- 6- المسئولية التضامنية في الإسلام

- 6- المسئولية التضامنية في الإسلام(أذيع في 29/3/1957م)

- قال المربي لتلميذه: لعلي أتعبتك معي يابني، بهذه الرحلة الشاقة التصاعدية؟. لقد أردت أن تطلع معي على مدى التبعات والمسؤوليات، التي يحملها المرءُ من جرّاء فعل غيره، فوق مسؤليته عن عمله المباشر.


- قال الطالب: لست من عناء البحث أُشفق على نفسي فإن حب الاطلاع يغريني به، ولكني أشفق على نفسي وعلى الناس، من أن نعجز عن إيفاء المسؤوليات حقها. فلقد سرت بنا حتى الآن مراحل أربعًا، حملتنا فيها من أعمال الغير تبعات أربعًا، ما من تبعة إلا وهي أعظم من سابقتها.


- قال المربي: ما عهدتك يا بني هكذا هلوعًا ضجرا متبرما!. ألم تعترف لي في كل خطوة خطوناها أنها سديدة مستقيمة؟. وفي كل قضية قضيناها أنها برة عادلة؟.


- ثم ما بالك تسميها شؤون غيرنا، وهي في أساسها ومنبعها من شؤون أنفسنا؟. بل إنها من أيسر هذه الشؤون، لمن عرف حقيقة مطالبها، ذلك أنها – في غالب الأمر – لا تتطلب منا إلا موقفًا سلبيًا، ليس فيه بذل نفس ولامال ولا تضحية فيه بجهد ولا بوقت. إن هو إلا التحفظ والتصون، والإباء والكف والامتناع.


- وإليك البيان:


- لقد قلت لك أول الأمر: إننا مسؤولون عن فعل غيرنا إذا كان قد فعلهُ صُدورا عن أمرنا، فلكي تبرأَ من هذه المسؤولية، ما عليك – إن كنت ذا سلطان – إلا أن تمتنع عن أمر مرؤوسيك بشيئ فيه إثم أو ظلم، وأن تكف عن استعبادهم في جلب حظ لنفسك، وعن استخدامهم في إيصال أذى لغيرك.


- وقلت لك ثانيًا: إننا محاسبون على فعل غيرنا، إذا كان قد فعله إقتناعًا برأينا، واتباعًا لإرشادنا، فما عليك – إن كنت ذا قلم أو لسان – إلا أن تصون قلمك ولسانك عن ترويج الباطل، وتزيين الإثم، وتحريك الفتنة، وفتح باب السوء والفحشاء.


- ثم قلت لك: إننا مجزيون عن فعل غيرنا، إذا كان قد فعله إقتداءًا بسيرتنا، واستنانًا بسنتنا ، فما عليك – إن كنت ممن يُقتدى به – إلا أن تجتنب كل عمل يتخذك الناس به قدوة في الباطل، وإمامًا في الضلالة.


- وأخيرًا قلت لك: إننا مؤاخذون بذنوب غيرنا، إذا أقررناها إقرارًا صامتًا، بالإغضاء عنها والسكوت عليها.. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يتشعب علاجها، فيكون إيجابيا تارة، وسلبيًا تارة أخرى. كلٌ على قدر همته وعزيمته، وعلى قدر ما أُوتي من وسيلة، لتحقيق أمانيه وإنفاذ عزائمه، ولقد ضربت لك المثل بركاب السفينة الذين اقتسموا طبقاتها. فإن كنت ممن هم في أعلى السفينة فإن مسؤوليتك خطيرة جسيمة بإزاء أهل الطبقات الدنيا الذين يحاولون أن يخرقوا قعر السفينة بترويج الشكوك والشبهات، وإثارة الغرائز والشهوات . فإن لم تأخذ على أيديهم توًا، في شدة وحزم، غرقت السفينة كلها، وكنت أنت من المغرقين.


- قال الطالب: الحمد لله الذي عافاني من هذه المسؤوليات العظمى.


- قال المربي: أما إن كنت من عامة الركاب، فما عليك إلا أن تبذل جهدك في النصيحة، وتبالغ في الوصية، فإما أن يزول المنكر من أمامك، وإما أن تزول أنت من أمامه مفارقًا لأهله، مهاجرًا الى ربك، وليسعك بيتك، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطئتك.


