اتفاق الشرائع السماوية في التوحيد وأثره في الفكر التنموي.



اتفاق الشرائع السماوية في التوحيد وأثره في الفكر التنموي.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتبت هذا المقال منذ اكثر من عام لسبب من الصدفة لا بإعداد مسبق مني، وأنشره الآن، وهو وإن كان صعبا لكن فيه فوائد سهلة.
الشريعة في اللغة: المذهب واالطريقة المستقيمة، وشرعة الماء أي: مورد الماء، والشريعة في الاصطلاح الشرعي إذا أُطلقت بتعميم كان معناها ما شرع الله (تعالى) لعباده من عقائد وعبادات من أعمال قلوب وجوارح ومقاصد ومكارم وآداب وقوانين كما هو واضح في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(الشورى: 13)
  أما إذا أُطلقت بتخصيص كما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(المائدة: 48) كان معناها الأحكام العملية التي اختص بها نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) دون من سبقه من الأنبياء، فإما يكون الحكم جديدًا بالكلية، أو يكون جديدًا من حيث تفصيله لا من حيث أصل تشريعه.
أجمع العلماء على أن الأنبياء كلهم على شريعة واحدة متفقين وفقًا للمعنى العام للشريعة، ومحل الاتفاق يكون في التوحيد والمعاد والنبوات ومكارم الأخلاق وأصول بعض العبادات والمقاصد العامة، فلو جئنا إلى التوحيد سنجد كل أنبياء الله دعوا إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة بعد معرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبما أن التوحيد إخبار عن ذات الله بأسمائه وصفاته العلى، التي تتسم بالكمال المطلق والجلال وجب أن يكون تنزيه ذات الله وتسبيحه منذ أول الزمان وأول الأنبياء كتنزيهه وتسبيحه اللذين يأتي بهما كل نبي لاحق إلى آخر الزمان حتى خاتم الأنبياء نبينا محمد (صلى الله عيه وسلم)
وهذه إشارة خفيفة إلى ما في كتب الله عز وجل من نصوص تدل إلى الاتفاق في الاعتقاد.
في القرآن الكريم يقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء: 25)
(أما التوراة فالنصوص فيها على ذلك كثيرة جدا، وقد اشتملت على ذكر ما كان يقع من الخصومات لأهل الأصنام، وإيراد الحجج عليهم، ولا سيما بعد موت موسى وقيام أنبياء بني اسرائيل عليهم السلام أجمعين، فإنها وقعت بينهم قصص يطول شرحها، ومن نصوص التوراة ما ذُكر في الفصل العشرين منها من السفر الثاني ولفظه:" أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكون لك معبود آخر من دوني، لا تضع لك منحوتًا ولا شبهًا لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما تحت الأرض، لا تسجد لهم ولا تعبدها لأني الله ربك القادر الغيور" وفي الزبور بما فيه التصريح بإثبات التوحيد مواضع كثيرة، فمنها في المزمور السابع عشر ما لفظه: " كلام الرب مختبر، وهو ناصر جميع المتوكلين، لأن من الإله غير الرب؟ أو من الإله سوى إلاهنا؟" وأما إنجيل المسيح عليه السلام، فهو مشحون بالتوحيد، وبذم المشركين والمنافقين والمرائين، ومن أراد استيفاء ذلك فليراجع الأناجيل الأربعة التي جمعها الأربعة من الحواريين، ومن ذلك ما في الإنجيل الذي جمعه (القديس متى) في الفصل الخامس والخمسين منه (وفي الطبعات الحديثة في الإصحاح الثامن عشر، عبارات: 15– 18) ما لفظه "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك، فخذ من بعد أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم، فقل للبيعة وإن لم يسمع أيضا من البيعة فليكن عندك كوثني وعشار" وهكذا  الرسائل التي صنفها جماعة من الحواريين، فإنها مشحونة بالتوحيد، ونفي الشرك والذم لأهله، ومثل ذلك الكتاب المشتمل على سيرة أصحاب المسيح المسمى عندهم (إبركسيس) وأما دعاء الأنبياء المتقدمين على موسى إلى التوحيد فقد تضمنت التوراة حكاية ما كانوا عليه من التوحيد والدعاء إليه، ونفي الشرك، فإنها قد حكت ما وقع منهم من عند أبينا آدم ومن بعده من الأنبياء كنوح وإبراهيم ولوط وإسحاق، وإسماعيل ويعقوب ويوسف إلى عند قيام موسى سلام الله عليهم أجمعين.) (1)
