هوية حزب الوسط(المصري) كما تدل أفكاره

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد :
هذا رد على تصريحات الأستاذ"أبو العلا ماضي" مؤسس حزب الوسط ، الحزب الذي ووفِق علي الاعتراف به رسميًابعد الثورة المصرية، وتصريحاته هذه ضمن حواره مع مركز الدين والسياسة للدراسات على الموقع الالكتروني للمركز . وأنا لم أكن لأرد على هذه الأفكار رغبةً مني أن تًُترك مثل هذه الأفكار حتى تفنى في نفسها، ولكني أرد الآن لأنها أفكار تُعبر عن الهوية الحقيقية لحزب جديد في الحياة السياسية في مصر وهو"حزب الوسط" والذي يقدم نفسه للشعب باعتباره حزبًا اسلاميًا ويرفع شعار الاسلام. وحيث أن المنطق العقلي يعطي الأولوية في فهم حقائق الناس على أساس الأفكار والتصورات لا الشعارات. فنحن من منطلق هذاالمنطق العقلي نريد فهم هوية هذا الحزب عن طريق أفكاره الأساسية التي صرح بها مؤسسه . إذ من الآن فصاعدًا صار للشعب المصري الكريم الحق في أن يفهم ما يحدث حوله وأن لايتبع الا على بصيرة لا عن عمى.
نص كلام الأستاذ" أبو العلا ":
المُحاوِر:هذا يجرني إلى الحديث حول الحريات ومفهومها عندكم في الحزب والفرق بينها وبين التدين فحقيقة هي غير مفهومة؟
الأستاذ "أبو العلا":- التدين الحقيقي هو الذي ينحاز للحرية الحقيقية.. التدين هو مجموعة القيم والأخلاق والعلاقة مع الله ولكن هذا التدين لايعطيني الحق في التدخل في حرية الآخرين واختياراتهم وكلما زاد التدين زاد الإيمان بالحرية والذين لايفهمون ذلك لايفهمون معنى قوله تعالي (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
أنا سمعت من الشيخ سيد سابق أنه قال ونحن في إحدى اللقاءات بالمنيا أنه لو أن هناك طفلا لقيطا وادعت امرأة مسلمة أنه عبدها وقالت امرأة نصرانية إنه ابنها يحكم القاضي بأنه ابن النصرانية لأن الحرية مقدمة على التدين، ولا أنسى يوم تكلم الشيخ القرضاوي عن هذا المعنى في برنامج الشريعة والحياة وقام المستشار الهضيبي بعمل مداخلة معه، وقال بل الشريعة مقدمة على الحرية، وحدثت مداخلة مشهورة بينهما وهذا إجماع من العلماء كما قال الشيخ سيد سابق وما نقوله ليس أفكاراً بل أقوال علماء.
المُحاور:وبناء على ذلك فأنتم تسمحون للتي لا تلبس الحجاب بأن تكون في حزبكم؟
الأستاذ "أبو العلا":- الصلاة أهم من الحجاب وفي الشريعة لا يستطيع أحد أن يجبر أي أحد عليها.
المُحاور:ولكن يعاقبه عليها أو يحتسب عليه؟
الأستاذ "أبو العلا":- هذا كله كلام خطأ أنا لست معه.. الناس آمنوا بالإسلام بحرية فلماذا نخاف على الإسلام من الله، وكل الأيدولوجيات التي قامت علي الديكتاتورية سقطت.. انظر للشيوعية من الذي أسقطها؟!! إنه البابا، فالتدين يأتي إذا فرضت الكفر والكفر يأتي إذا فرضت التدين، وانظر للثورة الإيرانية حينما فرض الشاه العلمانية بقوة جاء الخميني، والآن حينما تراجعت الثورة وبدأت في القهر بدأوا يثورون عليها.. وفي مصر حين غابت الحرية لعقود جاءت الحرية، إنها مشكلة حرية والدين يؤمن بالحرية والذي يختار بحرية هو أقوى إنسان.
المحاور:مفهوم الحرية مفهوم كبير جداً فما أهم ما تعتقده فيه؟
الأستاذ "أبو العلا":- مفهوم الحرية وفق النظام العام الذي تعيش فيه، فمن حقك أن تسمع ما تشاء ولكن لا تؤذيني بما تسمع، وهكذا، والناس الذين يجبرون الناس على سماع القرآن لا يفهمون الإسلام، وهذا في الغرب حرية النقد وتجريم التجريح.
المُحاور:ولكن الغرب عنده أزمة في الحرية؟
الأستاذ "أبو العلا"- نعم وأنا قلت لهم ذلك في أكثر من مكان.. مثل الرسوم الدانماركية فحين قلنا لهم إن ذلك إيذاء لمشاعر المسلمين قالوا هذه حرية ولا نستطيع التدخل فيها فللحرية قيمة كبيرة ومآذن سويسرا أليست حرية؟!!
الحرية تراعي نظام الآخر والحرية أفضل من القمع، والتسامح أفضل من العقاب.
انتهى الكلام .


