ضرورات التوافق في برلمان الثورة ل د. ابراهيم البيومي غانم

هناك توافق كبير بين فكري وفكر د. إبراهيم البيومي غانم، وكنت قلت سابقًا أن أغلب خلافات النخب مع الاسلاميين ليست قائمة على فكر بقدر قيامها على تحسسات نفسية! وهذا المقال يشرح ما قلت
د.إبراهيم البيومي غانم
التشديد على ضرورة «التوافق» هو أهم سمات الخطاب السياسي الذي قدّمته القوى والأحزاب الإسلامية بمناسبة الاحتفالات بمرور عام كامل على انطلاق ثورة 25 كانون الثاني المجيدة. هذه السمة التوافقية تجلّت أيضاً في خطاب هذه الأحزاب تحت قبة مجلس الشعب بمناسبة افتتاح برلمان الثورة، الذي فاز الإسلاميون فيه بما يقرب من ثلاثة أرباع مقاعده. وإذا قارنّا ذلك بخطاب الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية سنجد أنّ خطابهم يتجاهل نداءات التوافق، ويركّز فقط على نقاط الاختلاف والتنازع، ويميل إلى الصراع ويستبطن الاستبعاد والإقصاء على نفس نهج الحزب الوطني المنحلّ.
المبادرة بخطاب التوافق والدعوة إليه ليست جديدة على خطاب القوى والأحزاب الإسلامية، ولكن مبادرتهم جاءت هذه المرة لتؤكد على إدراكهم أنّ المناخ السياسي المصري قد تغيّر، وأنّ المجتمع يواجه تحديات هائلة، وتركة ثقيلة من المشاكل والأزمات المزمنة التي خلفها النظام البائد، وأنّه لا يقدر طرف واحد مهما كانت قوته على مواجهتها أو تحمُّل أعبائها بمفرده. دعوة التوافق تؤكّد أيضاً على أنّ المصلحة العامة تفرض على جميع القوى والتيارات والأحزاب مهما صغر حجمها أن تضع اجتهاداتها المتنوعة رهن تحقيق هذه المصلحة، وأن تتشارك حمل مسؤولية بناء «المجال المشترك» الذي يعيد تجسير الفجوة بين المجتمع والدولة على أسس ديمقراطية سليمة.
مفهوم «التوافق» يعني ضرورة انفتاح كافة القوى والأحزاب والتقائها على القواسم المشتركة، ولا يعني أبداً الذهاب إلى ما يسمى «الديمقراطية التوافقية» المعروفة في بعض البلدان الأوربية مثل: بلجيكا، وسويسرا، وهولندا والنمسا، أو تلك المجرّبة في بلدان عربية مثل لبنان والعراق، فنظام الديمقراطية التوافقية شيء، ودعوة التوافق التي تسود الخطاب السياسي للأحزاب الإسلامية المصرية شيء آخر.
«الديمقراطية التوافقية» نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتسهم في حل مشكلات الانقسام والتعدد العرقي واللغوي والديني والمناطقي في بعض البلدان الأوربية، وذلك من خلال التعاون والوفاق بدلاً من الصراع واتخاذ القرارات بالأكثرية. ولهذه الديمقراطية التوافقية ثلاثة أركان تتمثّل في: وجود حكومة ائتلافية موسعة تشمل حزب الأغلبية وأحزابا أخرى، والأخذ بمبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات النيابية وفي توزيع الحقائب الوزارية، واعتماد مبدأ «حق الفيتو» للأكثرية والأقلية من أجل منع احتكار السلطة، مع إقرار جميع الشركاء بحق الأغلبية النسبية في أن تحسم الخلافات التي تستعصي على الحل داخل البرلمان باللجوء إلى الاستفتاءات الشعبية العامة.
والحمد لله أننا في مصر لسنا في حاجة إلى هكذا «ديمقراطية توافقية»؛ حيث لا توجد لدينا انقسامات تستدعي الأخذ بها، كما ينفّرنا منها ذلك الفشل الذريع الذي آلت إليه في كل من لبنان والعراق. ولا أظن أنّ هذا المعنى التوافقي للديمقراطية هو المقصود بدعوة التوافق في خطاب الأحزاب والقوى الإسلامية المصرية.
