تجديد الخطاب السلفي [2]

                            
بسم الله الرحمن الرحيم

حديث الأسبوع
تجديد الخطاب السلفي (2)
بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فقد يجد بعض الناس تناقضاً بين مدلولي (التجديد) و (السلفية)؛ باعتبار الثاني يدل على القدم المنافي للجديد! والأمر ليس كذلك. فالتجديد الذي ننشده ليس انقلاباً، أو تغييراً للثوابت، بل هو نوع من إعادة تفعيلها، لتؤدي دورها، وتقتضي آثارها، في الواقع. ذلك أن (الجمود) والتشبث برسوم محلية، اقتضتها مرحلة زمنية معينة، يعطل أداء النص، ويحجر على العقل أن يُعمله في النوازل، والمستجدات. ولهذا صار يعتور الأمر محذوران : أحدهما: الوقوع في أسر الجمود بدعوى المحافظة، والتمسك بالسنة، واتباع السلف. والثاني: الانفلات، والتمرد على النقل، وتسييد العقل، بدعوى التجديد. فلا بد من ضبط المعادلة، بما يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد.






حين نتقدم إلى المسلمين خاصة، وإلى الناس كافة، بدعوتنا، لا بد أن نصوغ خطاباً يجمع عناصر القبول المختلفة، التي حواها الخطاب القرآني، النبوي، واستعمله المجددون الموفقون من سلف هذه الأمة. وإن من شأن هذا الخطاب، إذا اتضحت معالمه، واستبانت مقاصده، أن يثمر ثمرات عظيمة، من أهمها:






1- وحدة المسلمين، لاجتماع دعاتهم على كلمة سواء.






2- انتشار الإسلام، لكونه يرد الروح إلى الدعوة، ويخلصها من آفاتها المتراكمة، فتعود غضةً، طريةً، ذات ألق، ووهج، وجاذبية، كما كانت أول مرة.






ومن أبرز السمات التي يجب أن يتسم بها الخطاب السلفي المتجدد، ويتشربه الناطقون به، على اختلاف مواقعهم، وتخصصاتهم:














أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة






إن كثيراً من البلى، والآفات في الخطاب الدعوي ناشئة عن البعد فهم مراد الله ورسوله، والاحتفاء بأقوال الرجال، والوقوع في أسر التعصب، من حيث يشعر صاحبه، أو لا يشعر. وربما جرى ذلك لبعض من يعيب التقليد، ويذم التعصب، فيقع له شيء من ذلك في حق من يجله، ويعظمه، من المتبوعين الثقات، ويغفل عن كونهم غير معصومين. إننا بحاجة ماسة إلى صلة حميمة، وعلاقة لصيقة، وثقة مطلقة بالنص، والدليل، تجعلنا نستهدي به، ونقبس من ضوئه مباشرة، فلا تعشوا أبصارنا أقوال الرجال، وإن عظم مقدارهم، بجنب كلام الله، وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : 50]، وفي الحديث الإلهي: (يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ) رواه مسلم.






إن من ضرورات صياغة الخطاب السلفي المتجدد، أن يبنى على النص، والدليل، رسماً، ومعنى. فيستمد تصوراته، وأحكامه من هدي الوحي المعصوم، ويضمخ سياقاته، بالأدلة، حتى يتربى المخاطب على التأصيل، والتعبد لرب العالمين.






يلحظ المرء في كثير من المعالجات المعاصرة، طغيان الرأي، وغياب الدليل. وربما سُوِّدت صفحات كثيرة، لم تذكر فيها آية، أو حديث! وإن ذكرت فعلى سبيل التبرك، والديباج، لا على سبيل الاستدلال، والاحتجاج.






إن للنص سلطاناً، وتأثيراً، في القلوب، والمسامع، لا تبلغه فصاحة فصيح، ولا تنظير متكلم. فلا بد للخطاب السلفي المعاصر أن يأوي على ركن شديد، فذاك سر قوته، وغلبته، واكتساحه لكافة الطروحات الهزيلة.






فعلى الدعاة على الله، أن يعتصموا بالوحي المعصوم، ويبتعدوا عن جميع صور الاستزلال، والتأويل، والتجهيل، التي يمارسها دعاة العقلنة، والعصرنة، الذين ينزعون إلى (بشرنة) الدين، ونزع ميزة (الربانية) من خطابه، وهدايته.قال - صلى الله عليه وسلم-: (تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ) رواه مسلم، وفي بلاغات مالك، في الموطأ: (وسنة نبيه).














ثانياً: الوضوح






إن من أبرز أوصاف القرآن أنه (بيان) و (تبيان) و (مبين)، كما نطقت بذلك آيات كثر:






- كقوله تعالى : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 138]،






- وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : 89]،






- وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة : 15 ، 16].






وتأمل كيف يرتب الله الهدى في كل من هذه الآيات الثلاث على البيان!






إن ذلك يدل دلالةً جلية على أن الخطاب الدعوي، يجب أن يتسم بالوضوح، ويجتنب التلبيس، والإجمال، والإبهام. إن مقام الإيمان، والتوحيد العبادة، لا يحتمل باطنية الخطاب الصوفي، ولا غموض الخطاب الفلسفي. ولا تعقيد الخطاب الكلامي. لا بد أن يمتح الخطاب السلفي المعاصر من بيان القرآن، ويرتشف وضوح السنة. حين قرَّظ سعد زغلول، كتاب (وحي القلم) لمصطفى صادق الرافعي -رحمه الله - صاحب (الجملة القرآنية)، وصفه بأنه : (تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم).






