الاوف والضماد للعلامة محب الدين الخطيب

أرجو ممن لايعرف العلامة/ محب الدين الخطيب أن يسمع هذين الشريطين


http://www.anasalafy.com/play.php?catsmktba=18843

وهذه مجموعة رسائل تثسمى بالأوْفُ والضِّماد

ومعنى الأوف:

وهي مجموعة تضم سبع رسائل وترتيبهم كالآتي:

1- منهج الثقافة الاسلامية.

2-إحياء سنن الإسلام وقواعده.

3- من إلهامات الهجرة.

4- أولياء الاسلام.

5- الجيل المثالي.

6-حملة رسالة الاسلام الأولون.

7- الاسلام دعوة الحق والخير.

وهذه المجموعة تهدف إلى إحياء روح الدين في الناس وخاصة الشباب وتوضه لهم علامات وإرشادات على طريقة النهضة والاصلاح الديني والدنيوي . ومن يريد المناقشة في مضمون هذه الرسائل معي فليتفضل هنا في التعليقات، فهذه المسائل من أوجب مايجب أن يتدارسه ويتناقش فيه المسلمين وطلاب العلم

ونبدأ الآن بأول رسالة من هذه المجموعة

منهج الثقافة الاسلامية

منهج الثقافة الإسلامية

للكاتب الإسلامي الكبير

محب الدين الخطيب
[ المقدمة ]
وضع الإسلام قيادته في أيدي علمائه ، واعتبرهم ورثة الأنبياء ، ففرض عليهم العمل بما يعلمون من أخلاق الإسلام و مبادئه و قواعده و أحكامه ، وليس في علماء الشريعة الإسلامية ولا في تلاميذهم من لا يحفظ هذا البيت :
وعالم بعلمه لم يعملن *** معذب من قبل عابد الوثن
لأن العلم الذي لا يُعمل به معتبر في الإسلام علم لا ينفع وكان رسول الله r يستعيذ من مثل هذا العلم كما يستعيذ من الشيطان ، فيقول : « أعوذ بالله من علم لا ينفع »[1] .لذلك يُحتم الإسلام على المدرس في فصله أن يكون أستاذ تربية كما هو أستاذ علم ، و أن يقوم على تقويم خلق تلاميذه وتهذيب نفوسهم وتعليمهم الشعائر الإسلامية و الآداب الإنسانية وهذا كله مما يدخل في باب العمل في العلم ، لأنه لا معنى للعلم بأن الصدق من شعب الإيمان الإسلامي ، و أن الكاذبين ملعونون في القرآن ، إذا لم يكن العمل بذلك مسايراً للعلم به في جميع خطوات الحياة .
ترى كيف يتصرف المدرسون في مدارسهم و الأساتذة في معاهدهم و كلياتهم لتحقيق الغاية من العلم و تعلمه و تعليمه كما يريده الإسلام من أبنائه المدرسين و الطلبة ؟
********
[ منهج المدرسة الإسلامية الأولى ]
المدرسة الإسلامية الأولى ـ التي لم يكن للمسلمين مدرسة قبلها ، ولم ينجحوا في جميع أدوار تاريخهم في تأسيس مدرسة تضارعها[2] في مهمة تكوين الرجولة ، وفي تهذيب النفس الإنسانية ، و توجيهها إلى الحق و الخير ـ هي هذه البقعة التي لا تزال موجودة إلى اليوم في المسجد النبوي بالمدينة ، بين منزل أم المؤمنين عائشة الذي تشرف بالقبر المحمدي الطاهر و بين موضع منبره صلى الله عليه وسلم في جنوب ذلك البيت .

و تلك البقعة التي كانت فيها المدرسة الإسلامية الأولى ، كانت في الوقت نفسه دار الحكم الأولى في الإسلام ، و مركز التعبئة الأول لكتائب الحق ، و أول ندوة أعد الله فيها دعاة المسلمين وقادتهم لإصلاح العالم بعناية عبده ورسوله صلوات الله عليه وسلامه و لقد كان من واجبات المشتغلين بالتاريخ من رجال الأمة الإسلامية البحث عن (النصوص السليمة ) التي أبقاها لنا التاريخ دالة على شيء من الأساليب و الطرق التي ربى بها الهادي الأعظم صلى الله عليه وسلم أصحابه الأولين ، وكوَّنَ منهم أمثلة الكمال في الرجولة ، وفضائل النفس ، و الاستعداد العجيب لممارسة الحكم العادل الرحيم .

و الذي عرفناه بتتبعنا لهذا الموضوع العظيم –الذي يتوقف بعثنا السعيد على معرفته و العمل به – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يهم[3] بحشد المعلومات الكثيرة في ذاكرة أصحابه ، و إنما يهتم بتلقيهم المبدأ الصحيح بعد المبدأ الصحيح ، و الحقيقة الناصعة بعد الحقيقة الناصعة ، و الفضيلة المصهورة بعد الفضيلة المصهورة ، و يطالبهم بأن يتخلقوا بكل خليقة من هذه الخلائق التي تمازج دمائهم و تخالط ينابيع الإيمان من قلوبهم ثم ينقلهم إلى غيرها .