ولكن من المهم معرفة هذا المعنى للديمقراطية التوافقية حتى لا يلتبس مع فكرة «التوافق» التي تستوجبها ظروف الانتقال الديمقراطي في مصر منذ انطلاق ثورة يناير، وحتى نحذّر من بعض الممارسات التي تتجه إليها بعض أحزاب الأقلية الممثلة في برلمان الثورة؛ لأنّها قد تجرّ البلاد إلى الدخول في تجربة فاشلة ومدمرة كما حدث في لبنان والعراق. والأكثر أهمية من ذلك هو أن يكون معنى «التوافق» الإيجابي محل توافق بين جميع مكونات الخريطة السياسية المصرية.
في رأينا أنّ «المرونة والانفتاح» هما جوهر «التوافق» الإيجابي الذي تحتاجه مصر في هذه الظروف، من جانب الأغلبية كي تتمكّن من استيعاب الأقلية وإفساح المجال لها للمشاركة في تحمل الأعباء والمسؤوليات، ومن جانب الأقلية ذاتها كي تتمكّن من إثبات قدرتها على التكيف مع البيئة السياسية الجديدة، وتلتزم باحترام إرادة الأغلبية، مع حقها الكامل في إبداء رأيها والدفاع عنه.
«المرونة» في جميع الأحوال لا تعني أن يكون التوافق مسألة حسابية تتعلق بالأرقام والنسب المئوية، وإلاّ انزلق الجميع إلى فخ «المحاصصة» المدمّر للعملية الديمقراطية من أساسها، وهذا ما يدعو الجميع إلى «التوافق النفسي» أولاً، وذلك بأن يتّسع صدر الأغلبية لرأي الأقلية، وأن تعترف الأقلية بمقدار تمثيلها الشعبي، وتتخلّى عن نفسية الوصاية وتخرج من أوهام الخيال إلى حقائق الواقع.
ومن أسفٍ أنّ وقائع الجلسات الأولى للبرلمان فاجأت السواد الأعظم من المصريين بخطاب لنواب الأقلية غير توافقي وعصبي ويعيد إنتاج لغة الإنكار والإقصاء التي كان يمارسها الحزب الوطني المنحل. وما يلفت الانتباه حقاً في رد فعل أحزاب الأقلية على دعوة التوافق هو نزوعها إلى صد هذه الدعوة بخطاب معاكس مليء بما يتناقض مع الممارسة الديمقراطية ذاتها، وتدلّنا على ذلك الحجج الرئيسية الثلاث التي يتضمنها هذا الخطاب المعاكس الذي مارسه نواب الأقلية في الجلسات الأولى لبرلمان الثورة، وهي:
1ـــ قولهم أنّ العبرة ليست بالأغلبية وإنما هي بالكفاءة لتولّي المواقع القيادية في رئاسة المجلس ولجانه النوعية، وهذا حق يراد به باطل، فهذه «الحجة» إدانة دون دليل، وإهانة دون داع لنواب الأغلبية، والتسليم بها يعني أنّ نواب الأغلبية مجرد «كم» لا مضمون له ولا كفاءة لديه، والتسليم بها أيضاً يهدم «قاعدة الأغلبية» التي هي من أبجديات الممارسة الديمقراطية، ويدفع البرلمان إلى منطق «المحاصصة» المدمر، ويكرس حق الاعتراض في يد الأقلية.
2ـــ قولهم أنّه لا بد من تحقيق قدر من التوازن بين القوى الممثَّلة في البرلمان، ومعنى «التوازن» المختفي في هذه الحجة هو توازن كمي صرف! وهو يتناقض تمام التناقض مع المضمون الكيفي للحجة السابقة المتذرعة بالكفاءة! هناك قللوا من أهمية الأغلبية الكمية، وهنا عادوا للبحث عنها من باب خلفي! وفضلاً عن ذلك فإنّ حجة «إصلاح التوازن» هي حجة باطلة أيضاً بمقاييس وقواعد الديمقراطية لأنّها اعتراض صريح على الإرادة الشعبية العامة التي حددت الوزن النسبي لكل قوة أو حزب سياسي بما يقترب إلى حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي العام. والإرادة الشعبية فقط هي الجهة الوحيدة صاحبة الحق في تغيير الأوزان النسبية داخل البرلمان عبر صناديق الانتخابات الحرة في مرات قادمة.
