7-المسئولية عن الأعمال القلبية

7 - المسئولية عن الأعمال القلبية(أُذيع في 10/4/1957م)

- آن لنا يا بني أن نعرف مدى مسئولية المرء عن عمل نفسه. فلنقرأ معًا:
- قال التلميذ لأستاذه: لقد حدثتني مليًا في شأن المسئولية عن فعل الغير، وعن آثار فعل الغير. وقد بسطت القول – مشكورًا – في تفصيل هذه المسئولية الأساسية؛ مسؤولية كل امرئ عن عمل نفسه؟.
- قال المربي: زادك الله يا بني حرصًا على المزيد من المعرفة ورزقني وإياك الإخلاص في طلبها، والتوفيق الى العمل بأحسنها.. نعم يا بني لقد طوَّفت بك كثيرًا في مناطق المسؤوليات غير المباشرة. فالآن أعود بك الى مركز الدائرة ؛ الى المسؤولية الأولى، التي كل ما عداها فإنما هو انعكاسٌ لأشعتها، وترديد لصداها.
- وسوف ترى أن هذه المسؤولية الأولى بدورها أبعد عمقًا وأوسع نطاقًا، وأعلى ذروة، من أن تبرز حدودها في تلك الكلمة المشهورة: مسؤولية كل امرئ عن عمل نفسه.. ذلك أن كلمة العمل، أقرب ما يفهم منها، تلك الحركات الظاهرة التي من شأنها أن تقع تحت الحس، وأن تكون في متناول السمع والبصر.. على أننا حتى لو أخذنا كلمة العمل – بأوسع معانيها – لتنتظم الأعمال الظاهرة والباطنة فإنها لا تتناول وسائل العمل نفسها؛ من القوى والمَلَكات والمواهب، وسائر المقدرات الذاتية والخارجية، التي سنُسأل عنها، وعن وجوه انتفاعنا بها.. وأخيرًا، فإن كلمة العمل أكثر ما تصور لنا العامل؛ اما فردًا مستقلا منعزلا يعمل لحساب نفسه، واما فردا يعامل فردا. وقلما تصوره لنا رأسًا مدبرًا، مهيمنًا على منطقة أو مناطق من العالم، مسؤولاً عن صلاحها واستقامتها، واتجاهها قُدمًا الى غايتها.
- النظرة الأولى؛ التي تقف بالمسؤوليات عند حدَ الأقوال والأعمال الظاهرة، نظرةٌ قشرية سطحية، لا تنفذ الى جوهر الأمور ولبها، انها تفترض الانسان آلة لا قلب لها. والنظرة الثانية: التي تنظر الى مفردات الأعمال وآحادها لترى: هل أداها المرءُ على تمامها؟. نظرة عددية؛ تختبر من المرء قوتَه الذاكرة، لا قوته المفكرة، كأنما تفترضه نصف آلة، أو آلة حاسبة.
والنظرة الثانية: التي تعتبر من كل امرئ الا مسئوليته الفردية. تفتت الانسانية تفتيتًا يجعلها ذرات متناثرة لا سلطان لها على الكون، ولا هيمنة لبعضها على بعض
ان الصورة التي ترسمها هذه الخطوط عن حقيقة مسؤولياتنا المباشرة، صورة ناقصة مبتورة، وهي صورة تغض من قيمة الانسان المسؤول، اذ تجعله آلة أو شبه آلة أو تجرده من منصب خلافته في الأرض، فلكي نردّ اليه اعتباره كاملاً، ينبغي أن نقيس مسؤوليته في أبعادها الثلاثة: عمقيا ، وأفقيا، ورأسيا.
قال الطالب: على رسلك أيها المربي الحكيم.. هاتها واحدة واحدة.. ولنبدأ ببيان ما تعني من امتداد مسؤولياتنا من جهة العمق.
قال المربي: أريد أن تعرف يا بني، أننا لسنا مسؤولين عن أعمال جوارحنا فحسب، ولكنا مسؤولون كذلك عن أعمال قلوبنا.
قال الطالب: كيف نُسأل عن أعمال قلوبنا، والقلوب بيد الله، يقلّبها كيف يشاء؟! هذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو القدوة العظمى، في الحزم والعزم وضبط النفس، كان يقول" اللهم هذا جَهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملكُ ولا أملك" يعني شؤون القلب. والقرآن نفسه يقول {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}(الأنفال)


