8-مسئولية المرء عن عمره

8-مسئولية المرء عن عمره ( أُذيع في 24/ 5/1957 م)



أخي القارئ الكريم، قليلاً من وقتك لمتابعة هذا الحوار النافع:


قال التلميذ لأستاذه: لقد علمتنا – أيها المربي القدير – أن مسئوليتنا الأساسية المباشرة، أبعد مدى من أن تبرز حدودها في تلك العبارة المشهورة: مسؤولية كل امرئ عن عمل نفسه، وقد أرشدتنا الى الطريقة المثلى في تحديد هذه المسئوليات، إذ وصيتنا بأن نقيسها من أبعادها الثلاثة؛ من ناحية عُمقها، ومن ناحية اتساع أفقها، ومن ناحية ارتفاعها. ثم بدأت بأن بينت لنا ماذا تعني بامتداد مسؤولياتنا من جهة العمق؛ إذ عرّفتنا أننا لن نحاسب على أقوالنا وأفعالنا الظاهرة فحسب، ولكننا سنسأل كذلك – بل قبل ذلك – عن أعمال قلوبنا؛ عن عقائدنا وإرادتنا ونيّاتنا. ذلك أن القلب هو الأساس الذي إذا قوي استمسك البنيان كله، وإذا وهي تداعى البنيان كله.


هذه إذًا واحدة قد وعيناها. فهات لنا الثانية إن شئت ماذا تعني بامتداد مسؤولياتنا امتدادًا أفقيًأ؟.


قال المربي: أريد يا بني أن أوجه نظرك ها هنا الى حقيقة مهمة، يغفل عنها أكثر الناس، فأكثر الناس يظنون أننا مسؤولون عن العمل، وعن رأس مال العمل.


قال الطالب: وما رأس مال العمل في موضوعنا؟


قال المربي: كل وسائل العمل وأدواته. ألا تدري أن مواهبك المادية والمعنوية، ومقدّراتك الذاتية والخارجية كل أولئك أنت مسؤول عنه؟


قال الطالب: أراك تعُدّ أشياءً ليست من صنعتي، ولا تدخل تحت ارادتي. فكيف أسأل عما لم أصنع؟. أم لعلك تريد أن تقول أننا مسؤولون عن صيانة هذه المواهب ورعايتها، وعن حسن التصرف فيها، وحُسن الانتفاع بها؟!.


فإن كان ذلك هو ما تقصد إليه، فقد رجعت المسألةُ الى نوع واحد، وأصبح موضوع المسؤولية دائمًا هو العمل، ولا شيئ سوى العمل.


قال المربي: لو أمعنت النظر قليلاً لانكشف لك الأمر عن سؤالين مختلفين: سؤال عن عملك الذي صنعت، وسؤال عن وسائل العمل التي استخدمت.


قال الطالب: من أين لنا هذا؟


قال المربي: من كتاب الله. أما السؤال عن العمل، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) } سورة الحجر. وأما رأس مال العمل، فحسبك أن تسمع فيه قول الله تعالى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } سورة الإسراء. وقوله تعالى في الأية الأخرى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} سورة التكاثر.


قال الطالب: أليس مضمون السؤالين واحد، وإن وضعا في صيغتين مختلفتين؟


قال المربي: لو كان ذلك لهان الأمر، ولكن هيهات!. إنهما سؤالان جدّ مختلفين، وإن الإجابة عن ثانيهما هي أشق وأدق الإجابتين.


قال الطالب: أرغب إليك أن تبين لي هذا بيانًا شافيًا.


قال المربي: ألق سمعك، وأيقظ قلبك.. أرأيت لو أن رجلاً أعطاك قدرًا من المال لتتجر له به، أتراه يتولى بنفسه رسم خط سيرك في التجارة تفصيلاً وتحليلاً، حتى يعيّن لك السوق التي تشتري منها، والسوق التي تبيع فيها، ويحدد لك ثمن كل سلعة في شرائها وفي بيعها، ويضع لك صيغة الدعاية لترويجها، وهلم جرا، حتى تصبح في يده آلة كاتبة أو حاسبة؟.


قال الطالب: كلا. وإنما يرسم لي الخطوط العريضة التي يحدد بها حقوقي وواجباتي، ثم يكَِل ما وراء ذلك إلى تقديري وتدبيري. وهكذا يعاملني كما يعامل شخصًا مسؤولاً عن تثمير ماله وازدهار تجارته.