و كان الكتاب الذي يستمد منه هذه المبادئ و الحقائق و الفضائل هو كتاب الله ، و ينهج ـ في تمرين أرواح أصحابه عليها ـ منهج التدريج عملاً بسنة الله في تنجيم النزول ، فلا تنزل الآية أو الآيات من وحي الله حتى يكون أولياء الله من أصحاب رسوله تخلقوا بالآيات التي نزلت قبلها و أصبحت سجية لهم لا يعرفون سجية لهم غيرها .

وقد التزم هذه الطريقة تلاميذه من كبار الصحابة في نقل العلم المحمدي و الرسالة الإسلامية إلى نفوس تلاميذهم من كبار التابعين .

نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الإكليل[4] عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي تلميذ أميري المؤمنين عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و أضرابهما من علماء الصحابة كعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت و أُبيّ بن كعب ، ثم كان شيخاً لشيوخ أئمة الإسلام كعاصم بن أبي النجود و عطاء بن السائب و أبي إسحاق السبيعي وعامر الشعبي و الحسن و الحسين ابني علي بن أبي طالب و عشرات غيرهم من عظماء السلف . يقول أبو عبد الرحمن السلمي فيما نقله ابن تيمية : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ـ عثمان بن عفان و عبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من ( العلم ) و ( العمل ) . قالوا ( أي الصحابة ) : فتعلمنا القرآن و العلم . و رأيت مثل هذا النص في ترجمة أبي عبد الرحمن من طبقات القراء لابن الجزري (413:1-الترجمة 1755) : روى حماد بن زيد وغيره عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال : أخذت القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهم ، فكنا ( نتعلم ) القرآن و ( العمل ) به و إنه سيرث القرآن بعدنا قوم لا يجاوز تراقيهم ، بل لا يجاوز ههنا ( ووضع يده على حلقومه ) .

و من عملهم بالقرآن أن لا يعصوا الله بتناول الأجر عليه .

قال عطاء بن السائب : كان رجل يقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي ، فأهدى له فرساً فردها وقال : ألا كان هذا قبل القراءة ؟

ولو أن أزهرنا ومعاهدنا ، ومدارسنا و ما بعدها من جامعات ، تعنى بتربية نفوس التلاميذ قبل عنايتهم بحشد المعلومات في ذاكرتهم ولا تملي عليهم إلا الحق و الخير ، ولا تجاوز شيئاً من هذا الحق و الخير إلا بعد أن يؤمن به تلاميذهم و يعاهدوا على العمل به و على إقامته في الأرض حتى يكون هو المعمول به ، وهو المرجوع إليه ، و هو المطلوب في التعامل و التنافس في كل الظروف و الأحوال ، لأنتج هذا المنهج في التعليم في هذا القرن الرابع عشر مثل النتيجة التي كانت له في القرن الأول الهجري .

********
[ مفهوم الإسلام ]
" الإسلام : تسليم النفس إلى الحق الذي جاء من عند الله بلسان جميع أنبيائه و رسله "
" و المسلم : هو الذي يوطن نفسه على أن تكون منقادة للحق الذي تولت رسالات الله الدعوة إليه و رفعت لواءه في الأجيال الإنسانية من أقدم عهودها "
[ بين العلم و الثقافة ]
العلم شيء ، و الثقافة شيء آخر ...
العلم عالمي ، لا تختص به أمة دون أمة ، و لا تحتكره قارة من قارات الأرض فيكون غيرها عالة عليها فيه . إنه مشاع كالهواء الذي نتنفسه ، و البحار التي تحيط باليابسة ، و تمخر[5] فيها ألوف السفن حاملة مئات الأعلام .
ثم إن العلم تراث إنساني ، ما من أمة إلا لها فيه جهاد و جهود ، وكل درجة ارتقاها العلم في أي عصر من عصوره على يد أمة من الأمم في بلد من بلاد الناس ، إنما كان ذلك بفضل درجة أخرى قبلها كان العلم قد وصل إليها في عصر آخر قبل ذلك العصر و على يد أمة أخرى من الأمم في بلد غير ذلك البلد الذي وصل العلم فيه إلى الدرجة التي تلي تلك الدرجة .
و لكن ما هو العلم ، وما هي الثقافة ، ولماذا كانت غيره كان هو غيرها ؟

العلم هو مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل البشري في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن ، و المحررة بالامتحانات المتكررة ، فلا تختلف بتفاوت الأذواق ، ولا تتغير بتغير المصالح .

إن جدول الضرب من المعارف الإنسانية العريقة في القدم وسيبقى حاجة من الحاجات الأولية لطالب علم الحساب في كل وطن وفي كل زمن . ولولا ما كان معروفاً قبل العرب و المسلمين من علم الحساب لما توصل العرب و المسلمون إلى إتحاف الإنسانية بالحقائق الأولية من قواعد علم الجبر و المقابلة ، ولولا علم الجبر و المقابلة الذي توصل علماؤنا إليه قبل مئات السنين لما تقدمت في العصور الأخيرة العلوم الرياضية الأخرى التي وصلت بها الأعمال الهندسية إلى ما وصلت إليها الآن من التقدم . فالعلوم الرياضية و الحقائق الهندسية من العلم العالمي المشاع بين البشر ، و الذي اشتركت عقول البشر في تقدمه و ارتقائه منذ العصور العريقة في القدم ،