هذه الأفكار الأساسية التي صرح بها تتناقض مع الاسلام والايمان وتنافيه صراحة بإجماع أهل الاسلام قاطبة في كل العصور. فكيف بعد ذلك يوصَف بأنه " حزب اسلامي"!؟ والتفصيل كالآتي :


تفسيره للتدين يقول(التدين هو مجموعة القيم والأخلاق والعلاقة مع الله. ولكن هذا التدين لايعطيني الحق في التدخل في حرية الآخرين واختياراتهم وكلما زاد التدين زاد الإيمان بالحرية والذين لايفهمون ذلك لايفهمون معنى قوله تعالي (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). فتفسيره يُقصِر التدين في علافة الفرد بربه تاركًا سلوك الفرد ومعاملاته ،


هذا هو التفسير العالماني للدين والتدين وهو يناقض الاسلام والايمان ،ولا يجتمعا أبدا. لأن لفظ العالمانية مُشتق من " العالم " لا " العلم " كما يكذب به مدعوا العالمانية ويموهوا به على الجهال، ويقصدون بالعالمانية: فصل العالم الأرضي عن العالم السماوي، ويعنون أن الانسان الذي يعيش على الأرض، إذا أراد أن يتدين بشريعة ما فليتدين بها بشرط اقتصار علاقته الدينية فيما بينه وبين ربه الذي في السماء ولا يجوز له تمرير هذه العلاقة فيما بينه ( أي الانسان) وبين باقي الأشياء الموجودة معه في العالم الأرضي ومن هنا يفصلون بين الأرض والسماء. وهذا التفسير العالماني للتدين الاسلامي يتناقض مع الدين الاسلامي بإجماع أهل الاسلام ( سنيهم ومبتدعهم) لأن الله أنزل دينه من السماء الى الأرض ليحكم الأرض، والحياة كلها، فهو إذًا منهج حياة ،كما يقول الله – تعالى -:{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ }(الأنعام)163. { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات:56) { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }البينة:5{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }يوسف:40{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2] وفي حديث ملك الوحي جبريل -عليه السلام- حين جاء سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عن الايمان والاسلام والاحسان؛ فلما أجابه النبي وشرح له هذه الدرجات الثلاث، قال في أخره للصحابة: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" ( رواه مسلم في صحيحه) فجعل الدين مجموع هذه الثلاث درجات التي هي:


1- الإيمان 2- الإسلام 3-الإحسان،


أو بعبارة أخرى موازية هي: 1- الاعتقادات 2- السلوك 3- المعاملات،
واعلم أن كل ما يصدر عن الكينونة الانسانية وعن الحياة الدنيوية يقع تحت إحدى هذه الدرجات الثلاث، ولذلك كان الدين هو مجموع هذه الثلاث، تعبدنا الله به في محيانا ومماتنا وبين لنا فيه كل شيء كما قال الله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}( النحل:89)، والتفسير العالماني للتدين يقصره على الاعتقادات فقط، بل وعلى جزء يسير جدا منها، يعني على جزء بسيط قليل جدًا من ممارسات الحياة البشرية. وجحد وتكذيب أي حكم أو جزء من الدين كفرٌ بالدين كله، لأن الدين مُصمَّم من مجموع الدرجات الثلاث السابق ذكرها فمن آمن ببعضه وكفر ببعضه لا يصح أن يُسمى متدينًا ولا يصح تسمية الجزء الذي آمن به دينًا – بالمعنى الشرعي -، لأن من صدَّق – النبي – في بعض ما أوحي اليه من ربه؛ لزمه تصديق باقي الوحي ،ومن كذبه في بعض ما أوحي اليه لزمه تكذيب باقي الوحي وإلا فلا فرق، كما يقول الله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }(النساء:151). { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ }(سورة البقرة: 208) وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" (رواه مسلم في صحيحه) فأوجب النبي الإيمانَ بالذي أُرسل به، ولم يفرق بين بعضه وبعضه الآخر، وليتناول القارئ أي كتاب دين من المكتبة الاسلامية يتكلم عن مفهوم الدين أو العبادة ليعلم ماذا قال علماء الاسلام جميعهم في هذا المفهموم. (وللتوسع في فهم العالمانية يُرجع لكتاب "العالمانية" للدكتور "سفر الحوالي" على موقعه الالكتروني).


