تجديد الخطاب السلفي بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم

حديث الأسبوع
تجديد الخطاب السلفي[1]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد :


فليس ثمَّ شك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وأن طريقة أهل السنة والجماعة؛ في الاعتقاد، والعمل، والسلوك، والأخلاق، هي الطريقة المثلى، المطابقة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأن اتِّباع آثار السابقين الأولين من الصحابة، والتابعين، والسلف الصالحين، هو المنهج الرشيد، والمسلك السديد، الموصل إلى النصر، والتمكين، في الدنيا، والنجاة، والفلاح، في الآخرة. قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور : 55]






ويمثل المنهج السلفي، منهج النقاء العقدي، والعملي، للمنتسبين إلى الإسلام. ولا ريب أن الانتساب إلى الإسلام، والتسمي به كافٍ في وصف العبودية التي لأجلها خلق الله الإنس والجن، كما قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : 78]، ولكن الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أُمَّتُهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ . وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي" ، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ، الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) [الواسطية].






والخصائص الجامعة لأهل السنة والجماعة، واضحة، بيِّنة، والعلامات الفارقة للسلفيين عن غيرهم من الفرق المنحرفة، ظاهرة، شهيرة. وأبرزها أصلان عظيمان :






1- التوحيد الخالص لله رب العالمين، بأنواعه الثلاثة؛ الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.






2- الاتباع الصحيح لسنة خاتم النبيين، والعناية بها رواية، ودراية، ولذلك سموا: (أهل الحديث) و (أهل الأثر) . فمن التزم بهذين الأصلين، وبرئ من طرائق المبتدعة؛ من خوارج، وقدرية، ومرجئة، وجهمية، ومعتزلة، وصوفية، وضم إلى ذلك صالح الأعمال، ومكارم الأخلاق، استحق وصف (السلفية).






والملتزمون بهذين الأصلين العظيمين، وتوابعهما، جمع كثير في الأمة، أوسع مما قد يتوهمه بعض الناس لمفهوم السلفية، على تفاوت في الأخذ بهما، كما هي سنة الله في عباده المصطفين : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير)ُ [فاطر : 32]






وقد جرى في مطلع هذا القرن الخامس عشر الهجري، انتعاش، وإحياء، للمنهج السلفي، بعد عقود من الوهن، والضمور، وبلغ مواطن من العالم الإسلامي لم يبلغها من قبل، واكتسح معاقل عريقة للبدعة، والخرافة، والكلام المذموم. وحصل تنويرٌ غير مسبوق، في الأوساط العلمية، والشعبية، وتمحورٌ حول المرجعيات السلفية المعتبرة، وتراجعٌ للمرجعيات البدعية، والطرقية، والكلامية.






ولكن ! سرعان ما دبَّ في الأوساط السلفية الواعدة، داء الأمم قبلهم؛ من الاختلاف، والنزاع، والانقسامات المتلاحقة، أفسد سرائر العاملين، وأطفأ أَلَق النقاء، وكدَّر الصفاء، الذي كانت الأمة ترمقه، وتعلق عليه آمالها.






فلا تكاد تحل بلداً من بلدان المسلمين، اليوم، بل ولا تجمعاً من تجمعات أقلياتهم في الخارج، حتى تجد تحزباً، وانقساماً، وفرقةً، بين المنتسبين للسلفية، بصورة أشد عنفاً، ومقتاً، وتشظياً، من الطرائق الأخرى. ولا حول ولا قوة إلا بالله.






وربما تساءل بعض المراقبين: هل طبيعة المنهج تستدعي ذلك ؟ هل الولع العلمي يستلزم هذه الانشطارات ؟ هل عقيدة الولاء، والبراء، ونبذ الابتداع يفرض هذه الممارسات ؟ والجواب : قطعاً لا ! وحاشا، وكلا ! فمقاصد الشريعة، كما سلف، تدعو، وتؤسس، وتربي، على الوحدة والائتلاف، وتنبذ الفرقة والاختلاف.






إذاً ! من أين أُتينا ؟ لا شك أن ثمة (حزمة) من الأسباب المشاركة في تشكيل هذه الوضعية الشاذة، من أهمها :






1- قصور العلم، وترؤس أنصاف الفقهاء.






2- قصور العقل، وتصدُّر حدثاء الأسنان.






3- حظوظ النفس، وتنامي الأثرة، والحسد.






4- الظلم والبغي، وحصول العدوان.






والواقع القريب، يشهد بوجود قيادات سلفية، تقية، نقية، عاقلة، واعية، أدارت دفة






الدعوة السلفية بمهارة، واعتدال، وتحاشت كثيراً من مزالق الفتن، ومسائل الشغب.






ولا أرى من المفيد، الخوض في التجارب السلبية، وتوسيع رقعة السواد، بالقيل والقال، والتلاوم، فضلاً عن التنابز، وتسقط الزلات. بل ثم حاجة ماسة إلى أن يتداعى السلفيون، على وجه البسيطة، إلى كلمة سواء، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يجتمعوا على المحكمات، ويدعوا المتشابهات، وأن يطرحوا الفرقة، وينبذوا الخلاف، ويتسامحوا، ويتغافروا، ويعفوا، ويصفحوا، ويضعوا نصب أعينهم قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى : 13]






لا بد من تجديد الخطاب السلفي، الذي يحافظ على أصالة المنهج، ويواجه المستجدات، ويتخلص من الآفات. وهذا التجديد، ضرورة ملحة، وإلا بقينا نتردى في مهاوي الخلافات، ونجتر مسائل، وأغلوطات، أفرزتها حالة معينة، أو نتجت عن خطأ بشري، لا يجوز أن تبقى الأجيال مرتهنة لها، أو ممتحنة به، فقد خلقنا الله أحراراً، لا نعبد سواه، ولا نتبع غير نبيه ومصطفاه. وفي الحلقات القادمة جملة من المعالم الضرورية لتجديد الخطاب السلفي. والله المستعان، والهادي إلى سواء السبيل.






http://www.al-aqidah.com/?aid=show&uid=xlqx86bu[

تعليقات

المشاركات الشائعة