ولا غضاضة[6] على أمة في أن تطلب العلم به حيث تجده . وكذلك الطب و علوم الطبيعة وكل ما تمس إليه حاجة الأمم في قوتها و أسباب عزتها و توفير حاجات أوطانها . و المسلمون على الخصوص يوجب عليهم دينهم أن يتعلموا ما تدعوا حاجتهم في مرافقهم إلى تعلمه من العلوم التي إن لم يحذقوها[7] تولاها عنهم الآغيار ، وكان جهلهم بها من أسباب ضعفهم القومي و الملِّي[8] .
هذا النوع من المعارف الإنسانية هو ( العلم ) و هو واحد في كل أمة ، وهو اليوم سبيل القوة في الحرب و السلم ، وهو الذي ينبغي للمسلمين أن يكون فيهم ـ دائماً ـ العدد الكافي من العالمين به ليتولوا مرافق بلادهم بأنفسهم ، و يحقق أسباب قوتهم الصناعية و الحربية و الاقتصادية بأيديهم ، و إذا لم يتحقق ذلك إلا بإرسال البعثات إلى البلاد التي تفوقت به فعليهم أن يوالوا إرسالها إلى أن يتوافر عندهم من أبنائهم رجال الكفاية لسد الحاجة على قدرها .

ولكن ، هذا ( العلم ) شيء ، و ( الثقافة ) شيء آخر .

الثقافة في كل أمة لها لون قومي خاص تستمده من مألوفها ، ومن ذوقها ، ومن مواريثها الأدبية ، و من ظروفها الجغرافية ، و من ضروراتها الإقليمية وحاجاتها الاجتماعية .

ولذلك نرى الثقافة الفرنسية تختلف عن الثقافة الألمانية ، بل نرى الثقافة البريطانية تختلف عن الثقافة الأمريكية ، مع اتحاد الأمتين في اللغة و الآداب و الصينيون يتفقون مع اليابانيين في الكثير من المقومات ، وكانوا بين الحربين العالميتين في حاجة إلى عضد قويّ يستعينون به لمقاومة الاستعمار المحيط بهم من كل جانب ، ومع ذلك فإن اختلاف الثقافتين أنشب الحرب بين الصين و اليابان سنين طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وفي خلالها . ولو لم تكن الثقافة من الفوارق الجوهرية بين الأمم لكان من المعقول أن تتعاون الصين و اليابان وتتحد وجهتهما وكانت تَكوّن منهما حينئذ قوة رهيبة لعلها تكتسح الأمم ، و ذلك ما كان ينذر به إمبراطور ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى ويسميه ( الخطر الأصفر ) .

تاريخ الأمة من عناصر ثقافتها ، آداب الأمة من صميم ثقافتها ، أخلاق في كل عصر من عصورها حلقة من سلسلة الأخلاق القومية التي هي من ميراث الماضي ، و قد يكون في ميراث الأمة من أخلاق ماضيها الكثير الخير و الكثير مما ينافيه ، فعليها أن تصلح لخيرها المتوارث ما ينافيه من الأخلاق التي تحتاج إلى إصلاح . فإذا حاولت الأمة أن تتنكر للطيب من تراثها الأخلاقي بتطعيمه بأخلاق أجنبية عنها أضاعت نفسها و فقدت أصالتها وصارت إلى هُجنَةٍ[9] تنافي الأصالة ويحتقرها الأصلاء من أصحاب تلك الأخلاق الأجنبية . و أذكر كلمة حكيمة لبسمارك كان قالها لغليوم الثاني لما كان لا يزال ولي عهد الإمبراطورية الألمانية حينما أرسلوه إلى روسيا ليمثل ألمانيا في مناسبة من المناسبات ، فقد قد قال له بسمارك : ( إنك ذاهب إلى بلاد شرقية ، فإذا رأيت الشرقي المتمسك بزيه الأصيل فاعلم أنه لا يزال على ميراث من فطرة الشرق و أصالته ، و إذا رأيت الشرقي الذي لبس البنطلون تقليداً للغرب فاعلم أنه فقد مواريثه من الفضائل ، ولم يكتسب أخلاق الغرب وفضائله ) .

إن القول الفصل بين العلم و الثقافة ، هو أن العلم عالمي ، و الثقافة قومية و ملِّية . و العلم لا لون له ، و الثقافة ذات لون .

وكَذِبٌ أن في الدنيا ثقافة عالمية ، ولا يمكن أن تكون فيها ثقافة عالمية . فعلى كل أمة أن تتمسك بثقافتها ، و أن تبعث فيها أسباب الحيوية بوصل ما بين ماضيها و آتيها ، خصوصاً نحن المسلمين الذين لا نكون مسلمين بارتياد الجامع فقط ، ولا بتصحيح العقيدة فقط ، بل إن إسلامنا يتناول البيت كما يتناول الجامع ، ويفرض سننه و أحكامه على المجتمع كما يفرضها على الفرد . و سنن الإسلام و أحكامه مصدر كريم من مصادر ثقافته ، فلا يكفي أن نعرف كيف نصلي ، بل يجب أن نعرف كيف نكون أفراداً مسلمين في مجتمع إسلامي و أن نعرف كيف نكون رعايا مسلمين لدولة إسلامية .