قوله (- الصلاة أهم من الحجاب وفي الشريعة لا يستطيع أحد أن يجبر أي أحد عليها.)


إتفق علماء الاسلام على أن الصلاة فرض والحجاب فرض، واتفقوا على أن المقصود الأول من الولاية العامة والولايات الخاصة في الدولة الاسلامية هو سياسة الناس بالدين فيفرض ولي الأمر عليهم ما فرض الله ويحظر عليهم ما حظر الله ( وهذا معنى قولنا: "الاسلام دين ودولة" )(1) كما يقول الله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ *هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ ) ] الجاثية: 17-19 [ . {وما كان لمؤمن وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا)]الأحزاب:36 [.،(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ]النساء:105 [.، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا*وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) النساء:60-61 [.، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) "يوسف:67".،(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )"المائدة:50".،(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )"المائدة:44".،وليس الحاكم المسلم هنا كالأكليروس أو رجل الدين الذي كان عند نصارى الغرب في عصورها الوسطى الذي كان يتحكم ويذل الناس باسم الدين وكأنه هو الإله!كلا، ولكن الحاكم المسلم لا يلزم الناس بالدين من هذا الوجه، بل يلزمهم من وجه أخر ،وهو مقتضى عقد الإيمان الذي عقده والتزمه كل فرد من أفراد الرعية المسلمة على نفسه وقت رضي بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، ولذلك فإن هذا الحاكم المسلم مُكلّف هو الأخر بالدين ،ويستحق أن يُقيّم عملُه ويُحاسَب بمقياس الدين كما يُحاسب هو الرعية بمقياس الدين ، حتى لو أنه ثبت عليه قتل أحد رعيته بغير حق وجب أن يُقام عليه حد القصاص إن لم يعفو ولي المقتول! وهذا لا يوجد في أي شريعة سوى شريعة الاسلام . والآية القرآنية التي ذكرها الدكتور "أبو العلا" لا تبيح للمسلم الخروج عن شرع الله ولا تجيز للكافر بقاءه على الكفر كما قال أئمة التفسير في كتب التفاسير ويمكنكم مراجعة معناها في الكتب.


قوله: (لأن الحرية مقدمة على التدين) ونسبته هذا المعنى للشيخ القرضاوي . لا شك أن الشيخ القرضاوي لا يقصد بهذا الكلام فصل الشريعة عن الحياة! كيف وهو تاريخه الطويل وكتبه المنشورة تشهد له بنضال كبير ضد العالمانيين! فكلامه يُنظَر ويُفهم في سياقه، وقد قرأتها له تعليقًا على ثورة تونس، وعلى ذلك، فهو يقصد أن كسر أغلال الطواغيت مُقدَمة، لأن المسلم لا يستطيع القيام بشرع ربه كاملاً إلا إذا كسر الحواجز التي يقيمها الطواغيت لصد الناس عن الدين . ولا شك بأن الأولى لمن هو في مكان الشيخ القرضاوي أن يكون كلامه أكثر دقة حتى لا يجد المبطلون فيه ثغرات يدخلون من خلالها فينسبون له الباطل – مستغلين مكانته الدينية عند الناس - ويضلون الجهال بذلك .


