المربي: لا تعجل يا بني، إننا بعد لم نذرع هذا الأفق إلا من أحد طرفيه. وبقي أمامنا طرفه الآخر. لقد ذرعناه من جهة وسائل العمل وظروفه ومعداته. وبقي علينا أن نذرعه من جهة أهداف العمل ومقاصده وغاياته.. فمثل الإنسان وما جهز به من وسائل العمل، مثل الرجل يحمل قوسه ووتره وجعبة سهامه تأهبًا للرمي، ومثل ما يؤديه من العمل مثل السهم يرمي به عن قوسه. ومثل ما يتطلع اليه من خلال ذلك العمل، مثل القرطاس الذي يصوّب الرّامي سهمه إليه: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} الاسراء(36) هب نفسك إذًا لم تضيع أوقاتك سُدى، بل بذلت جهدك وأديت عملك. أتحسب أنك بهذا قد تمت مهمتك، وطويت صحيفة مناقشتك؟. كلا. لقد بقي أن تسأل: ماذا قصدت من هذا العمل؟. ما الذي بعثك عليه؟. ما الذي حفزك أليه؟. هكذا أنبأنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم –أنه: " لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس..." جعل أولى هذه المسائل الخمس، سؤال كل امرئ:" عن عمره فيم أفناه" أي: في سبيل ماذا عمل؟. إلى أي غاية قصد من هذا العمل؟. ذلك أن العاقل لا يعمل عملاً شعوريًا جدّيًا إلا لمعنى يطلبه فيه؟. يعمل لمجرد العمل؟.
قال المربي: لا يكون ذلك أبدًا في عمل جديّ؛ العمل لمجرد العمل، الحركة لمجرد الحركة..هذا هو العبث بحده وكنهه.
قال الطالب: أليس الذي يفعل الخير للخير يعمل لمجرد العمل؟.
قال المربي: كلا. ولكن لما يجده في طبيعة العمل من صفات فاضلة، وغايات نبيلة، تطمئن بها نفسه ويستريح لها ضميره. فهو قاصدٌ من عمله الى غاية معينة. وإن نوع الغاية التي يقصد اليها كل امرئ من عمله، هو العنصر الأخير الذي يحدد قيمة العمل، فيجعله إما عملاً مبرورًا، وإما عملاً مأزورًا، وإما عملاً لا برًا ولا فاجرًا.
قال الطالب: هل لك في أن تضع لنا معيارًا، نميز به هذه الأنواع الثلاثة من البواعث والمقاصد؟.
قال المربي: اعلم يا بني أن الحديث في هذا ذو شجون وأن للتفصيل فيه مجالاً غير هذا المجال. وحسبك الآن أن تنظر الى مثالين اثنين، ترى منهما كيف أن العمل الواحد ترتفع قيمته أو تنخفض، تبعًا للنوازع والدوافع المختلفة التي تنطوي عليها نفس العامل.
إليك المثال الأول:
هؤلاء ثلاثة نفر، كلهم يقوم أمامنا بواجبات البر والتقوى والعدل والإحسان.. فأما أحدهم، فإنه يفعل ذلك امتثالاً لأمر ربه، وسعيًا في تزكية نفسه، واستصلاحًا لشأن أمته، لا خوفًا من سلطان، ولا حذرًا من عقوبة أو من حرمان، ولا اجتلابًا لثناءٍ أو لجزاءٍ، ولكن نزيهًا مجردًا عن كل غرض، مُبرأ القصد عن كل عرض. فتلك نية خيرة مبرورة، وصاحبها بأعلى منزلة، فهو {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) } سورة الليل. وأما الآخر فإنه يؤدي عمله ختلاً وخداعًا، أو رياءًا للناس: اتقاءًا لسخطهم، أو التماسًا لثنائهم، أو طمعًا فيما بأيديهم أو طلبًا للمنزلة والحظوة عندهم.. فهذه نية آثمة شريرة وصاحبها بأحط منزلة:{ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)}الماعون. {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} النساء 38. وأما الثالث: فأنه يؤدي حق ربه خوفًا من ناره، أو طمعًا في جنته، كما يعمل عبد العصا خوفًا من العصا، أو كما يعمل عبد الدرهم طمعًا في الدرهم.. فهذه نية بين بين، لا نجد في القرآن تنويهًا بشأنها، ولا تشويهًا لأمرها، ولا مدحًا و قدحًا. فقصارى حظ صاحبها فيما نرى أن يخرج بها كفافًا لا له ولا عليه.
واليك مثالاً ثانيًا:
هؤلاء ثلاثة نفر يزاولون لونًا أو ألوانًا من الرياضة البدنية: سباقًا أو سباحة أو رماية أو مصارعة أو غير ذلك. فأما أحدهم؛ فإنه يبتغي من تقوية بنيته أن تكون له عدة على الصبر والجلد، والطموح وعلو الهمة، ففي مكابدته لأعباء الحياة، وقيامه بواجباتها المقدسة. وأما الآخر، فإنما يحفزه الإعجاب بنفسه، والمفاخرة لأقرانه، والاقتصار على مغامراته، والاشباع لملذاته، والانطلاق غير المحدود لغرائزه. وأما الثالث: فكل ما يعنيه أن يتذوق طعم الحياة الهنيئة البريئة، وأن يستمتع بالحلال الطيب في يسر ورغد.
هم درجات عند الله : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)



تعليقات

المشاركات الشائعة