و بعد فإن الإسلام ـ وهو الدين الإجماعي ـ ثقافة واسعة شاملة في هذه الأمور و في كل الأمور . ولولا أن دانلوب حَرَمَ المتعلمين في مصر من أن يتعرفوا إلى ثقافتهم الإسلامية ، فجَرَّدَ مدارس الدولة منها ، لكان الجيل القائم الآن خيراً منه الآن ، ولقطعنا شوطاً طويلاً في طريقنا إلى القوة و إلى العزة و إلى السعادة و السلامة و العافية .

الأمل عظيم في وزارة التربية و التعليم ـ بعد أن جعلت التربية العنصر الأول من عناصر رسالتها ـ أن تلتمس كل الأسباب للتعرف إلى التربية الإسلامية و تعريف الجيل بها لأن التربية من أهم عناصر الثقافة ، وما دمنا في بلد إسلامي عربي فيجب أن تكون ثقافتنا إسلامية عربية ، وتربية أبنائنا تربية إسلامية عربية ، وهذا لا ينافي إرسال البعثات إلى أوروبا و إلى أمريكا لتخريج مهندسين في الطبقة الأولى و كيماويين و أطباء في الذروة العليا ، و علماء معادن و جيولوجيا من الطراز الأول لأن هذه المعارف من العلم العالمي الذي لا لون له و نحن في حاجة إليها في مرافقنا و تعدين معادننا ، و استنباط البترول من تربتنا ، و إصلاح زراعتنا و توسيعها ، و تجهيزها بوسائل الريّ و الصرف ، و إقامة المصانع لكل ما نحتاج في حربنا وسلمنا . هذا العلم يجب أن نأخذه حيث وجدناه [

أما المعارف التي لها لون قومي ، لأقوام غير أقوامنا ، ولها لون وطني لأوطان غير أوطاننا ، ولها لون مليٌّ لملل غير ملتنا ، فذلك ما يسمى ثقافة . ونحن في غنىً عنه بثقافتنا التي يجب أن نستمدها من مألوفنا ، ومن ذوقنا ، ومن مواريثنا الأدبية ، و ظروفنا الجغرافية ، و ضروراتنا الإقليمية ، و حاجاتنا الاجتماعية . و لهذه الثقافة مُثل في تاريخنا و تراجم أسلافنا ، فيجب أن نعرفها بمعرفتهم ، و أن ندرسها بدراسة تراجمهم ، و أن نحييها بالتخلق بأخلاق أهلها و اتخاذهم قدوة لنا و أسوة .

نحن في مرحلة انتقال ، ومن النصح للأمة أن نتعاون على معرفة الطريق الذي نسلكه إلى مرحلتنا الجديدة . وعندي أنه الطريق الذي يجمع بين تعلم كل ما عند غيرنا من العلوم العالمية التي لا لون لها ، و الاحتفاظ بكل ما يحفظ علينا إسلامنا و عروبتنا و مصريتنا من الثقافة التي نحن أغنى أمم الأرض بها ، ما علينا إلا أن نستأنف دراستها و إحياءها و العمل بها ، و يومئذ تكون العزة لله و لرسوله و للمؤمني .
********
هامش : ............................................

[1]رواه مسلم في صحيحه برقم [ 6844 ]

[2] تشابهها .

[3] يهتم ويعنى

[4]صفحة 50 طبعة المطبعة السلفية 1394 ، [ ب ]

[5] تمخر السفينة : تجري السفينة تشق الماء .

[6] الغضاضة : العيب و المنقصة .

[7] الحاذق : الماهر في الشيء .

[8] مشتقة من المِلّة .

[9] المعيب المرذول .
انتظر البقية
-----------------
البقية
[ يا شباب الجيل ]
إن من حق جيلكم على جيلنا أن يختصر لكم الوقت ، ويطوي لكم من مسافات الطريق ما يسهل لكم بلوغ غاياته ، فيؤدوا رسالة الجيل وافية ناجزة .

لقد كانت ( رسالة الجيل ) الذي قبلكم منحصرة في مقاومة الاستعمار ، فكانت مهمة سلبية تدور حول معنى الهدم . و أنتم واقفون الآن على مفترق الطرق تتساءلون عن رسالة جيلكم ، و هل هي رسالة مقاومة وهدم كما كان الجيل الذي تقدمكم ؟ و إن كانت رسالة بناء فماذا نبني ، و كيف نبني ، و لماذا نبني ؟ وهذا ما رأيت من حقكم على جيلنا أن أتحدث به إليكم .

نعم كانت رسالة جيلنا سلبية تدور حول معنى الهدم . و أما رسالة جيلكم فإنها ( إيجابية ) تتمثل فيها جميع معاني الإنشاء و البناء و التشييد . وستجدون على مفترق الطرق مُعلمين كَذَبَةَ ودعاة هدامين يسولون لكم الاستمرار في الهدم و يشيرون إلى ما أبقى لكم الدهر من تراث السلف ليوسوس لكم الشيطان هدمه وسيشير عليكم آخرون منهم بالبناء و لكن على أسس غير أسسكم ، وبأذواق غير أذواقكم ، و لأغراض غير أغراضكم .