وحينما سأل المحاور الدكتور أبا العلا عن ما يعتقده في مفهوم الحرية أجابه الأستاذ بإجابة لا علاقة لها بالموضوع ولا بالواقع وبسيطة جدًا . والواقع أن المبطلين الذين يتكلمون عن مفهوم الحرية يتعمدون وصف هذا المفهوم بالبساطة لا التعقيد حتى يسلم لهم تشويشهم وتعميتهم على حقائق الاسلام. رغم أن مفهوم الحرية من التعقيد بمكان؛ جعل منه واحدا من أكبر المفاهيم التي دوَّخت الفلاسفة والعباقرة في التاريخ الانساني !!!


، ولم يصلوا الى الآن –ولن يصلوا – الى تحديدات له ومعنى يجعله مفهومًا واضحًا يتفق والعقل ، وقابلاً للتطبيق على الواقع بدون إشكالات وتناقضات كما يقول "جان جاك روسو" : (الديمقراطية الصحيحة ... لم توجد قط .... ولن توجد أبدا)


، أما أهل الاسلام الملتزمون بدين الاسلام فقد وُفِقوا في فهم مفهوم الحرية بمعناها الصحيح الذي يتفق و العقل، لأنهم تلقوا معاني هذا المفهوم وتحديداته من الوحي المعصوم ورأوا فيه المعقولية كلها ولم يروا فيه أي تناقض { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }(سورة النساء:82)، وقال المؤرخ الفيلسوف الاجتماعى الشهير (جوستاف لوبون) (إن العرب- أي المسلمون- هم الذين علَّموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع حرية الدين) وهذا النقل نقلته بواسطة الشيخ القرضاوي من كتابه (الدين والعلم ) ! مما يؤكد خطأ نسبة خلاف ذلك اليه.


قوله: (فالتدين يأتي إذا فرضت الكفر والكفر يأتي إذا فرضت التدين). هذا مبني على فصله بين الدين والدولة في الإسلام، وهو أيضا بقوله هذا يُوهم الناس بأن التدين – النابع عن إخلاص تام - لن يوجد إلا في ظل دولة لا تُلزم رعيتها بأحكام الاسلام، وتسمح للرعية بالكفر والخروج عن الدين، وتسمح لمن يريد الالتزام الديني بأن يلتزم به في خاصة نفسه – بحسب مفهوم التدين الذي قرره الأستاذ أبو العلا- وهذا إيهام لا حقيقة له ومبني على أصول باطلة للأسباب الآتية: 1- الحاكم المسلم الذي يسوس الناس بالدين مهما اجتهد وأحسن فسوف تظل مساحة كبيرة جدًا أمام أفراد الرعية لا رقيب عليهم فيها سوى الله- تعالى – وعن جزء صغير فقط من هذه المساحة يقول الدكتور "محمد البهي" عن دور الدولة فيها: ( الدولة لا تختلف عن اليتيم في الضعف، وفي العجز، عن متابعة الرقابة لما يجري من تصرفات في شئون المال لأنه إذا كان اليتيم شخصًا موجودًا يُشار إليه، لكنه قليل الإستطاعة والخبرة، كذلك الدولة، فإنها موجود معنوي متصور في الذهن فقط، ولا يحس به إلا من يرقب الله في التصرفات والسلوك)(2) ،نعم ،بل إن في زمن الدولة الاسلامية التي أقامها النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم خلفاؤه الراشدون، وُجد من يفسق عن دين الله، إذًا فهذا الخروج عن الدين قدر كوني لازم في كل وقت كما يقول الله تعالى { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(سورة فاطر 32) فالظالم لنفسه هو: المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، والمقتصد هو: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، والسابق بالخيرات هو: الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات ( 3) فثبت بهذا أن وجود هذه الأصناف الثلاثة وجود قدري، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم – يقول لمن يتخاصم اليه "إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ ، فإنما أقطع له قطعة من النار"(صحيح: رواه أبو داود) يقول هذا الكلام لخير المجتمعات، ويقول أيضا:( (لو يُعطَى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)( رواه البخاري ومسلم) يُخاطب به خير مجتمعات الأرض! فهذا الوضع إذًا قدر لازم ومُحتم من الله، وإنما أوجب الله على الحاكم والمحكوم أن يواجه هذا القدر بالشرع، وأن يحاصره ويقوضه بقدر الإمكان والوسع، بقصد التقليل من وجوده لا بقصد إعدامه كليةً، لأن الله أعلمنا أن العاصين والخارجين عن شرعه لن يُعدَموا بالكلية ، وإنما سيحاسبنا الله على مدى التزامنا وبذلنا الوسع في محاصرة المعصية والعاصين، وما قصَّرنا فيه بعد بذل أقصى الوسع فمعفو عنه – ان شاء الله – { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة:286) ، وكمثال على هذه العقيدة أقول: أن أهل القانون والقضاء الوضعي في كل البلاد ( كفارًا أو مسلمين ) يضعون القوانين لمحاصرة الجريمة رغم علمهم بأن الجريمة ستظل موجودة وسيظل المجرمون قادرون على التهرب من العدالة، ولكن هدف القوانين هو محاصرة الجريمة بقدر الإمكان فقط.


