مقال مخاض المجتمع بقلم الدكتور عبد الكريم بكار

مقال مخاض المجتمع بقلم الدكتور عبد الكريم بكار



ليست الجهالة بما تأتي به الأيام شيئاً جديداً على الوعي البشري ، بل هو الشيء المألوف و المتوقع ، و على مدار التاريخ كان الإنسان مستعداً للتكيف مع الظروف و المعطيات الجديدة ، و بما أن التغير كان بطيئاً جداً ، فإن توقع ما سيكون لم يكن صعباً ، كما أن المطلوب من التأقلم كان محدوداً ، لكن كل هذا قد تغير اليوم على نحو يولِّد الدهشة .
للنقاش حول الموضوع ادخل هنا

http://www.forsanelhaq.com/showthread.php?t=192657




و من الواضح جداً أن التطور التقني الحادث اليوم قد جعل الواحد منا و كأنه يخالط نماذج من كل البشر ، و يطلع في آن واحد على كل الأفكار و المفاهيم و العقائد الموجودة لدى كل الملل و النحل ، و هذا يشكل دفقاً ثقافياً يصعب على الوعي البشري التعامل معه و تمييز غثّه من سمينه ، و هذا يجعلنا نقول : إن مجتمعاتنا العربية و الإسلامية هي فعلاً اليوم في حالة مخاض ، و لا ندري بالضبط ما الذي ستكون عليه أوضاعها المختلفة بعد عشر أو عشرين سنة ،


و هذا شيء يبعث على القلق ، و يجعلنا نعاني من ضعف اليقين تجاه العديد من الأمور ، و لعلي أشير إلى بعض ما أهجس به عبر الحروف الصغيرة الآتية :






1ـ لا ينبغي أن نفهم أن ما هو قادم هو مجموعة من الشرور و السلبيات ، فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في ابتلاء خلقه أن تأتي المشكلات و الأزمات، و معها بعض طرق حلها و التعامل معها ، كما أنه يكون معها شيء من الخير الظاهر أو الكامن ، كما مضت سنته ـ جل شأنه ـ في أن يكون مع الخير و الرخاء شيء من الشر و التحدي ، و لهذا فإن ما هو قادم يحتاج إلى انتباه و حذر أكثر حتى نستفيد من خيره ، و نتقي شره ، و على كل حال فإن طريقة تعاملنا مع الأشياء تؤثر في النتائج أكثر من تأثير طبائع تلك الأشياء .






2ـ حين يقل العلم و ينتشر الجهل ، فإن من السهل على الناس أن ينظروا إلى ما هو من قبيل الرأي و الاجتهاد الشخصي على أنه حقائق و مسلمات غير قابلة للنقاش ، و هذه النظرة هي السبب المباشر في انتشارالتقليد


و التعصب و الجمود الذهني و الثقافي ، أما اليوم فإن الناس يطلعون على كل ما يُقال و حول كل شيء ، و هذا فيه إيجابية واضحة ، هي الاندفاع نحو التجديد و توسيع الأفق و التخلص من تقديس الأشخاص و الأقوال ، لكن السلبية التي بدأنا نلمسها اليوم هي ظن كثير من المثقفين أن في إمكان كل واحد منهم أن يقول ما شاء فيما يشاء ، و هذا كان واضحاً جداً تجاه العديد من الفتاوى اللافتة للنظر ، و كأنه ليست هناك قطعيات يتفق عليها أهل العلوم المختلفة ، و لا مرجعيات تفصل في الأمور المتنازع فيها ، و هذه سلبية كبيرة في نظرنا ؛ لأنها تبلبل أذهان الناس ، و توقعهم في المزيد من الحيرة ، لكن ليس هناك علاج حاسم لهذه المشكلة ، سوى نشر ثقافة احترام التخصص و ثقافة الإعراض عن أولئك الذين يتحدثون في كل شيء دون أن يتقنوا أي شيء !






3- الناس اليوم -و بسبب من الاطلاع الواسع على ما يجري ، و على ما هو سائد في العالم- أخذوا يعيدون اكتشاف الكثير من الأشياء ، و يعيدون تقييم نظرتهم لأنفسهم و واقعهم و ماضيهم، و لا يخفى أن نظرة الناس إلى ما كنا نطلق عليهم الأسلاف العظام و الأئمة الأعلام قد تغيّرت ، حيث يتبلور اليوم اعتقاد جديد يقول : إن السلف السابقين كانوا يرون الأشياء من واقع خبرة أقل من الخبرة المتوفرة اليوم ، كما أن التراكم المعرفي الذي كان في زمانهم أقل بما لا يُقارن مما في حوزتنا اليوم ، و لهذا فإن من المتوقع أن يمثل السابقون طفولة الوعي ، و أن نمثل اليوم شبابه ،


و هذا الاعتقاد يتجلّى في الجرأة القوية على الاجتهاد ، كما يتمثل في الاستشهاد المكثف بأقوال الفلاسفة و علماء معاصرين و غير مسلمين ينتمون إلى كل بلاد العالم و كل ألوان الطيف ، و هذه الوضعية تعني الكثير و الكثير ،


و سيكون لها آثار كبيرة ، من أهمها تشكل رؤية جديدة للحياة و للمستقبل الدنيوي والأخروي ، و هذه الرؤية ستعتمد على مجموع رؤى العالم لذلك المستقبل ، و لن تكون المذهبية الإسلامية سوى أحد المكونات القوية لتلك الرؤية ، على حين أن المذهبية الإسلامية كانت تنفرد في الماضي بتشكيل معظم طموحات الناس و معظم نظراتهم للواقع و المستقبل .






4ـ اتساع كل جوانب الحياة العامة ، و تعدّد المعطيات و وجود عدد هائل من الأقسام و التفاصيل في كل شيء و لكل شيء سوف يجعل كل ما لدينا من نصوص و حكم و أقوال مأثورة غير كافٍ لتوفير مرجعية كاملة و كافية ، و هذا سيدفع إلى التوسع في الاجتهاد و الاقتباس من الثقافات الأخرى ، و لهذا مخاطره التي لا تخفى ؛ إذ لا يكفي أن تؤمِّن مرشدات لتوجيه حياتك اليومية ، بل عليك إلى جانب ذلك أن تحافظ على الاتجاه الإستراتيجي ، و تبقى على تواصل مع أهدافك الكبرى ، و هذا ليس بالسهل في ظل ما أشرنا إليه ، و في ظل تجاهله من قبل عدد كبير من المؤثرين في الرأي العام .






أعتقد أننا لا نبذل ما يكفي من التأمل و البحث و الدرس في مآلات التحوّلات العاتية التي باتت تجتاح كل شيء ، و إن فرص الاستدراك ما زالت موجودة ،


و إن علينا أن نفعل ذلك .






تعليقات

المشاركات الشائعة