وهكذا ينبغي أن تكون لغة الدعاة؛ فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا يستعيضون عن بيان القرآن، ووضوح السنة، بأنماط من الأساليب المولدة، الرمزية، الغامضة، يجارون بها بلديِّيهم، أو معاصريهم، معتقدين بذلك أنهم يمارسون (تجديداً) في الأداء، أو يحدثون القوم بما يعرفون، كلا! إنهم، في الحقيقة، ينخلعون من ثوب قشيب، ويلتفعون بمرط تنكري غريب. ولو ساغ ذلك في بعض أبواب الشعر، الأدب، لما ساغ في أبواب الاعتقاد، والعبادة، والعمل.














ثالثاً: العدل






العدل (قيمة) و (خلق) لأهل الإسلام. قيمة؛ من حيث هو، وخلق من حيث التطبيق؛ في القول، والعمل، والحكم.






قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 90]،






وقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : 152]،






وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة : 8]،






وقال: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : 58].






لا بد أن يتحلى الخطاب السلفي المعاصر بالعدل، والإنصاف، ويتحاشى جميع صور الحيف، والظلم. ومن العدل أن يعترف لأهل الفضل بفضلهم، ويثني بالخير على باذليه، دون أن يكون ذلك منافياً للشهادة لله، والقيام بالقسط، أو القيام لله، والشهادة بالقسط، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء : 135] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [المائدة : 8].






يجنح الخطاب السلفي، في كثيرٍ من بياناته، ونقده للمخالفين، بسبب حماسه للحق، إلى نوعٍ من الظلم، والإجحاف، وإهدار فضائل الآخرين. وليس ذلك من أصل المنهج، لكنه طارئ عليه من بعض مؤيديه الغاضبين له، في أجواء محمومة، وتحت ضغوطٍ، ومظالم أشد، من مخالفيهم. ولا ريب أن المنكر لا يقابل بمثله، ولا يصحح الخطأ بخطأ مماثل، وإنما يصحح الخطأ بالصواب، والرد إلى كلمة سواء.






وقد جرى في مطاوي التاريخ العقدي شيء من ذلك، ويجري الآن بين الجماعات المنتسبة إلى أهل السنة عموماً أكثر من ذلك، بل ويجري بين الجماعات المنتمية إلى السلفية أكثر من ذلك! وما ذاك إلا لغياب عنصر (العدل)، ودخول الهوى، والمواقف الشخصية في الميزان، أو مقابلة الخطأ بخطأ مثله، وقد قال نبي الله شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : 88]






ومن صور الظلم المنافي للعدل، الجاري على بعض ألسنة المتحدثين، أو الكاتبين:






1- بخس الناس حقوقهم: فيقول عن عالمٍ ما، إنه لم يأت بجديد! وربما كان من كبار المحدثين! أو عن طائفة ما: إنها أفسدت الدين! وربما كانوا من عظماء الفاتحين، أو عن جماعة ما: ما صنعت للإسلام شيئاً! وربما كانت من أبلغ الدعوات تأثيراً، وإنتاجاً، ولو مع شائبة. وكان يسعه أن يقول في هذا، وذاك، وتلك: فيه تفصيل.






2- التسوية بين المختلفات: بأن يحشد المخالفين في خندق واحد، ويصمهم بتهمة سواء! كأن يقول عن فرقة ما: إنهم أضر على الإسلام من اليهود، والنصارى، والمشركين! وربما انطبق على غلاتهم، دون مقتصديهم. أو يصم عالماً ما، ببدعة، دون نظر إلى تفاوت المقالات، أو التماس المعاذير، أو كون ذلك نزراً يسيراً، مغموراً في جنب فضائله. فالعدل قامت به السماوات والأرض.






لا بد للخطاب السلفي من التجرد للحق، وقول الحق، والحكم على الذوات، والأحداث، بالحق. ولا بد أن يكف بعض دعاة السلفية عن إهدار حقوق مخالفيهم، والضرب على فضائلهم، ومنجزاتهم. لا بد أن نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء أسأت. ولا يمنعنا ذلك أن نقول للمحسن: أحسنت في كذا، وأسأت في كذا، وللمسيء: أسأت في كذا، وأحسنت في كذا. فذلك أدعى أن يقبل منا. ولا ينقضي العجب ممن ينكر هذا المسلك العادل، وينسب السلف إلى غمط الحق، وازدراء الناس!






ومن تتبع أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وحكمه على كثير ممن حاد عن السنة المحضة؛ من أهل الأهواء، والبدع، على اختلاف مراتبهم؛ من أمراء، وعلماء، ومصنفين، وجد ميزاناً عادلاً، ونفساً مطمئناً، غير مشحون، ومع ذلك، فقد أبلى بلاءً حسناً في بيان السنة، ورد البدعة، دون أن يخرج به ذلك عن القسطاس المستقيم.






فما أحرى دعاة السلفية، في خطابهم المعاصر، الذي يتقدمون به إلى أهل ملتهم، وإلى الناس كافة، أن يستعملوا هذا الميزان، فإن الله جعله قريناً للقرآن، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : 17]، وبعث بذلك رسله، فقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : 25]






(وللحديث صلة إن شاء الله)











تعليقات

المشاركات الشائعة