2- هذابالنسبة لعصاة المسلمين وهو كذلك أيضا في تقدير الله وجودَ الكفار حتى قبيل الساعة كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(سورة التغابن:2) وقال النبي –صلى الله عليه وسلم - ) والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)(متفق عليه) فالصليب سيظل موجودا حتى زمن نزول عيسى – عليه السلام-، وقد وُجد أيام دولة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم خلفاءه الراشدين أهلُ كتاب ينكرون ويكذبون بنبوة نبينا – صلى الله عليه وسلم-، ورغم ذلك كان الجميع يتعايش مع بعض، وكان يُترك لهم حرية الاعتقاد بشرط خضوعهم للإطار العام في الدولة الاسلامية بضوابط وتفاصيل معينة معروفة في كتب الفقه الاسلامي، وهم بعد ذلك أحرار، إما أن يظلوا على الكفر أو يؤمنوا بالإسلام ،وهذا هو المعنى الصحيح لقوله تعالى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}،(سورة الكهف:29) {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }(سورة البقرة: 256) فكل هذا تقدير كوني من الله، ولا يُتَصور عدم وجوده في الدنيا أصلاً؛ حتى نحتاج لأنْ ( نفرضه نحن كما يقول الأستاذ..). وإن كان في قوله تناقضات عقلية وشرعية أخرى لكن في هذا القدر كفاية – وانتبهوا أنه رغم كل هذا ينسب كلامه لإجماع أهل العلم!!!!!!!!!!!!!!!!!-.


وأخيرا إن كانت الديمقراطية - التي لأهل الاسلام عليها ملاحظات شديدة - تبيح لكل من شاء أن ينشئ حزبًا، فهي قطعًا تحظر على صاحب الحزب أن يستعمل شعارات فارغة من مضمونها، أو شعارات تخبئ تحتها مضامين تتناقض معها كلية، بقصد الإتجار – بهذه الشعارات التي يحبها الناس – والتمويه بها عليهم، لأن هذه الممارسات المشينة تتناقض مع حق الناس في احترام عقولهم وعدم خداعهم .
والحمدلله رب العالمين.
كتبه/خالد المرسي
---------------
(1) اتفق على هذه العقيدة علماء الاسلام جميعهم في كل العصور، ويمكن للقارئ أن يقرأ كلامهم في أي كتاب يتكلم عن السياسة الشرعية أو الحسبة مثلاً؛ للأئمة المتقدمين كالماوردي وابن تيمية ، وإن كان يعسر على القارئ فهم أسلوب المتقدمين فليقرأ للمعاصرين وهذه بعض أسمائهم (الدكتور حامد ربيع، والدكتور محمود حلمي، والدكتور السنهوري، والدكتور محمد يوسف موسي، ، والدكتور الريس، والأستاذ محمد رشيد رضا، والأستاذ عبد الكريم الخطيب، والدكتور عبد الحميد متولي، وغيرهم، بل ممكن يقرأ لبعض المستشرقين الكفار – المنصفين منهم – كأرنولد البريطاني!)
(2) انظر كتاب" الاسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة" ص120
(3) انظر تفسير ابن كثير










تعليقات

‏قال غير معرف…
جزاك الله خيرا يا شيخ خالد على هذا التوضيح الماتع، لا حرمكم الله من الإخلاص والأجر
أحمد عبدالسلام
‏قال خالد المرسي
جزاك الله مثله أخي أحمد وشكرًا على مرورك الكريم
‏قال خالد المرسي
رابط المقال من موقع مركز الدين والسياسة للدراسات

http://www.rpcst.com/articles.php?action=show&id=799

المشاركات الشائعة