القدرة والعجز وما بعد العجز كأدلة ظاهرة على ما في الباطن



أجمعت الأديان السماوية  على أن ما يبطنه الإنسان من دين يجب أن ينعكس في ظواهر (صحة وفسادا).
 وأمرُ النهضة كله قائم على قدرة كبار المجتمع على معرفة المعايير الصحيحة (الشرعية والعقلية) التي تثبت نوعَ دلالة ما ظهر على ما بطن وخفي، ليرتبون على ذلك تحديد من هو أولى بالمساعدة والاعتناء والتمكين له لتنبعث قدراته وتشيع فيسعد به وبأمثاله المجتمع بأكمله.
ومن الظواهر التي تدل على لئم الطباع وخبث بواطن أهلها هي (ما بعد العجز) لا (العجز) على ما سيأتي بيانه، هذا ظاهرٌ دل على خفي لكنه سمة عامة، بمعنى أن ليس كلُّ فرد من أهله تلحقه الدلالة، ولكن هناك استثناءات، ولكن هذه الاستثناءات لا تنهض بالمستثنَى ليخرج من دائرة (أهل الما بعد) إلى دائرة أهل (العجز) هذه قفزة لا ينهض عليها، لكنه يفترق عن أهل (الما بعد) في أنه اتبعهم كمقلد وحالُه يختلف عن حال المنشئين الأوائل الذين تولوا كبر التجاوز من العجز إلى ما بعد العجز، هو يقلدهم (هو يمارس دورهم الريادي لكن تقليدا) وكان لديه من الإيمان والإخلاص والصدق ما يقف حائلا قويا بين ذلك التلازم بين ( ما بعد العجز والخبث الباطني) الموجود في أقرانه كسمة عامة.
نتحدث عن (القدرة والعجز وما بعد العجز) على مستوى فرض الكفاية في الإسلام وهو إنتاج العلم والفكر الذي ينشر الدين أو يجدده وإنتاج الحركة الإسلامية التي توجه وتنفذ وتخطط بمقتضى املاءات ذلك الفكر (هذا إسلاميًا وهو موجود عقليًا لدى الأمم التي لم ترث الإسلام كالأمم الأوروبية والآسيوية واليابانية وأمثالها اليوم)، لا أتحدث عن مستوى فرض العين لأن فروض الأعيان الكلية التي هي شعار الإسلام الواجبة على كل فرد يجب  أن يتساوى فيها الأغبياء والأذكياء من حيث القدرة على عقلها وتطبيقها، ولو قيل فيها مثلما يُقال في فروض الكفاية للزم منه طعن في الله وشرعه.
فرض الكفاية في كلامنا هو إنتاج العلم الحق (الشرعي والعقلي) والتحرك بمقتضاه في المجتمع المتخلف لطبعه به والنهضة به، والنجاح في ذلك سنمثله بالنجاح في إشعال نار تلتهم الظلام وتمنح الضوء، هي  لن تشتعل إلا بشرارة قوية ولن تتحول الشرارة إلى نار ما لم تنتشر الشرارة وتختلط بوقود، فالقادرون على إنشاء الشرارة هم (القادرون) ولن تتحول شرارتهم إلى نار إلا بالوقود الذي يقدمه إليهم (العاجزون) وبالطبع عجزهم لا حقيقي ولكنه بالنسبة إلى لقدرة على إطلاق الشرارة وإلا فهم السادة الفضلاء أهل العلم والإيمان في الاطلاق والحقيقة على ما سيأتي بيانه، أما (أهل ما بعد العجز) فهم هم الظلام ذاته الذي يتهدد مصيره ووجوده حال اشتعلت النار.
لنبدأ برؤية هذه الأصناف الثلاثة في ضوء علاقتهم بالحقيقة والمعرفة، ولنبدأ بالحقيقة الكبرى (وجود الله) وما يلتصق بها التصاقًا شديدًا ككون الله أكبر، وذي الجلال والإكرام وذي الجبروت والمتكبر والرحيم والجليل...الى آخر أسماءه الحسنى وصفاته العلى التي تتفق عليها الأديان على ما لحقها من تحريف اليوم مع دين الإسلام الحق، وما يلتصق بها التصاقًا شديدًا بالنسبة إلى المسلمين ككون القرآن الكريم كتابه وسنة نبيه الأعظم خير الهدي، ولا قيام من ركود إلا بالتمسك بدينه، والإسلام هو الحل، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولن يصلح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولُها، وجيل الصحابة جيل فريد...