- قال الطالب: إنها أيضًا لكبيرةً إلا على الخاشعين. والآن، أيها المربي القدير، أليست هذه المرحلة هي خاتمة المطاف بنا، حول هذه المسؤوليات الإضافية؟.


- قال المربي: كلا. بل بقيت أمامنا مرحلة أخرى أعجب إليك وأغرب، مرحلةٌ نجد فيها أنفسنا ملزمين أن نشاطر المخطئ نتائج خطئه، وأن نتحمل مع العاثر تبعات زلته.


- قال الطالب: أتقول مسؤولية المخطئ؟!. هل تعني حقًا ما تقول؟! أليس المخطئُ قد وضعت عنه المسؤولية بنص القرآن الحكيم:{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الأحزاب(5). فأي تبعة تبقى عليه بعد ذلك حتى تشاركه فيها؟!.


- قال المربي: يا بني، إن الله إنما وضع عن المخطئين مسؤولياتهم الأدبية والجنائية. أما المسؤولية المادية الاجتماعية فإنها باقية بنص القرآن الحكيم. ألم تقرأ قول الله تعالى{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}النساء(92)؟. ألا تعرف أن السنة المطهرة علمتنا كذلك أن الخطأ والعمد في أموال الناس ودمائهم سواء؟. ألا تعلم أن علماء الأمة مجمعون على أن من رمي بسهمه صيدًا فطاش سهمه فأصاب انسانًا أو حيوانًا أو مالاً ما ، لم تذهب هذه الضحايا هدرًا، بل وجب تعويض ما حدث من تلف وإزالة ما ترتب من ضرر؟. ترى من ذا الذي يحمل هذا المغرم؟. أيحمله هذا المخطئ؟. إن الاسلام لأرحم من أن يترك هذا البائس المسكين يحمل وحده غرامة نزلت به لم يصنع هو سببها باختياره. أين إذًا تلك القلوب الرحيمة التي أمرها أن تحيطه بعطفها؟ وأين تلك السواعد القوية التي جندها لتُقيل عثرته؟!!. أين الجماعة التي جعلها الله كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء؟! هكذا قضى الاسلام أن دية الخطإ لا يحملها المخطئُ وحده، بل تحملها معه طائفة ممن حوله، يسهم فيها معهم كواحد منهم. تحملها معه عاقلته؛ عصبته وقرابته، أو أهل ديوانه. فإن لم يجد هؤلاء ما يحملون حملتها عنه الدولة؛ كما تحمل عن الغارمين غرمهم وتؤدي عن المدينين ديونهم.


- قال الطالب: ألست ترى معي أن للقضاء والقدر نصيبًا كبيرًا في جناية الخطإ؟. فهل نُسأل هكذا عن فعل القدر.


- قال المربي: يا بني. لا تكن كالذين إذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ }يس(47) نعم يا بني، نُسأل عن فعل القدر. لا نَسأل عنه: لماذا نزل؟ ولكنه إذا نزل، نُسأل أن نخفف وقعه ونلطف أثره، فإنه من أجل هذا نزل، نزل ليثير عزائمنا ويختبر جهودنا، ويتقاضى جهادنا.. نعم يابني، إننا مسؤولون ماديًا وأدبيًا عن كل ما تجري به المقادير حولنا؛ نُسأل عن جوع الجائع، فنطعمه ونغذوه، وعن عري العاري فنستره ونكسوه، وعن جرح الجريح، فنأسوه، وعن الفقير فنغنيه، وعن تشرد ابن السبيل فنؤويه، وعن جهل الجاهل وضلال الضال، فنعلمه ونهديه.. يا بني، إن الأمة التي ينطوي كل فرد فيها على نفسه، ولا يسأل فيها جار عن جاره، والتي يُترَك فيها هؤلاء العاثرون، فريسة لبؤسهم ويأسهم، ليست هي الأمة التي قال فيها الله تعالى {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}التوبة(71)... أرأيت يا بني إلى أي مدى بلغت مسؤلياتنا؟. إنها – في هذه المرحلة الأخيرة – ليست مسؤولية أدبية عن ذنوب الناس وآثامهم، ولكنها مسؤولية مادية عن آلامهم وآمالهم.


- تلك هي المسؤولية التضامنية في الإسلام، لا أقوالاً عائمة، ولكن حقائق ملموسة، مفصلة معينة.. هل رأيت مثل هذا في شريعة غير شريعة الإسلام؟.


تعليقات

المشاركات الشائعة