الليبراليون السعوديون

بقلم ستيفان لاكروا

تاريخ النشر: الخميس 09 سبتمبر 2010 تم التحديث: الجمعة 10 سبتمبر 2010
ما زال الليبراليون السعوديون، وهم يمثلون إحدى الفئتين المتنافستين في المجتمع السعودي، مجموعة لم تنل حقها من الدراسة. إن مصطلح "ليبرالي" حديث نسبيا على اللغة السعودية، على الرغم من أنه كان هناك ظهور مبكر للنشاط الحداثي في المملكة العربية السعودية. لقد ولدت الحركة الليبرالية في معارضة لحركة الصحوة، وعلى مدار أعوام، لم يكن لديها مشروع واضح. وفي بداية الألفية، حدث انقسام بين من يمكن أن نطلق عليهم "الليبراليين الاجتماعيين" و"الليبراليين السياسيين". واليوم، على الرغم من ادعائهم بأنهم يتحدثون نيابة عن "الأغلبية الصامتة"، يستمر هؤلاء النشطاء في تمثيل مجموعة من النخبة ليست لها جذور قوية داخل المجتمع.


غالبا ما يوصف المجتمع السعودي المعاصر بأنه تحت تأثير فئتين متنافستين؛ الإسلاميين والليبراليين. ولكن، في الوقت الذي خضعت فيه المجموعة الأولى لكثير من الدراسات، تظل المجموعة الثانية - في تناقض- أكثر غموضا فيما يتعلق بمن هم أصحاب تلك الأصوات "الليبرالية" السعودية، وما هي خلفياتهم، وماذا يريدون؟


إن مصطلح "ليبرالي" حديث نسبيا على اللغة الاجتماعية السعودية. وبكل المقاييس، لم يستخدم ذلك المصطلح على نطاق واسع قبل التسعينات. ولكن لا يعني ذلك أنه لم يكن هناك نشاط حداثي في السعودية قبل تلك الفترة. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، عاد بعض الطلاب السعوديين الذين سافروا إلى مصر أو لبنان أو العراق من أجل الدراسة إلى المملكة متأثرين بالآيديولوجيات اليسارية والقومية العربية التي كانت منتشرة في المنطقة بدرجة كبيرة. وبشكل غير مباشر استضافت مؤسسات تعليمية وصناعية -مثل "أرامكو"- عدداً كبيراً من العاملين العرب من جميع الدول المجاورة، وكان كثير منهم متأثرا بالأفكار ذاتها. ونتيجة لذلك، ظهرت جماعات صغيرة متأثرة بطروحات ماركسية ويسارية وناصرية وقومية عربية. وفي الحقيقة كانت تلك المجموعات مقتصرة على النخبة، ولم تشكل مطلقا حركة شعبية، ولكنها كانت تشكل قلقاً داخلياً، خاصة بعد أن حاول بعض أعضائها القيام بنشاط سياسي خارج إطار الدولة.


وكان رد فعل السلطات حازماً ضد النشاط الموجه من الخارج، في الوقت الذي قصرت فيه قاعدتهم الاجتماعية المحتملة عبر احتوائهم في مؤسسات الدولة. وسريعا ما أصبحوا شخصيات مؤثرة في نشاط لمملكة التنموي. ونتيجة لذلك، منذ منتصف السبعينات، ظل معظم النشطاء الحداثيين بعيدا عن الانشغال بالسياسة. ولكن أصبح بعضهم نشيطا في مجال جديد، الذي كان يشهد تطورا سريعا في ذلك الوقت، وهو: الساحة الأدبية. وفي هذا المجال، بدأوا في الدعوة إلى تحديث الأدب السعودي؛ حداثة لا تتطرق إلى الشكل فقط، بل أيضا إلى المحتوى. وتلقائيا، وجهت الانتقادات، بصورة ضمنية، إلى العادات الاجتماعية السعودية التي كانوا يهدفون إلى تحريرها. وسرعان ما انضم إليهم عدد من الروائيين والشعراء والنقاد الأدبيين، من أبرزهم عبد الله الغذامي وسعيد السريحي. وظهر اتجاه ثقافي يعرف بـ"الحداثة".


ومن جديد، كان ذلك تطورا متعلقا في الأساس بنخبة ثقافية محددة وظل على سطح المجتمع. ولكن في الوقت ذاته، كان هناك تطور أكثر عمقا في تأثيره داخل المملكة. منذ الستينات، كانت الصحوة الإسلامية، وهي حركة إسلامية شعبية، تنمو لأسباب من بينها تأثير نشطاء الإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى السعودية. وكانت قاعدة حركة الصحوة هي النظام التعليمي، الذي كان له من خلال ذلك فرصة الوصول إلى جميع طبقات المجتمع. والأمر الأكثر أهمية هو أنه في المجتمع المحافظ كان خطاب الصحوة مفهوما جيدا، ولاقى استقبالا جيدا كذلك. وفي منتصف الثمانينات، وصلت الصحوة إلى كتلة حرجة، وبدأت في رؤية سيطرة دعاة الحداثة على منافذ إعلامية محددة، وخاصة الملاحق الأدبية في الصحف السعودية الكبرى، أمرا مثيرا للغضب. وتم تنظيم حملة واسعة النطاق ضد دعاة الحداثة، وسريعا ما تم إقصاء بعض منهم عن وظائفهم. ومن الواضح أن الصحوة حققت فوزا في ذلك.