إن مهمة الهدم انقضت بانقضاء زمن الاستعمار ، وجاء زمان البناء ، ولكن على شرط أن :

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا

نحن أمة امتازت على غيرها من الأمم بأن آخرها متصل بأولها ، وأن تراث ماضيها من ثروة حاضرها ، و أن أهداف مستقبلها مرسوم في سنن أسلافها ، و أنها كلٌّ يقوى جديدُه بقديمه و يحيى قديمه بجديده ، و يمتص قديمه و جديده من ينابيع قوة الحق و الخير بأي أشكالهما ظهرا ، ومن أية جهة هبت ريحهما .

فالبناء الجديد الذي من ( رسالة الجيل الجديد ) أن يقوم به ، يدور حول مهمتين اثنتين :

أما أولاهما : فبعث تراثنا القومي من تاريخ ، و أخلاق ، وعلوم ، وسنن ، و وصايا ، وتعيين أهداف ، إلى أن نعرف كياننا القومي كما كان في الماضي وكما يجب أن يكون في المستقبل فنخطط بناءنا على أساسه . وهذا عمل يجب أن يتفرغ له من يعرف قدره ، ويبتهج بالتعب في سبيله ، و يعتبر ما يكتشفه من حقائقه أثمن من الكنوز . و إنه إذا انبرى له طائفة من الشباب المؤمن بعروبته ، المعتز بإسلامه ، الحريص على بعث سجايا قوميته ، فسيجد في تراث العروبة و الإسلام حيوية تتكفل ببعث هذه الأمة ، و تتكفل بعد ذلك ببعث الإنسانية كلها على ضوء هدايتها .

إن هذه النظم الأجنبية التي ألزمنا الاستعمار العمل بها في عشرات السنين الأخيرة ، خليط من مبادئ و أحكام و اتجاهات اقتُبس أقلها من المعاني الأزلية العامة كالعدل و الحق و الخير ، و وضع أكثرها بتأثير القوى التي تَطَوَّرَ الاستعمار تحت سلطانها ، كالرأسمالية ، وشهوة تحكم الأقوى بالأضعف ، و الديكتاتورية ، أو تملق أهواء الجماهير . وعلى كل حال فإنها أجنبية عنا ، وفي الاستمرار على العمل بها ـ بالشكل الذي أراده الاستعمار لنا ـ إساءة إلى الوعي القومي ، و الإيمان المليّ ، و عزة النفس الوطنية ، لأنها توحي إلى نفوس أجيالنا أننا عالة عليها وعلى أهلها ، ونحن نرى كيف أن المثقفين من شبابنا ورجالنا ـ بعد أن ألزموا بدراستها ـ غلب عليهم الإيمان بمحاسنها ـ و الاقتناع بأنها المثل الأعلى للكمال ، و أنها أحدث ما توصلت إليه مدارك البشر و عقولهم ، في حين أن تراثنا الثقافي و التشريعي مليء بالقواعد و المبادئ و السنن التي لا ترجع إلا إلى الأزلية السامية من العدل و الحق و الخير و إيثار الأصلح .

فإذا تفرغ محبو التخصص من شبابنا لدراسة هذه الكنوز و استخراج لآلئها و معادنها ، كان لنا من ذلك نظام مبتكر يتصل به آخرنا بأولنا ويرتدد به إلى قوميتنا لونها الأول الذي نعرف به أنفسنا ونشمخ به على الدنيا بأنوفنا .

هذه أولى المهمتين لشباب الجيل ، و أنت ترى أنها مهمة علمية قومية يوشك ـ إذا قمنا بحفظها ـ أن يتخرج تحت تجاربها ومحاولاتها فطاحل العلماء المصلحين ، ومصابيح الإنسانية من الحكماء و الهداة الخالدين .

أما المهمة الثانية : فهي مطاردة آثار الاستعمار في نفوس أبناء الجيل ، وفي مرافقهم ، وفي بيوتهم ، وفي عاداتهم و أنظمتهم ، ومعالجة الخلاص منها . ثم مطاردة معاني الضعف التي طرأت على مفهوم الدين في عقول العامة و أشباه العامة ، مما لم يكن للصحابة و التابعين علم به ، وكانت قوتهم و عزتهم و استفحال ملكهم من نتائج فهمهم السليم للإسلام على أنه دين القوة و الاستقامة و العبودية لله وحده دون جميع خلقه ، و أنه دين الحق و الخير ، و التعاون على إقامتهما وتعميم سلطانهما و الإكثار من أهلهما ، حتى يبسط الله ظلهما على جميع الأرض .

إن هذه المهمة الثانية متممة للمهمة الأولى ، و أهل هذه الفئة هم دعاة الإصلاح الذين يبدأون بأنفسهم ثم بآلهم و أصدقائهم و ذويهم . متوخين الاستعانة بمعارف الفئة الأولى من العاملين على بعث تراثنا القومي لإحلال أنظمتنا الأصيلة محلَّ الأنظمة الاستعمارية و السنن الملّية و القومية الخاصة بنا محل السنن الأجنبية عنا ، و العادات اللائقة بنا محل العادات الطارئة علينا والمزرية بنا .

