10- كل راع مسئول عن رعيته

(أُذيع في 12/6/1957م)


قال التلميذ لأستاذه: لقد علمتنا أيها المربي الحكيم أننا لكي نعرف حدود مسؤولياتنا المباشرة، ينبغي أن نقيس امتدادها في أبعادها الثلاثة، من جهة عمقها، ومن جهة اتساع أُفقها، ومن جهة ارتفاعها، أما بُعد عُمقها، فقد علمتنا أن مسؤوليتنا تتجاوز منطقة أعمالنا السطحية الظاهرة وأنها تتغلغل في أعماق نفوسنا، حتى نتناول عقائدنا وحركات فكرنا وإرادتنا.. وأما اتساع أفقها، فقد عرّفتنا أنها تجاوز مناطق الأعمال كلها ظاهرة وباطنة، وأنها تمتد من جهة، إلى وسائل الأعمال وأدواتها، ومن جهة أُخرى إلى أهداف الأعمال وغاياتها، هكذا عرفنا امتداد مسؤوليتنا في بُعديها: عمقيًَا، وأفقيًا. وبقى علينا أن نقيس بعدها الثالث، لنعرف امتدادها رأسيًا. ماذا يعني إذًا بامتداد مسؤوليتنا من جهة ارتفاعها؟.


قال المربي:يا بني، لو كان كل إنسان خُلق فردًا، ولا يعمل إلا لحساب نفسه، وليس مسؤولاً إلا عن شخصه، لو كان كذلك، لكانت مهمة كل امرئ تنتهي متى أدى حسابه عن قواه ومواهبه، وعن عمل قلبه وجوارحه، وعن بواعثه ومطامحه.. تلك كلها مسؤوليات شخصية تلازم كل فرد، حتى لو فرض منقطعًا عن العالم، لا ارتباط له إلا بعمله، ولا صلة له بأحد من البشر.. غير أن الانسان بفطرته خلق ليكون عضوًا في جماعة صغيرة أو كبيرة، في أسرة.. في عشيرة.. في منصب رفيع أو متواضع، أو في كيانها، وفي اصلاح شؤونها. ألم تسمع قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }سورة التحريم(6)لقد بيّنَت لنا الحكمة النبوية أن كلمة " الأهلين" لا تخص أقاربنا الأدنين، ولكنها تتناول بمعناها كل من تحت رعايتنا، وكل من وكل أمره إلينا.. فلكل واحد منا – بهذه الصفة الجديدة – مسؤولية جديدة، ليست مسؤوليته عن نفسه، ولكن مسؤوليته عما تحت يده، وعمن تحت يده. مسؤولية الحارس والراعي عمن في حراسته ورعايته، مسؤولية الأمير والوالي، عمن تحت إمرته وولايته.


قال الطالب: أتسمي كل من وكل إليه شأن من شؤون الغير، راعيًا لذلك الغير وواليًا عليه، حتى الخادم والأجير؟!. أنكون نحن رعية لخدمنا وأُجرائنا؟!. أليس العكس هو الصحيح؟!


قال المربي: يا بني. إنها رعاية متبادلة، وولاية مشتركة متقابلة. إنهم تحت رعايتنا فيما نملك، ونحن تحت رعايتهم فيما يملكون.. هم تحت رعايتنا نغذوهم ونكسوهم، ونؤويهم بسواعدهم ويسعون لنا بأقدامهم، ويحرسونا بأسماعهم وأبصارهم ويحيطوننا بوفائهم وإخلاصهم. ومن هنا جاء في الحديث الصحيح، أن الخادم راع ومسؤول عن رعيته. وجاء في الحديث، أنهم إخواننا وخولنا: يتخولوننا ويتعهدوننا.. وهكذا كان اسم " الولاية" في اللغة العربية اسمًا مشتركًًا بين الطرفين. كما أن كل من أمر على شأنٍ من الشؤون، كان مسؤولاً عن إمرته، على تفاوت كبير في درجات هذه المسؤولية.


قال الطالب: بأي مقياس نقيس هذا التفاوت، في درجات تلك المسؤولية الاجتماعية؟.


