تأملات في أية الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم                                       
تأملات في آية الصيام
بقلم / خالد المرسي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة (183)
جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله- تعالى - عنه فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه)،
لم يقل الله تعالى(يا أيها الذين صدقوا) وقال (أمنوا)، ليستجيش في النفوس المعاني الإيمانية، فالله يحب من العباد أن يأتمروا بأمره مؤمنين بقلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، لا أن يكتفوا بالتصديق العقلي الجاف فقط، لأن أعمال القلوب هي روح التوحيد.
ولذلك اهتم الشرع المطهّر بإيجاد الوازع الديني الداخلي في النفوس وتقريره وتثبيته كما أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نأمر أبنائنا بالصلاة وهم أبناء سبع ولا نضربهم عليها إلا وهم أبناء عشر، أي لا يُشرع في البداية ضربه ولمدة ثلاث سنوات لأن هذه المدة في الغالب كافية لزرع الاستجابة الداخلية لدى الطفل، ولذلك تجد إبراهيم – عليه السلام – لمّا أمره الله – تعالى – أن يذبح ولده إسماعيل، أخبر بذلك ولدَه فقال (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى )الصافات (102) لم يقصد إبراهيم – عليه السلام – أن يشاور ولده في تنفيذ أمر الله ولا كان مترددًا، إنما أراد أن يعرف ما في نفس ولده تجاه أمر الله فتقرّ عينُه به.
وهكذا على المسلم دومًا أن يهتم بإيجاد هذه الاستجابة بداخله.
 (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
يا تُرى، ما الحكمة من إخبار الله – تعالى – لنا بأن الصيام كُتب على من قبلنا أيضا؟ يريد الله – تعالى – أن يخبرنا ويعلّمنا بأن عقيدة الإسلام التي نؤمن بها، والتي بُعث بها كل أنبياء الله وأمن بها أتباعُهم، إيمانُنا هذا يجعلُنا وهُم، أسرةً واحدة . وأمةً واحدة . من وراء الأجيال والقرون ، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن وراء القوميات والأجناس ، ومن وراء الأرومات والبيوت!، ولذلك لما أراد الله –تعالى - أن يعرِّف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون , عرَّفها لهم في صورة أتباع الرسل - كلٌ في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92) وإذا انحلَّت رابطة الإيمان هذه، أوجَبَت الإبعاد بين المشتركين في الزمان والمكان وانقطع مابينهم! فينقطع مابين النبي وقومه الكفار به (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) هود (60) (أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) هود (68)، وينقطع مابين الوالد والولد كما حدث مع نوح – عليه السلام – وابنه (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فأجابه الله (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) هود(45 – 46)، وينقطع ما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم – عليه السلام – وأبيه وقومه كذلك ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) مريم (50)،
وفيما كان بين إبراهيم – عليه السلام – وذريته (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)البقرة (124). ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)البقرة (126)، وينقطع ما يكون بين الزوج وزوجه وذلك فيما بين نوح وامرأته ولوط وامرأته، وفي الجانب الأخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)التحريم (11) ، وينقطع مابين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم , ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم . وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم .
وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)الممتحنة(4)، (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)الكهف (16)،
وان تعجب!، فعجبٌ لأحدنا وهو يشعر بالقرب من صاحبه المسافر، في حين يشعر بالنفور والبعد ممن يسكن معه في بيت واحد!،
وهذه المشاعر تجدها حين تقرأ قصص الأنبياء والصالحين في (القرآن الكريم )المتكررة بأساليب شتى يعجز أن يأتي بمثلها البشر، لا يملُّ المسلم من تكرارها، بل كلٌ منا يستقي من معينها ما يُسّرَ له مع تجدد الأزمان والوقائع والحوادث، (كأنما هي فصٌّ من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملةً بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينُك وماذا تدع، ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت)، (بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تحدُّه عقول الأفراد ولا الأجيال)[1] ، وتشعر وقتَ قراءتك لها بأنك واحد من هؤلاء الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين في موكب الإيمان الضارب في شِعاب الزمان، وإذا بك تلحظ أن الحرب بين أهل الحق وأهل الباطل متكررة في كل الأزمان بأساليب واحدة مع تغيُّر في الوسائل والشخصيات.
وإذا بك تلحظ تَوارُد المشاعر والخوالج في نفوس أهل الحق(مابين أفراح وأتراح) ثم تلحظ نهاية واحدة لكل القصص وهي أن (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)هود (49)، فتعلَم وقتها أنّ الله خلق أهلَ الباطل لكي يخالفهم أهلُ الحق ويصبرون على مجاهدتهم إيثارا لمرضاته ومحبته، فتَخرج منهم أنواعٌ من العبادات يحبها الله – تعالى – ما كانت لتَخرج إلا في وسط هذه المنازعة والمخاصمة، ثم تجد الله – تعالى – كيف يجعل أهلَ الباطل عبرةً لمن بعدهم) وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)المؤمنون (44) لكي يسمع الناسُ ويروا! (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)هود (120) ولمَّا علم أعداءُ هذا الدين خطورةَ هذه الآيات بما تشمل من عقيدة، ووقوفها حائلا أمام نشرهم "للعولمة"[2]، وجَعل المسلمين قطيعًا لهم، هاجوا وماجوا ووصوا أذنابهم في بلاد أهل الإسلام أن يتصرفوا في هذه الآيات، ففكَّر الأذناب وحذفوا هذه الآيات من المناهج الدراسية وأنشأوا الدعوات القومية كالفرعونية والطورانية والآشورية وغيرها من القوميات، ليمسحوا من قلوب المسلمين تعاليم هذه الآيات القرآنية، ولكن هيهات هيهات.
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 152
(2) (تسعى العولمة بكل ثِقلها إلى تفتيت المنظومات الكبرى إلى أصغر أجزاء ممكنة حتى تسهل السيطرة عليها. وحين تستمع إلى كثير من المحطات الإذاعية والفضائية، فإنك تلمح على نحو واضح وصريح التعصب للأوطان والأقطار ومحاولات بائسة للحديث عن فضائل غير موجودة أو تضخيم لفضائل صغيرة) انظر كتاب"الأسئلة المحظورة"للدكتور عبد الكريم بكار ص91
المصدر
http://www.al-aqidah.com/?aid=show&uid=t075qymu

تعليقات

المشاركات الشائعة