و أنت ترى أن المهمتين ترتبط إحداهما بالأخرى ، و تتعاون معها ، إلى أن نبعث أخلاق العروبة الأولى في نفوس الجيل العربي الجديد فيكون ـ لرجولته ونبله وصلابته في الحق ـ كأنه حلقة فولاذية من حلقات أصله الأصيل ، وبذلك نبعث سنن الإسلام الصحيحة السليمة في مجتمعنا الإسلامي المعاصر فنكون بأعمالنا ونزعاتنا وتصرفاتنا كأننا معاصرون للهادي الأعظم صلوات الله عليه ولأصحابه الغر الميامين .

فإذا تمكن أبناء الجيل المثقفون من بناء جيلهم على هذا الأساس وبعثوا فيه تراث سلفه من تاريخ و أخلاق و علوم وسنن و وصايا و أهداف ، وتحلى ذلك كله بأحدث ما توصلت إليه مدارك البشر من أنظمة و صناعات و وسائل و أدوات ، كنا بسجايا قوميتنا وفضائل ديننا و صناعات عصرنا و أنظمته : خير أمة أخرجت للناس ، و أشرقت بذلك محاسن ديننا في آفاق الأرض فأبصرت الأمم جماله ، و رأت في نهضتنا آثار هدايته ، وبذلك تتم البعثة المحمدية إلى الخلق أجمعين .

يا شباب الجيل

إن ما أنتم عليه الآن لن تنالوا به السيادة القومية و إذا عصفت الرياح بظروفٍ أنالتْكُم السيادة فإنها لن تبقى لكم ما دامت آثار الاستعمار الفكري و الاجتماعي مالئة قلوبكم ، وشائعة في نفوسكم . و إن سيادتكم متوقفة على أن تعودوا إلى أنظمة الإسلام المعطلة و المنسية فتبعثوها من بطون الكتب المدفونة فيها ، وتعرضوها على قلوبكم وعلى إخوانكم وعلى أبناء جيلكم عرضاً رقيقاً جميلاً . و خير ما تعرضونها به العمل بها قبل التشدُّق بمحاسنها بالخطابة و الكتابة ، و إن كان لابُدَّ فابدؤوا بالعمل و أتبعوه بالقول ، إلى أن تتحول الأمة عن أنظمة الأجانب و ألوانهم لأنظمة العروبة و الإسلام و ألوانهما ، ويومئذ يفرح المؤمنون ويستشعرون الدفء و الأنس بإيمانهم .
********
[ الأساس الذي نقيم عليه نهضتنا ]

الأمم العربية و العالم الإسلامي على أبواب نهضة وبعث جديد لا شك فيهما . وفي كل يوم التقي شباباً من شبابنا المثقف يسألني الواحد منهم أول ما يسأل :

ـ ماذا يجب أن نعمل ، بماذا يجب أن أبدأ ، ما هو الطريق التي تشير عليَّ بأن أجعله طريقي في الحياة ؟

كلهم متوثِّبون ، وكلهم يريدون أن يعملوا . ولكنهم يريدون أن يجدوا من يدلهم على طريق العمل ، وعلى نوع العمل .

وجوابي دائماً لأمثال هؤلاء الشبان الأطهار : إن العمل كثير ، و المهمة التي تواجه هذا الجيل ، وكان يجب عليهم أن يضطَلَع[1] بها كاملة وافية ، أعظم من أن يكفي لها عددنا لو أننا تفرَّغنا كلنا لها . لأن من ورائنا تراث أربعة عشر قرناً في الإسلام يجب علينا دراسته وتحليله ومعرفة جميع عناصر الخير و الشر التي فيه ، وسيرة الذين عملوا فيه لأخذ المسلمين إلى طريق الإسلام ، و الآخرين الذين عملوا لتحويل المسلمين عن أهداف الإسلام باسم الإسلام . و أولئك من الكثرة إلى درجة أن الذين نسمع بأسمائهم ونعرف شيئاً عنهم لا يبلغون جزءاً من مليون جزء من رجال العلم و الأخلاق و الفضائل و الجهاد في سبيل الحق و الخير . و الآخرون الذين أفسدوا في الإسلام باسم الإسلام قد أنسى الله المسلمين العدد الأعظم من أسمائهم فماتوا و ماتت أسماؤهم معهم ، لأن أكثرهم كان يعمل في الخفاء ، وأهل الظهور من منافقيهم تركوا وراءهم ما سيفضحهم إن شاء الله يوم نجرُد التركة ، ونحلل التراث و نميز بين ما فيه من خير و حق و ما فيه من شر وباطل . إلا أن أهل الشهرة من دعاة البدع ـ وإن كانوا قد بادوا وبادت أسماء أكثرهم ـ لا يزال كثير من بدعهم مشوباً به كثير من فضائلنا و تقاليدنا ومحفوظاتنا .

هذا بعض تراث الإسلام فينا من أربعة عشر قرناً ، و إن لنا وراءه تراثاً آخر للعروبة يتوغل أكثر من أربعين قرناً في أحشاء الماضي ، ـ ومنه هذه اللغة العجيبة الثرية ، الدقيقة ، الجميلة ، الوارفة الظلال ، الأبدية الحياة . هذه اللغة وما تدل عليه من خطرات نفس ، ومدارك عقل ، وعواطف قلب ، وتسلسل وتناسل وتكاثر في المعاني وفي مشتقات الألفاظ الدالة على هذه المعاني – كل ذلك يحتاج منا إلى دراسات لا آخر لها .