3ـــ قولهم إنّ عدم استجابة الأغلبية لمطالب الأقلية تعني أنّها حزب وطني جديد! وهذه فزاعة وهمية وحجة مضحكة تذكّرنا بالمنطق نفسه الذي كان يستخدمه الحزبي الوطني المنحل للتخويف من الإسلاميين، واستخدام نواب الأقلية في برلمان الثورة «لفزاعة المنحل» لترويع الأغلبية وتفزيع الرأي العام منها فيه دليل على ضعف قدرة أحزاب الأقلية على «التوافق»، وعدم استعدادها النفسي حتى الآن للعمل بانفتاح ومرونة مع حقائق الواقع الجديد في برلمان الثورة، وإلاّ أين وجه الشبه بين ممارسات نواب الحزب الوطني المنحل الذين نعرف تصنيفاتهم الشهيرة: نواب الكيف، ونواب القروض..إلخ، وبين نواب برلمان الثورة (أغلبية وأقلية) الذين جاؤوا بانتخابات حرة نزيهة وليست مزورة؟
من أخطأ الخطأ أن تتصور أحزاب الأقلية في برلمان الثورة أن التوافق يعطيها «حق الفيتو» ويمكّنها من مصادرة رأي الأغلبية تحت أيّ ادعاء من الادعاءات، ولا يقل خطأ عن ذلك أن يتصور حزبا الأغلبية النسبية الحرية والعدالة والنور أنّ التوافق يخوّل لأيّ منهما التنازل عن الأمانة التي حملها له السواد الأعظم من المصريين بحجة إرضاء هذا الطرف أو ذاك، وإلاّ لكان ذلك خيانة للأمانة وتفريطاً في الثقة الشعبية، وخروجاً على أصول الممارسة الديمقراطية ذاتها، ولو حدث ذلك فسيكون لإرادة هذا السواد الأعظم ألف حساب وحساب مع المفرطين أيّاً كانوا.
لا يختلف اثنان على أنّ ضرورات المرحلة الانتقالية تفرض الأخذ بمبدأ «التوافق» السياسي بمعناه الذي يؤكّد على الانفتاح والمرونة كما قلنا، ولكن التطبيق العملي للتوافق يحتاج إلى استعداد نفسي من جميع الأطراف قبل الحسابات السياسية، وبخاصة من جانب نواب الأحزاب الصغيرة في البرلمان، وسيفقد التوافق معناه ويعمل في عكس الاتجاه المرغوب إن مسألة شكلية وعبثية على النحو الذي صوره كاركاتير بارع في كلمات مترعة بالسخرية تقول أنّ التوافق هو «الاتفاق على حل توفيقي بعد الموافقة على صيغة توافقية تنال موافقة الأطراف التي لم تتفق على نص متفق عليه رغم الاتفاقات الجانبية»!
ضرورات التوافق لا تجعله أبداً مرادفاً للمحاباة ومداراة لمشاعر الأقلية على حساب الأغلبية التي جاءت بإرادة حرة للسواد الأعظم من المصريين، ولو أضحى كذلك فسوف ننتقل مباشرة إلى نظام «المحاصصة». و»المحاصصة» فكرة جهنمية سبق لها أن أسهمت في تعطيل آليات الديمقراطية، وحطّمت آمال الشعب العراقي في الانتقال إلى نظام ديمقراطي حر حتى اليوم، مثلما حطّمت آمال الشعب اللبناني وكرّست فيه الطائفية وحرمته من الاستقرار وحوّلت أحلامه الديمقراطية إلى كوابيس لا نهاية لها. فتوافقوا وفّقكم الله.


تعليقات

المشاركات الشائعة