2- مسئولية الضعفاء والمستكبرين

2- مسئولية الضعفاء والمستكبرين(أُذيع في يوم 1/2/1957م)

قال المربي لتلميذه وهو يحاوره في انواع من المسئوليات الأدبية:
- هل عرفت الآن يابني أننا مسئولون عن فعل غيرنا، متى كان الغير قد عمل بأمرنا أو بايحائنا؟.


- قال الطالب: نعم. لقد عقلت هذا المثال.


- قال المربي: هذا هو الضَربُ الأول من مسئوليتنا عن فعل الغير.


- قال الطالب: أرجو ألاتتعجل بالانتقال الى نوع أخر حتى أُكاشفك بما يجول في خاطري عن هذا النوع الأول؛ لقد كنت أظن من قبل أن الفاعل المباشر لإثم هو الذي يجب أن يبوءَ وحده بالإثم كاملاً، وألا يسأل معه أحد غيره. ولكني حين سمعت مقالة القرآن الحكيم في شأن دعاة السوء: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} العنكبوت(13). تحول موقفي من النقيض الى النقيض، فأصبحت الآن أرى أن المسئولية هنا على الآمر، لاعلى المباشر، وعلى المتبوع لاعلى التابع. أليس من العدل أن المتبوعين ذوي النفوذ والسلطان هم الذين يحملون وزرهم ووزر أتباعهم كاملين؟


- أوليس من القسوة أن نُحمل أتباعهم تبعة مافعلوه امتثالاً للأمر القاهر؟. نعم. ماذنب هؤلاء الضعفاء الذين لم يقترفوا الإثم عن طوع ورغبة واختيار ولكن عن اكراه وإلجاء واضطرار؟. أليس كتاب الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} النحل}(106). { إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام(119)


- قال المربي: حذار يابني أن تسمي أمر الرئيس لمرؤوسيه إكراها يُخرج المرؤوس عن إرادة نفسه ويُبرئه من تبعة فعله. فتلك دعوى لاتقرّها دساتير الأرض، ودستور السماء. أما دساتير الأرض، فانها تعلن في صراحة لالبس فيها، أن أوامر الرؤساء – كتابية كانت أو شفاهية – لاتُعفي المرؤوسين من مسئوليتهم عن مخالفة القانون. وأما دستور السماء، فإنه أبطل كل حيلة حاول بها المستضعفون أن يتنصلوا من ذنبهم بضعفهم، ودحض كل حجة احتجوا بها لإلقاء التبعة كلها على كاهل كبرائهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} سبأ(31،33). {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} غافر، {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) }الأحزاب ، قال الحكم العدل: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} الزخرف. هكذا ترى يابني ، أن الأعتذار بطاعة الرؤساء، وامتثال أمر الكبراء، فيما لايرضي ربنا الأعلى اعتذار بمالايُقبل، وأن المستعتب به غير معتب.


- قال الطالب: ولم ذلك؟. أليس هذا ضربًا من الإكراه؟ّ.


- قال المربي: يابني إن قوى الأرض كلها لو تظاهرت علينا بأمرها وإغرائها وإنذارها وتهديدها، لتدعونا إلى خير أو شر، ماكان ذلك كله ليسلبنا إرادتنا، أو يلقي عنا تَبِعَاتنا، مادام فينا عقل يفكر ويوازن ويحكم، ومادام لنا سلطان على جوارحنا نصرّفها نحن باختيارنا، وليست هي التي تتحرك بنفسها حركة آلية، أو يحركها غيرنا حركة قسرية. فما دمنا نستمتع بهذا القسط من الوعي والضبط، فنحن مسئولون عن عقائدنا وعن أعمالنا على الرغم من كل الأوامر والنواهي التي تحاول أن تُغير وجهتنا.. استمع إن شئت الى هذا الإعتراف الصريح الذي سجله على نفسه أخطر عنصر من عناصر الشر في العالم – الشيطان الرجيم : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إبراهيم(22)...يابني. ان الذي يسميه الناس اكراهًا في هذا الباب، ليس في حقيقته باكراه انما هو ضرب من الضغط المادي أو الأدبي، لايسلب الارادة ولكنه قد يضعفها قليلاً أو كثيرًا. نعم. اذا بلغ هذا الضغط حدًا تكاد تنعدم معه قوة المقاومة، كان لنا حينئذ أن نسميه اكراهًا حكميًا، أو شبه اكراه، وكان لنا أن نجعله رخصة وعذرًا، لا لأرباب العزائم القوية، ولكن للضعفاء، بصفة استثنائية، غير أن هذا الحد الذي يصح أن نسميه إكراهًا حكميًا يتفاوت في نفسه تفاوتًا كبيرًا تبعًا لاختلاف الوسائل التي تستخدم فيه، واختلاف النفوس التي يقع عليها، واختلاف الأغراض التي يُتخذ من أجلها فرب أمر واحد يُعد اكراها في حال، ولايُعد اكراهًا في حال أخرى. وليس المجال الآن مجال البسط والتفصيل ولكني أُوجه نظرك الى حقيقة قد يغفل الناس عنها، وهي أن ها هنا حرماتٌ مقدسة قد رفعتها الشريعة الى الأُفق الأعلى، فلم تُرخص لقوي ولا لضعيف أن ينتهكها، ولو في أشد حالات الاكراه والاضطرار .. دونك مثالاً من هذه المقدسات: هذا رجل قاطع طريق قد أصْلَتَ سيفه على رأسك، وجعل يأمرك أن تقتل فلانًا هذا البريء، الذي تعرف أنت براءته، وجعل ينذرك ويهددك بأنك ان لم تقتله أو لم تحكم بقتله أجهز على حياتك، ورأيت في عينيه الجد والعزم المصمم.. أفتقتل هذه النفس البريئة خوفًا على نفسك؟. كلا. فتلك باجماع المسلمين جريمة لاتغتفر. ولأن تُقتل مظلومًا خيرٌ من أن تقتِل بريئًا. ولكن تدافع هذا الصائل عن نفسك. فان دفع فقد أحييت نفسين، وان قُتلت انت فقد أحييت نفسًا وادخرت لنفسك جزاء الشهداء.








تعليقات

المشاركات الشائعة