للجهاد بالسلاح أهله الذين وجههم الله إليه ، ويَّسره لهم .

و للجهاد بالدعوة أهله الذين وجههم الله إليه ويسره لهم .

وللجهاد الاقتصادي أهله كذلك .

وما من عمل ظاهر ويتصل بمعايش المثقفين إلا وله من أبنائنا المثقفين كتائب مجندة للاضطلاع به .

أما تراث الإسلام ، و تحليل ما تلقيناه عنه من عناصر إسلامية سليمة ، ومن عناصر أجنبية طارئة عليه فتولدت منها البدع ، و تفرَّعت عنها المذاهب الشاذة و الطوائف المنابذة للأهداف الإسلامية الأولى ، فهذا قلما وجد في شبابنا من تفرَّغ لدراسته ، ومعرفة مصادر هذه الدراسة ، وكيفية التمييز بين الحقائق و أضدادها ، و الميزان الذي توزن به الفضائل و أهلها .

إن المستشرقين الذين حاولوا هذا بتأليفهم ( دائرة المعارف الإسلامية ) ، وهو مجهود علمي عظيم تضافروا عليه جميعاً وساهم فيه كل واحد منهم من الجهة التي له فيها يد ، وسبق له في موضوعها دراسة وتخصص ، إلا أن للمستشرقين وجهة نظر إلى التراث الإسلامي غير الوجهة التي يتجه إليها نظر المسلمين أنفسهم لو درسوا هذا التراث الإسلامي كدراسة المستشرقين له .

و إن مثل هذا الجهد العظيم الذي بذله المستشرقون في دائرة المعارف الإسلامية – وهو جهد جهيد وعظيم حقاً – لو بذل المسلمون أنفسهم مثله لجاء منه عمل آخر غير هذا العمل ، لأنهم يدركون من هذه الدراسة ما لا يدركه المستشرقون ، ويشعرون بعداوة الأعداء للإسلام في ماضي المسلمين وبإخلاص المخلصين منهم له ما لا يشعر به المستشرقون . و في الحق أننا أمة تحتاج في هذا الجيب إلى أن تعرف ما تخلف في الإسلام من عداوة أعدائه وصدق أصدقائه .

ولكن دراسة كدراسة المستشرقين لهذا التراث تحتاج إلى جهود لا نرى في الذين يسألون من شبابنا ( ماذا نفعل ؟ ) من يأنس في نفسه الرضا ببذلها ، وإذا أَنِسَ[2] من نفسه ذلك لا يجد من ثقافته التي قدمتها له الدولة في مدارسها ما يؤهله لذلك ما لم يكن عنده استعداد شخصي يتغلب على هذه الصعوبة . ومن العجيب أن يستسهل المستشرق الأجنبي عن الإسلام ما يستصعبه الشاب المسلم الناشئ في مدارس دول تنتسب إلى الإسلام .

العمل واسع ، وكثير النواحي ، وهو دراسة وتحليل و تنظيم لمجهود أربعة عشر قرناً في الإسلام ، و أربعين قرناً في تراث العروبة قبله . ولابد لبعث هذا التراث و تنظيمه من أن يتخصص في المثقفين منا مئات في مختلف نواحي التراث الإسلامي و الماضي العربي . ليصير فينا نوابغ في هذه النواحي كالنوابغ من المستشرقين الذي نرى أسماءهم في ذيل المواد الدقيقة التي تتألف منها أجزاء دائرة المعارف الإسلامية .

وبعث هذا التراث و تدوينه على هذا الوجه هو ( الأساس ) الذي تقوم عليه ( النهضة ) ، و الذي نستطيع أن نبني عليه ثقافتنا المستقبلة .

أما طريقة حمل الأقلام الآن ممن ( يسرقون ) جهود المستشرقين ، ويعرضونها علينا بعجرها وبجرها[3] ، وبدسائس أصحابها فيها ، ثم يزعمون أنها من ( تأليفهم ) ، فإن نظرة واحدة فيها تدل على أنهم لم تقع أنظارهم على المراجع العربية التي أخذ عنها المستشرقون ولا يعرفون عنها شيئاً ، وما دمنا على هذه الحالة ، تبعاً لأسلوب التعليم الذي يتخرج به النشء ، فسنبقى غرباء عن العلم ، وعالة على الأجانب فيه ، وضحايا لأغراضهم التي يروجونها علينا بأساليب تخفى على أشباه العلماء ، و تتقطع لها قلوب العارفين .

ترى متى نضع (الأساس ) لنهضتنا وثقافتنا ببعث تراثنا و تحليله و تنظيمه .

********
.....................................



[1 اضطَلَع للأمر وعليه : قَوِيَ عليه ، ونَهَضَ به .

[2 عَلِمَ

3 العجر : تعقد العصب و العروق في الجسد حتى ترى ناتئة ، و البجر مثله ، وهو من أمثال العرب المستعملة في المعايب .
---------
أخر فصل


[ المعالم ]


المسلم في المجتمع الإنساني أشبه بابن السبيل الهائم على وجهه في بيداء الحياة . وبيداء الحياة ـ التي يهيم فيها المسلم على وجهه منذ ولد إلى أن يلقى الله راضياً عنه أو ساخطاً عليه ـ هي هذا المجتمع الإنساني المختلف الأهواء ، المتضارب العقائد ، المتباين المقاصد و المشارب و الأخلاق و السجايا .