قال المربي: هنالك مقاييس كثيرة، أقربها لتصورك مقياس الكم؛ مقياس المساحة والعدد. ذلك أنه كلما اتسع مجال النشاط المطلوب منك بذله كلما كثر عدد الأفراد المنوط بك رعايتهم. وكلما ارتفع المكان الذي تشرف منه عليهم، عظمت مسؤولياتك، وتضاعفت تبعاتك. دوائر بعضها فوق بعض، تتدرج في الاتساع على قدر تدرجها في الاتفاع، كأنها هرم مقلوب، قمته المدببة في أسفله وقاعدته العظمى في أعلاه.. من رب الأسرة إلى عميد القرية، إلى والي المدينة، إلى أمير الإقليم، إلى رئيس الدولة..إذا فهمت هذا يا بني، فاعلم أنك لو عرفت لنفسك قدرها، لم تصعد على هذا السلم إلا بقدر، وبكل تحفظ وحذر.. تبدأ بنفسك فتحكم أمرها، ثم بأسرتك فتصلح شأنها، ثم بما يوكل اليك من الأعمال الجزئية؛ فتسعى في تجويدها وإتقانها.. ولا تمدّن عينيك الى ما وراء ذلك، فتحمّل نفسك ما لا طاقة لك به. فإن عرض لك شيئ من هذه المسؤوليات العظمى، واستطعت أن تتنصّل منه فافعل، فإن ذلك أعون لك على الاحسان والإجادة فيما حملت من الأمانات الأخرى. أما إن لم تجد لك محيصًا عن حمل هذه الأعباء الكبرى، فحملتها وأنت غير مستشرف لها، ولا ساعٍ اليها، فلتتق الله فيها حق تقاته، ولتتخذ لك فيها أسوة حسنة من سيرة الخلفاء الراشدين، والأمراء الصالحين.. روي عبد الرحمن بن الحوزي، عن فاطمة بنت عبد الملك، زوجة عمر بن عبد العزيز، قالت: أرق عمر ذات ليلة، فجلس واضعًا رأسه على يده، ودموعه تسيل على خدّه، حتى برق الصبح.. قالت: فدنوت منه فسألته ماذا يؤرقه؟. وماذا يُبكيه؟. فقال: دعيني لشأني وعليك بشأنك. قالت: فألححت عليه حتى قال لي: إنني نظرت فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة، صغيرها وكبيرها ثم ذكرت الغريب الضائع، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر وألا تقوم لي أمام رسول الله حجة، فخفت على نفسي خوفًا وَجَل له قلبي، ودمعت له عيني، وإني كلما ازددت لذلك ذكرًا، ازددت منه خوفًا ووَجلاً. قال الفضيل بن عياض: بكى عمر بن عبد العزيز يومًا، فقيل له: ما يبكيك؟!. فقال: ومالي لا أبكي، ولو أن سخلة هلكت على شاطئ الفرات، لأُخذ بها عمر يوم القيامة.


قال الطالب: ألا ترى هذا غلوًا في الدين، وإسرافًا في الورع؟. فهذا الرجل الذي حمل أعباء الدولة، واستأثرت به عظائم شؤونها، كيف يُسأل عن فروعها ووقائعها، بعد أن خلع ربقتها من عنقه، وألقاها على كاهل غيره، حيث استعمل على كل شأن منها عاملاً، وولى على كل طرفٍ منها واليًا، وأصبح هؤلاء هم المسؤولون عنها، فإنما عليه ما حمّل وعليهم ما حملوا.


قال المربي: ما أراك يا بني إلا قد طال عليك الأمد فنسيت.. نسيت مبدأ المسؤوليات المزدوجة، إن كل أمانه – دُقت أو جلت – ضيعها عامل – صغر أو كبر – فإنها لا تقع تبعتها على العامل الذي ضيعها وحده، ولكن يُسأل عنها رئيسه المباشر، الذي أساء الاختيار، حين أسندها إلى من ضيعها، ثم يًسأل عنها من ولى هذا الرئيس المباشر، ثم من وليّ الذي ولاه، وهكذا تصعد المسؤولية درجة درجة إلى كل من ولى أو أمر، أو استخلف أو استوزر، فلا يبرأُ أحد منهم أمام الله إلا بأحد أمرين: إما بإصلاح ما فسد، وإما بعزل المضيعين المفرّطين، وتولية الصالحين المصلحين {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}سورة التغابن .


والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.. والحمد لله رب العالمين .والحمد لله رب العالمين .


وهنا تمت هذه الحلقات


تعليقات

المشاركات الشائعة