ملاحظة: يرد على هذا المعتقد شبهة أنه لا يتسق مع معتقدات لنا المسلمين أخرى كاعتقادنا في تشبية مراحل التاريخ البشري بمراحل نمو الإنسان من الصغر إلى الكبر والنضوج، وأن تاريخ البشرية تطور في مراحل بدأت بالصغر إلى الكبر والنضوج الذي تناسب معه ختم النبوة بنبينا (عليه الصلاة والسلام) ومجيئه بشريعة تتسم بخصائص تتلائم مع هذا النضوج كما قال النبي (عليه الصلاة والسلام) "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا ، فَأَكْمَلَهَا وَأَتَممهَا ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا ، وَيَقُولُونَ : لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ ، حَيْثُ خَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ " وكاعتقادنا في أن وظيفة الدين الحق هي التنمية البشرية بكافة أنواعها التي تكون نتاجًا لتفاعل قوى العقل والوجدان في أرقى أشكالهما الممكنة في وقتها، وكاعتقادنا في الأثر الخطير والعلاقة الطردية بين التوحيد والفكر التنموي الذي تترقى به المجتمعات، والعلاقة العكسية بين الشرك أو التوحيد المشوب بخلل كبير أو التوحيد غير الحي وبين فساد الفكر التنموي أو عجزه؛ إذ لم يشهد التاريخ بحثًا علميًا من دون نظرية، وعلى ذلك نصوغ الشبهة في صيغة سؤال: كيف تتحقق وظيفة الدين الحق التي هي نتاج أعمال قوى العقل والوجدان في أرقى أشكالهما، وتتبلور في فكر تنموي يرتبط بالتوحيد والشرك في علاقة طردية وعكسية في زمان ختم النبوة وما بعده (زمن نضوج العقل الإنساني) وأنتم تعتقدون أن هذا التوحيد هو هو على صورته الحالية كان معتقد الجنس البشري منذ أول الأنبياء وأدنى مراحل التطور الإنساني؛ علمًا أن المعقول أنه كلما انفتح لإنسان المراحل المتأخرة زمنيًا المتطورة عقليًا أفق عقلي متقدم ناسب ذلك الانفتاح تقدمٌ في التبرير الابستمولوجي أي المنطلقات المعرفية الأولى والمسبقات الذهنية والنفسية بلا حدود، وإلا لماذا الوقف على حدود ثابتة لا تتقدم بتقدم المحل الذي هو الفكر المتولد منها كتولُّد التحليل من النظرية والمفاهيم الرئيسية؟ وكيف تيسر لأهل هذه المراحل الأولى أن يتفاعلوا بكل قواهم العقلية والوجدانية مع هذه العقيدة؟ وكيف نفهم إمكانية وجود علاقة طردية للفكر التنموي في مرحلة النضوج العقلي الإنساني بعقيدة وعاها وعيًا كاملاً وتفاعلاً تامًا (عقليًا ووجدانيًا) إنسانُ المراحل التطورية (على تأخره العقلي بالنسبة إلى إنسان المراحل البعدية) الأولى بأمر من الله (تعالى) له على ألسنة رسله، وتساويه في هذا التمام بتفاعل إنسان اليوم وما بعده؟
ولنبدأ الجواب عن إمكنية التساوي بين العقليات المتدنية في مراحل التطور والعقليات المتقدمة الناضجة من حيث إمكانية تفاعل كل منهما تفاعلاً تامًا (عقليًا ووجدانيًا) مع عقيدة واحدة لا تتغير باختلاف العقليات في مستوى النضج، لنقول إن فهم التكييف الصحيح لحقيقة العقدية الكبرى يزيل العجب ويجيب عن السؤال، يقول الدكتور محمد عبد الله دراز (رحمه الله) "حقيقة الدين توجد عناصرُها قارة بين الجوانح، وتُعرَض دلائلها لائحة أمام الحس، حتى إن إلتفاتة يسيرة لتكفي للظفر بها في حدس سريع، كالبرق الخاطف. وليس إدراك هذه الحقيقة الكبرى محصول إدراكات لحقائق الكون ودقائقه الجزئية، ولا هو أشق منها كما ظُنّ، بل إنه يتقدمها ويمهد لها، في نظرية كلية تلم بها جملة، قبل أن تفحص أجزاءها وتفصيلاتها. ولذلك يستوي العالم والجاهل في أصل هذا الإحساس، كلٌ على فهمه يجد في الكون ما يبهره ويستولي على مشاعره" (2)
 فهذه الحقيقة العقدية الكبرى صُمِّم الكونُ كلياته وجزئياته تفصيلاً لها وتأكيدًا، إلا أنه لإختلاف البشر في قوة القرائح وقوة العقل وسلامة الفطرة واختلافات أخرى قد يقصر نظرُ البعض عن إدراك النظام الواقعي لدقائق الكون فيرى صورةً مبتورة منها تبدو في نظره وكأنها تنقض عقيدة التوحيد النقية، وعلى هذا كان مجرى التاريخ البشري صراع  بين أهل الحق وأهل الباطل، فالعمليات التاريخية كلها انعكاس لهذا الصراع، فأهل الحق أهل الفكر التنموي الرشيد الذين وعدهم الله بالتمكين في قوله تعالى: { ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (الأنبياء:105) وقال{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور: 55) عليهم أن يبدأوا التفكير انطلاقًا من تلك الحقيقة الكبرى في وقت مبكر من حياتهم (وهذه البكارة لا تتمكن منها جماعة علمية إلا إذا كان أعضاؤها مسلمين بالوراثة) ليتسنى لهم وقت وجهد للاستغراق في المعرفة التفصيلية وإجراء تحاليل مركزة على دقائق واقعهم، ولا يقتصرون على النظر المجمل على اختلاف أشكاله الزائفة الخادعة، ويحددون مصادر المعرفة التي في طليعتها القرآن الكريم والسنة النبوية ويليها نماذج معرفية من علماء هذا الدين المجددين ليستعين بهم على التعرف على طبيعة المعرفة (المنظومة التوحيدية) وتركيبتها ونظامها الذي عرفه وسلك وفقه السلف الصالح.