وفي أغسطس (آب) 1990، أقنع التهديد بحدوث غزو محتمل للسعودية من جانب الجيش العراقي، مباشرة بعد غزو الجيش العراقي للكويت، الحكومة السعودية بطلب المساعدة من القوات الدولية. وقد أدى ذلك إلى موجة من الخلاف غير المسبوق في المملكة؛ حيث خرجت مطالب من بعض قطاعات المجتمع. وكان أول من اتخذ موقفا مجموعة من المدافعين عن حقوق المرأة، الذين نظموا حدثا مذهلا: ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 1990، قادت 49 سيدة السيارات في شوارع الرياض، في مطالبة صريحة بحق قيادة المرأة للسيارات. ولكن في أوائل عام 1991، أصبح لأعضاء حركة الصحوة، الذين أغضبتهم المظاهرة النسائية، الصوت الأبرز في المجتمع السعودي. وعبر مجموعة من العرائض والخطب، دعوا إلى تنفيذ مشروعهم الاجتماعي والسياسي، الذي يهدف، من بين عدد من النقاط، إلى سيطرة المؤسسة الدينية على المجتمع السعودي، وإلى إعطاء الشخصيات الدينية دورا أكثر بروزا في النظام السياسي.


وقد رأى الليبراليون في قوة الدفع التي حصلت عليها حركة الصحوة تهديدا. وكان رد فعل السلطات هو إسكات أبرز الشخصيات المتشددة في حركة الصحوة، بينما بدأ النشطاء الليبراليون من جميع الخلفيات - يساريون وشيوعيون ودعاة حداثة ومدافعون عن حقوق المرأة، إلخ - في التكتل لتشكيل مجموعة أصبح اسمها غير الرسمي فيما بعد "الليبراليين". وكان لدى هؤلاء الليبراليين برنامج بسيط للغاية: معارضة مشروع وأفكار حركة الصحوة. ويظل ذلك هو نقطة الضعف الأساسية لدى الاتجاه الليبرالي السعودي على مدار الأعوام التالية: حيث ظهر من أجل معارضة الصحوة، ولم يكن لديه مشروعه الخاص الواقعي المتماسك على الأقل. في التسعينات، حاول بعض المفكرين اللامعين مثل تركي الحمد إضافة جانب ثقافي إلى المشروع الليبرالي. ولكن تم تجاهل محاولة الحمد نسبيا، بل ولم يستوعبها الكثيرون ممن يطلقون على أنفسهم وصف "الليبرالية".


ولكن منح ضعف حركة الصحوة الاتجاه الليبرالي دفعة أولى؛ فسريعا ما استعاد بعض المثقفين الليبراليين دورهم، وأعادوا ترسيخ نفوذهم على مستوى النخبة. ومنح ظهور إرهاب السلفية الجهادية ووقوع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) دفعة ثانية لليبراليين: حيث أدت حقيقة أن 15 من مختطفي الطائرتين البالغ عددهم 19 شخصا من السعوديين والحملة التي شنتها وسائل الإعلام ضد المملكة في الغرب إلى فتح الباب أمام مرحلة لتأمل الذات في السعودية. ودون شك فإن الليبراليين نجحوا -نسبياً- في تقديم أنفسهم كبديل للإسلاميين - وفي الوقت ذاته استيعابهم الصريح لحركة الصحوة والمجاهدين- استفادوا من الوضع. وكان هناك عامل آخر في مصلحة الليبراليين: ظهور مجموعة المتحولين، وهم الإسلاميون السابقون الذين أصبحوا ينتقدون الصحوة وصور النشاط الإسلامي الأخرى بقوة. بالنسبة لليبراليين، كان لهؤلاء المتحولين فائدة مهمة، أولا لأنهم يتحدثون من واقع تجارب شخصية، وثانيا لأنهم يتقنون الحديث بلغة الإسلام التي افتقدها الليبراليون بشدة.


وهذه نقطة مهمة: في التسعينات، لم يكن لدى الليبراليين خطاب عن الإسلام. وكانوا يدعون أنهم يمثلون القيم العالمية، ويتصرفون وكأنه من الواضح أن تلك القيم تتفق مع الإسلام. وفي أعقاب 11/9، بمساعدة بعض من المتحولين أمثال منصور النقيدان ومحمد المحمود، تزايدت محاولات الليبراليين لإضفاء الشرعية على مواقفهم عبر الإسلام. وزاد ذلك الاقتحام لمجال كان يعتبر غريبا على الليبراليين من أعداء أنصار الصحوة لهم. وسار الأمر على هذا النحو خاصة عندما ذهب منصور النقيدان إلى حد الدعوة إلى إحياء "الإرجاء"، وهي مجموعة قديمة تعرف بتسامحها مع جميع الآراء الدينية ولكنها تعتبر منحرفة من وجهة نظر أتباع الصحوة، الذين بذلوا جهودا كبيرا في تفنيد آرائها.