مخططُ هذه الحقيقة ولواصقها أو كنهها الذي طبعها الله عليه، يتساوى في أصل الشعور به أهل الأصناف الثلاثة رغم اختلاف أفاقهم، ذلك الأفق الذي يُحدَّد بواسطة عوامل متشابكة (بيولوجية وفسيولوجية وعصبية وأسرية واجتماعية وعلمية ووراثية..) رغم اختلاف أفاقهم ما بين ذكي وغبي، رفيع وسافل، كريم ولئيم، طاهر ودنس، وأقصد بالأصل الذي يتساوون فيه شعوريًا، أقصد بالأصل هو انصباب كل قوى نفس الفرد من عاطفة وفكر انصبابًا عنيفًا تلقائيا عفويا بديهيا حدسيا إذا نبهه غيرُه إلى تلك الحقيقة أو تنبّه هو من نفسه، عنيفا تلقائيا لا أعنف منه بالنسبة إلى أفق المُحس الشاعر وقالبه وبنيانه، يصف ذلك الشكل أو المخطط الدكتور محمد دراز بقوله: "حقيقة الدين توجد عناصرُها قارة بين الجوانح، وتعرض دلائلُها لائحة أمام الحس، حتى إن التفاتة يسيرة لتكفي للظفر بها في حدس سريع، كالبرق الخاطف. وليس إدراك هذه الحقيقة الكبرى محصول إدراكات لحقائق الكون ودقائقه الجزئية، ولا هو أشق منه كما ظُن – يقصد ظن عباس العقاد - بل إنه يتقدمها ويمهد لها في نظرية كلية تلمُّ بها جملة، قبل أن تفحص أجزائها وتفصيلاتها. ولذلك يستوي العالم والجاهل في أصل هذا الإحساس، كلٌ على فهمه يجد في الكون ما يبهره ويستولي على مشاعره". يتساوون في أصله بديهيا حدسيا ولا يتوقف ذلك الشعور لدي أي منهم على معرفة تفصيلية تؤكده وتهيجه من التاريخ أو الحاضر أو الشرع، هم وإن اتفقوا في أصل ذلك الشعور، إلا أن الواحد الفرد منهم يختلف حالُ هذا الأصل باختلاف حاله هو (كشاعر واحد ومحس واحد) يختلف من حيث كثافة الشعور وتكراره، فقد ينتبه الواحد لهذا الشعور  اليوم فينفعل به، ثم ذات الواحد ينتبه له بعد شهر مثلا فينفعل وربما زاد على الانفعال دمع عين، لأن كثافة الشعور هذه المرة أكبر منها في المرة السابقة، ويختلف أصل الشعور من حيث التكرار فقد يتنبه هذا الفرد له مرات متفرقة أكثر من  مرات متنبِّه مُحس آخر غافل، فذلك الاختلاف في الكثافة والتكرار قد تجعل المحسَّ الشاعر يعمل بمقتضى هذا المنبه فينتسب إلى جماعة من نبهّه لنصرة طريق الآخرة والدين أو النهضة بالوطن ، أو ينشئ هو جماعة وحركة لو كان هو الذي تنبه من نفسه أو يطلب العلم ليمارس تفاصيل الحقيقة التي تنبه إليها وينشرها في الأرض تأكيدا وتعزيزا وتحكيما للحقيقة وصاحب الحقيقة (الله سبحانه وتعالى) أو العقل (باختلاف الأمم) إذا وصلنا إلى هذا المستوى نجد اختلافًا ماحقا أصليا مصيريا جوهريا رأسيا بين الأصناف الثلاثة (بعد أن تساوا في الأصل) لا ينجو منه ويسعد ويسعد هم الناس إلا (القادرون والعاجزون) أما (أهل ما بعد العجز) فيصيرون بهذا الاختلاف متخلفين، ويا ويل الأمم إذا نجح (أهل الما بعد) في الاستيلاء على موارد المجتمع (المادية والمعنوية) والويل الذي تعيشه أمتنا حضر بسببهم!