 كل ذلك استعدادًا من أعضاء هذه الجماعة العلمية لمعايرة كليات كونهم المعاصر ودقائقه (التي يتعرفون عليها بالموازاة مع تحصيل الاستعداد المعياري لا بعده) وهذه المعايرة هي المسئولة عن إنتاج فكر تنموي رشيد، وهذا الاستعداد هو (الأصالة) وعملية المعايرة هي (المعاصرة) وهذا الاستعداد هو البذرة الأصلية السوية التي في ضوئها وبمعيارها يمكن معرفة معايير السواء والانحراف في مناهج البحث ونظرياته ومفاهيمه الرئيسية بالنسبة إلى الكون المعاصر، وعند ذلك سيكون التكييف الصحيح للعقل أو الحقائق أو الفكر التنموي الرشيد كأمواج المياه التي تتكون حول نقطة مركزية حدثت في التو بفعل إلقاءها من الخارج لغرض تحريك المياه الراكدة بشكل صحيح (وهذا الغرض مثال لغرض التنمية) ولا شك أن هذا الغرض التموجي الدائري ما كان له أن يحدث لولا وجود منابع المياه التي خلقها الله في كونه لتمد التموج بقوامه، إلا أن العنصر الرئيسي في تشكل هذا الغرض التموجي هو إلقاء شيء من الخارج سقط لتوه على سطح المياه فأحدث في محل سقوطه بذرة أو نقطة مركزية نشأ عنها تموجات، واختفاء هذه الموجة من سطح الماء مثال لذهاب عصر ما بفكره التنموي، وإذا أراد أهل عصر بعده إنتاج فكر تنموي يناسبهم فعليهم تحريك المياه الراكدة بواسطه هذا الشكل التموجي كما فعل من سبقهم وكما سيفعل من سيلحقهم، بخلاف التكييف الآخر الذي يرى أن هذا الغرض التموجي يمكن أن يتشكل لو حدث سببه من الفعل أو الإلقاء أو الضرب في مكان آخر من البحر يبعد كثيرًا أو قليلاً عن نقطة المياه التي يُراد أن تتشكل فيها الأمواج، ومن هنا تُتوهم تكييفات للعقل وأشكال ونُظُم تخالف التكييف الصحيح، كلها تخالف القول بأن البذرة الأصلية هي هي البذرة التي عرفها أول الأنبياء في أدنى مراحل التطور التي تلقاها الآخر عن الأول بعد تنقيتها من الشوائب بالعملية التي سميناها (الاستعداد) بالموازاة مع تحكيمها في دقائق الكون المعاصر وكلياته وهو ما سميناه (المعاصرة) ليكون الناتج هو فكر تنموي رشيد، كما هي التكييفات الخاطئة التي يحاول علماء الاجتماع الأوروبيين المعاصرين وفلاسفة عصري النهضة والاستنارة والحركة الرومانتيكية وغيرهم في تكييفهم للحقائق وللعمليات التاريخية بغرض معرفة البذرة الأصلية بذرة السواء أو المبدأ الجوهري المشكل للعمليات التاريخية (وهو ما محله عندنا التوحيد أو ما سميته هنا بالاستعداد أو الأصالة) لكي يقيموا في ضوءه الفكر التنموي الرشيد الصالح للتعميم الكوني.
والحمد لله رب العالمين
(خالد المرسي)
(1)            الشوكاني، محمد بن علي. إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات، بيروت: دار الكتب العلمية، 1984م، ص5 وما بعدها بتصرف يسير.
(2)            دراز، محمد عبد الله. الدين، الكويت: دار القلم، 2010م، ص173.

تعليقات

المشاركات الشائعة