و المسلم ليس مسلماً بشهادة الميلاد ، فهذه أخس الشهادات للمسلم على إسلامه . ولا هو مسلم بما يقوم به من الفرائض المكتوبة عليه وحسب ، فهذا شطر من إسلامه الذي لا يستكمله إلا باستيفاء سائر وجوه الإسلام و نواحيه . لأن الإسلام أوسع الديانات دائرة و أعمها غرضاً ، و أدقها أنظمة ، و أبعدها هدفاً .

وهو أعظم رسالات الله ، وأشملها للمعاني الإنسانية العليا التي حامت حولها أحلام حكماء الأرض ، وعليها تتوقف السعادة بأكمل ما ترتجى .

ومن الأغراض التي جاء بها الإسلام ، بل من الشروط التي يتوقف عليها تحقيق أغراضه ، أن يُجعل من المسلمين في بيداء الحياة قافلة ممتازة بسجايا و مبادئ و صفات ومظاهر و أنظمه خاصة بهم ، وبها يتحقق اتساع دائرته و شمول غرضه و الوصول إلى أهدافه . و تفقد هذه القافلة الممتازة صفة امتيازها إذا هي انساقت في قافلة الملل الأخرى ، ولو فيما تظن أنه لا يمس العقيدة أو ينقص من العبادة ، لأن أهل هذه القافلة أراد لهم إسلامهم ألا ينطبعوا إلا بطابعه ، وألا يصطبغوا إلا بصبغته ، وإلا يسايروا في بيداء الحياة إلا المنتظمين في نظامهم ، المنخرطين في سلكهم ، المتخلقين بأخلاقهم وسجاياهم . وليس ذلك أنانية منهم ، أو أثرة من نظامهم ، بل لأن الأسس التي قام عليها نظامهم ، و الأغراض التي يهدف إليها هي التي تتم بها السعادة للإنسانية .

و الإسلام كل لا يتجزأ . ففضائله بغير عقائده ناقصة ، و عبادته مجردة من فضائله تلعن صاحبها ، و عقائده مجردة من أنظمته تعيش مريضة حتى تقام أنظمته فتحيا بها عقائده .

ولذلك كان الإيمان الإسلامي بضعاً وسبعين شعبة ، وكل ما جاء الأمر به في كتاب الله وسنة الهادي الأعظم صلى الله عليه وسلم فهو من شعب الإيمان ، وما يتعلق منه بفضائل الأخلاق و حسن التعامل مع الناس أكبر أجزائه و أكثر شعبه . وكل ما جاء النهي عنه في كتاب الله وهداية المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم فالانتهاء عنه من شعب الإيمان ، وما يتعلق منه بالتنزه عن شوائن[1] الأخلاق و التعفف عن معاملة الناس بالباطل و الشر من أكبر تلك الشُّعب .

هذه الأوامر الإسلامية في كتاب الله وسنة رسوله تناولت كل حق عرفه البشر ، و كل خير خطر على بال حكمائهم و أذكيائهم و قادة الفكر منهم . وهذه النواهي الإسلامية في كتاب الله وسنة رسوله أحاطت بجميع معاني الباطل و بكل ما يهدف إليه الشر وأهله . لذلك كانت أوامر الإسلام ونواهيه مناط السعادة ، لأنها جِماع الحق والخير ، و وقاية الله من الباطل و الشر ، و إن ديناً جعل مجموع هذا من شُعَب الإيمان به لجدير بما وصفنا من أنه هو الإنسانية العليا التي أوحت بها السماء إلى أهل الأرض .

وقد نبغ من عظماء دعاة هذه الهداية الخلفاء الراشدون ، و الصحابة العدول الهادون المهتدون ، و التابعون لهم بإحسان ، وحملة هذه الأمانات من الأئمة و العلماء و الصالحين . و في سيرة هؤلاء تطبيق عملي لهذه الهداية ، وفي أقوالهم المأثورة تفسير لما ورد منها مجملاً في كتاب الله و سنة رسوله . ومجموع ذلك تتألق منه في بيداء الحياة معالم للمسلمين تستدل بها قوافل أجيالهم على الوجهة التي وجهها الإسلام إليها .

و المسلمون ذلوا وضعفوا ، و أخطأهم النصر و التوفيق ، و أبطأ عليهم الارتقاء و التقدم و التميز على أمم الأرض ، منذ تجاهلوا معالمهم ، و سايروا أهل الحضارات و الملل و الأهواء في طرقهم و أنظمتهم و تقاليدهم ومظاهرهم و أذواقهم و أساليب تفكيرهم . وسيستشعرون العزة و القوة ، و ينالون الفوز و الظفر ، ويقودون حركة التقدم في الأرض ، يوم يعرفون معالمهم فتسترشد بها قوافلهم في بيداء الحياة .

أيها المسلمون ، إن لكم معالم ، فانتهوا إلى معالمكم ...

............................

[1] المعايب و المقابح .

انتهت الرسالة الأولى
والحمد له رب العالمين


تعليقات

المشاركات الشائعة