ومنح ذلك لليبراليين فرصة متزايدة للظهور، وخاصة على الإنترنت؛ حيث أثبتوا وجودا كبيرا. وتم إنشاء منتديات ليبرالية: أولا، منتدى طوي، حتى عام 2004، ثم دار الندوة، حتى عام 2006، وأخيرا وحتى الآن، منبر الإبداع والحوار ومنتديات الشبكة الليبرالية. وهذا تطور ملحوظ؛ فللمرة الأولى يستخدم مصطلح الليبرالية هنا بصورة رسمية، مما يشير إلى الإصرار المتزايد الذي يتمتع به أنصارها. وتزامن ذلك التطور مع الاستخدام المتزايد للمصطلح ذاته على لسان أعداء الليبراليين، كما ورد في كتاب صدر عام 2009 عن مجلة "البيان" التابعة لحركة الصحوة تحت عنوان "نقد الليبرالية".


ولكن كشف الظهور المتنامي لليبراليين عن تناقضاتهم أيضا. فقد خرج الاتجاه الليبرالي نتيجة لمعارضة الصحوة، ولكنه افتقد إلى تماسكه الذاتي. وأراد الليبراليون الإصلاح، ولكنهم اختلفوا على ما الذي يجب إصلاحه وكيف. ونتج عن ذلك انقسام مهم في مطلع الألفية، مما أدى إلى ظهور مجموعتين تمثل خيارين راديكاليين مختلفين: هؤلاء الذين يمكن تعريفهم بـ"الليبراليين الاجتماعيين" وهؤلاء الذين أود أن أشير إليهم بـ"الليبراليين السياسيين".


وبالنسبة للمجموعة الأولى، تعد المشكلة الرئيسية في السعودية اجتماعية وثقافية، وبالتالي المطلوب في المقام الأول هو الإصلاح الاجتماعي والثقافي. وعلى النقيض، يعتقد الليبراليون السياسيون أنه لا يمكن تحقيق أي تغيير دون بذل جهد شامل في مجال الإصلاح السياسي. ومن أجل تحقيق ذلك، أثبت بعض من هؤلاء "الليبراليين السياسيين" أنهم مستعدون للتعاون مع أية مجموعة اجتماعية أخرى، من بينها الإسلاميين المتشددين، طالما يتفقون معها على أهداف مشتركة.


وتسبب التحالف الإسلامي الليبرالي في خلاف مشتعل بين المجموعتين الليبراليتين المختلفتين: بينما أصر الليبراليون السياسيون على جدوى أسلوبهم، لامهم آخرون، خاصة الليبراليين الاجتماعيين، على كونهم أصبحوا أداة في أيدي الإسلاميين. وكما قال تركي الحمد، الذي يمكن اعتباره من المجموعة الليبرالية الاجتماعية، في حوار أجريته معه: "لقد خُدع هؤلاء (الليبراليون) بواسطة الإسلاميين بالطريقة ذاتها التي خدع بها الخميني الليبراليين الإيرانيين. ويدعي الإسلاميون أنهم ديمقراطيون، ولكن إذا وصلوا إلى السلطة، فسيضعوا نظاما على شاكلة النظام الموجود في إيران".


ويستمر الخلاف بين المجموعتين الليبراليتين المختلفتين حول ما تعنيه الليبرالية حقيقة حتى اليوم، كما هو الحال في الخلاف بين الإسلاميين والليبراليين حول المشروع الاجتماعي والسياسي الذي يجب تنفيذه. ولكن يظل الخلاف الأخير غير متساوي الأطراف: فعلى الرغم من الظهور الذي منحه الانتشار الإعلامي والموقف بعد أحداث 11/9 لليبراليين، يستمر هؤلاء النشطاء في تمثيل مجموعة من النخبة التي ليست على صلات قوية بالمجتمع. إنهم يدّعون أنهم يمثلون "الأغلبية الصامتة"؛ ولكن حتى إذا كان ذلك صحيحا، فإن أهم صفة في الأغلبية الصامتة هي أنها تظل صامتة. وفي المقابل، يسيطر الإسلاميون على آلاف المؤسسات والهيئات، وهم موجودون في كل دوائر المجتمع السعودي. وفي هذا الخلاف، كانوا، وسيظلون دون شك في الأعوام المقبلة، الطرف الأقوى.






* ستيفان لاكروا - أٍستاذ مساعد في العلوم السياسية في معهد باريس للعلوم السياسية. وتركز أعماله على الإسلام والسياسة في الشرق الأوسط المعاصر، مع اهتمام خاص بمنطقة الخليج.


** نشر هذا المقال لأول مرة في "المجلة" بتاريخ 2 يونيو (حزيران) 2010.






تعليقات

المشاركات الشائعة