قال المربي: حسنًا. فإذا اكتفيت بتطبيق نصوص العقد الذي بينك وبينه، فلم تترك فيها التزامًا صريحًا إلا وفيته، ولا محظورًا صريحًا إلا تحاميته، ولكنك قعدت بعد ذلك فارغًا غافلاً، فتركت البضاعة يتراكم عليها التراب، وتنسج عليها بيوت العنكبوت، ولم تُبد فطنة ولا حذقًا ولا مهارة، فيما وكله الى تدبيرك وتقديرك والى فطنتك وحذقك ومهارتك.. أتظن أنك بهذا تكون قد أديت كل رسالتك، وأخليت نفسك من كل مسؤوليتك؟. ألست ترى أنك على العكس، تكون قد ضيعت من أمانتك أعظم شطريها، وأخللت من مسؤوليتها بأدق وأشق ركنيها؟.


قال الطالب: بلى .


قال المربي: فذلك مثل ما منحك الله من القُوى والملَكَات والمواهب؛ في سمعك وبصرك ولسانك وعقلك وجوارحك وما آتاك من رزق، في مالك وعشيرتك وإخوانك وأعوانك وما سخّرلك من وقت مُد به في حياتك وعمرك. لقد جعل ذلك كله رأس مال لك؛ ثَبَّتَ به قدمك على الأرض، ورَفَعَ به رأسك الى السماء، وطلب اليك أن تُنمي هذه الثروة كلها، بالعمل بها في كلا المجالين؛ تحصيلاً لمعاشك وتأمينًا لمعادك، إحسانًا الى الخلق وعبادة للخالق. وقد حظر عليك محظورات عينها، وكتب عليك فرائض بينها، ثم رسم لك قواعد عامة لثمير هذه الثروة، في سُبل البر والتقوى والعمل النافع، وترك لتدبيرك وتقديرك اختيار الأسلوب المعين، الذي تختاره لتثميرها في داخل هذا النطاق العام فهل لك بعد ذلك أن تجيء فتقول: إذا أديت الفرائض واتقيت المحارم فلا عليّ أن أعمل أو لا أعمل؟!. كلا. إن الله لا يحب أن يراك فارغًا عاطلاً، ولكن يحب أن يراك كادحًا عاملاً. إن كل فترة -من الفُتُور - في جهدك، وكل تراخٍ في نشاطك، تعطيل للثروة التي أمرك بتثميرها. وإخماد للروح التي ندبك الى تزكيتها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}سورة الشمس.. إن الاسلام دين نشاط وعمل، لا دين قعود وكسل، إنه عملٌ للآخرة والدنيا جميعًا.. انظر في القرآن الكريم الى صفات المؤمنين.. وصفات عباد الرحمن..وصفات المحسنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} السجدة(16). {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} سورة الفرقان{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} سورة الذاريات.. هذا عملهم للدين. أما عملهم للدنيا، فكل الديانات المعروفة تحظر على أتباعها العمل يومًا كاملاً في الأسبوع، وليس في الإسلام عطلة واجبة إلا ساعة من نهار في كل جمعة.{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}سورة الجمعة(9).{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} سورة الجمعة(10).. لا تقل إذًا: لقد أديت فريضتي، فلأقتل وقتي في اللهو واللعب. كلا، إن وقتك هو ثروتك، هو رأس مالك، هو حياتك. لا تقتل وقتك فتقتل نفسك. إن كل دقة من دقات قلبك، وكل لمحة من لمحات بصرك، وكل خفقة من خفقات نفسك، تهتف بك: هل ضيعتني، أم في شيئ من الخير اغتنمتني؟. ألم تسمع الى قول النبي – صلى الله عليه وسلم - :" لا تزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس...." فجعل أول المسائل الخمس سؤال كل امرئ:" عن عمره فيم أفناه"..أي: عن وقته فيم ضيعه. بل ألم تسمع الى قول الله تعالى:{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} سورة الشرح.... إذا فرغت من عمل، فاشغل نفسك بعمل.. إذا فرغت من عمل لدينك، فاشتغل بعمل لدنياك، وإذا فرغت من عمل لدنياك، فاشتغل بعمل لدينك. إذا فرغت من حاجة بدنك فخذ غذاءًا لعقلك، أو متعة لروحك. وإذا فرغت من شأن نفسك، فأقبل على شأن أُسرتك، ثم على شأن أمتك.. وهكذا .. لا فراغ.. لا فراغ..إلا استجمامًا وتأهبًا للعمل. إنه لا يركن الى الفراغ إلا الفارغون: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} الأنبياء

تعليقات

المشاركات الشائعة