قال المربي: يا بني. ان الله لايحول بين المرء وقلبه ابتداءًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }( الرعد 11) وانما يحول بين المرء وقلبه؛ عقوبة له على سوء كسبه اما باعراضه عن داعي الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}( السجدة 22{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}( الزخرف 5) واما باغماضه عن نور الله {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} ( الزخرف). واما بمعصيته لله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} ( المطففين). وما أراك يا بني الا قد التبس عليك الأمر بين أعمال القلوب، وأحوال القلوب، فالذي لا نملكه ولا نُسأل عنه هو الأحوال القلبية من الحب والبغض، والفرح والحزن، والبسط والقبض وما أشبهها. أما عمل القلوب فنحن نملكه ونُسأل عنه.


قال الطالب: أين نجد الشاهد على هذه المسؤولية عن عمل القلوب؟.


قال المربي: نجده في كتاب الله، فهو يقول{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} ( الأنعام 120).


قال الطالب: وما يدرينا أن معنى الباطن هنا هو عمل القلوب؟. لماذا لا يكون المقصود عمل الجوارح في السر؟.


قال المربي: انها تنتظم بعمومها كلا المعنيين. ومهما يكن من أمر فإليك ما هو أوضح دلالة على مقصودنا، وذلك قول الله – تبارك وتعالى {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)}( الطارق{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)} ( العاديات){وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}( البقرة 184). وقد دلت الآية بعدها على أننا لا نحاسب، على ما يدور في خلدنا من الخواطر غير المستقرة، التي لا كسب لنا فيها، وانما نُسأل عما لنا فيه كسب واختيار، ولنا عليه عزم واصرار.


قال الطالب: مثل ماذا؟


قال المربي: الأمثلة كثيرة، والأنواع عديدة، والدرجات متفاوتة من الأساس الى القمة، ومن العقيدة الى الفريضة الى النافلة.. فأول ما نُسأل عنه من عمل القلوب، الايمان بالله: نُسأل: هل آمنا بهذا الحق الأعلى؟ ثم هل كان ايماننا به على بصيرة وعن بينة، أم كان مجاراة لقومنا لما وجدنا عليه آباءنا؟. ثم هل ثبتنا على هذا الايمان بعد أن حصلناه؟ هل حرصنا على تنقية مرآة قلوبنا أولاً فأولاً من غبار الشكوك والشبهات، التي تحاول طمس نورها؟. أم نحن كلما عرضت لنا شُبهة ركنا اليها حتى صدئت مرآة قلوبنا، وحتى أكل الصدأُ معدنها؟.


وبعد السؤال عن الايمان، يجئُ دور السؤال عن أمهات الفضائل النفسية؛ من الصبر والحلم والتواضع والرحمة وأمثالها، وعن كبائر الآثام القلبية، كالحقد والحسد والكبر والعجب، والنفاق والرياء، وتبييت نية الأذى للخلق، بغير جناية جنوها، وكتمان كلمة الحق حين يدعو الداعي اليها، فإن الساكت عن كلمة الحق شيطان أخرس {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} ( البقرة 283). وأخيرًا يجئُ السؤال عن فواضل التضحية والايثار، وعن نوافل الزهد والورع: هل ننظر في ديننا الى من هو دوننا، لنرضى من أنفسنا بالدون؟ وننظر في دنيانا الى من فوقنا فنأسف على ما فاتنا منها؟. أم هل ننظر في ديننا الى من فوقنا فنقتدي به؟ وننظر في دنيانا الى من دوننا فنحمد الله على فضله؟. حتى نكتب من الشاكرين الصابرين؟. قال الطالب: كتبنا الله واياك من الشاكرين الصابرين






تعليقات

المشاركات الشائعة