لنشرع الآن في رؤية هذه الأصناف الثلاثة في ضوء ذلك الاختلاف الجوهري المصيري من تساؤلات سقراط كما يقول الفيلسوف "ب كروتشة" في سياق كسياقنا تماما عن شكل الحقيقة العقلية يقول "لا أدلَّ على ذلك من تلك الطريقة السقراطية القوية الخالدة التي ترينا كيف يَسهلُ على العارف أن يوقع غيرَ العارف في الاضطراب، وأن يجعله عاجزا عن الرد، مع أن هذا قد بدأ بالإجابة إجابة صحيحة، ذلك أنه أثناء الاستجواب يتعرض لأن يفقد حتى هذا القليل الذي يملكه من المعرفة" فسقراط هنا هو (القادر) ومحاوره لو وقف عند القليل الذي يعرفه كان هو (العاجز الفاضل من أهل العلم والإيمان)  لكنه لو استرسل وخاض في تفصيل تلك المعرفة يكن قد دخل في مرحلة (ما بعد العجز) التي بها يفسد حتى القليل الذي كان قد عرفه، ولذلك قال سهل التستري: من أعظم المعاصي الجهل بالجهل! رغم أن سهلاً من أئمة الصوفية لا من أئمة العلم الشرعي!، لو عدّلنا في مثال سقراط قليلا ليتناسب مع موضوعنا لقلنا إن ذلك العاجز مؤهل لخير كثير حتى يمكن أن يمتهن العلم ويحصل على أرقى الدرجات العلمية ويؤلف كتبا، فما يمكن معرفتُه ونشره من العلم كثيرٌ ومتاح لكثير من الناس لو اجتهدوا بشرط أن لا يجهل حدودَه وبشرط أن يكف عما نهانا الله عنه { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}  لو التزم بذلك كان في حكم الله محسنا{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ومن الذين اأتوا العلم والإيمان الذين رفعهم الله درجات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ويستطيع حينها  أن يتنبّه ويفرح لو وجد أحدا من طلابه أو من غيرهم تبدو عليه علامات (القادرين) فيشجعه لا أن يهمله ويعرقله كما سيفعل (أهل الما بعد) إذ سيرون تناقضًا موضوعيًا بينهم وبينه إن في رؤوس الموضوعات التي ينشغل بها كل منهم، أو في  طرق المعالجة والنظر  لموضوعات يشتركان في عناوينها اختلافًا يحدث تضارب وصراع ويتبع ذلك الاختلاف اختلاف حركي عملي ولا بد،
ويستدل الدكتور حاتم العوني على عدم طهارة نفوس أهل ما بعد العجز بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" في هذا الرابط

(ما بعد العجز) هي الحالة المسيطرة على واقعنا من أهل الفكر (سلفيين وإسلاميين وفكريين وحداثيين ووو...) ومن أهل الحركة الإسلامية وغير الإسلامية، والذي يستطيع أن يكشف حالة ما بعد العجز في أهل الفكر هم العلماء المجددين بحق، والذي يستطيع أن يكشف حالة ما بعد العجز في أهل الحركة (لو ترسخت تلك الحالة فيهم كرسوخها في يومنا هذا) هم أغلبية الناس إذ سيرونهم يفسدون في المجتمع ويزيدون مشاكله كما قال عيسى عليه السلام "من آثارهم تعرفونهم" وهو دليل يقني كاليقين الرياضي يُستدلُّ به على صلاح أو فساد أهل الحركة ولذلك استعمله الإمام البيهقي كدليل على نبوة نبينا في كتاب "دلائل النبوة" ولئن علّق أهلُ الحركة فشلَهم على الإرادة السياسية يُقال لهم إن من يحاسبهم لن يحاسبهم إلا في ضوء ما توفر لهم من إمكانيات وما قابلهم من صعوبات، فلن يعاتبهم أحد على عجزهم عن النجاح في انتخابات رئاسة أمريكا وانهزامهم أمام المرشح الرئاسي باراك أوباما! فمهما كانت الصعوبات لو كانت الجماعة صالحة وجب أن يظهر أثر صلاحها في الدائرة التي تعمل فيها كما سبق في أثر عيسى عليه السلام لا سيما في زماننا الذي تقلص فيه دور الدولة لصالح دور المجتمع المدني.
ما الذي يجعل العاجز يتحول إلى مرحلة (ما بعد العجز) رغم قدرته على الامتهان العلمي والعمل الرحكي بوسائل شتى إلا خبثُ باطنه الذي يُنشئُ في نفسه آمالا وتوقعات عريضة وحرصًا على ما ليس له وتمنيا لما ليس له {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} حتى يتيقن من نفسه بلوغَها درجةَ الاجتهاد العلمي لينظم نفسَه في سلك آباء النهضة العربية الأوائل، لا بل هو أعظم منهم لوجود مئتين سنة بينه وبينهم حدث فيها تراكم علمي مكّنه من إنجاز أبحاث علمية رائدة، هو إذن يستحق أنواع وأنواع من التحلية والتدليل، يستحق الأموال التي ينفذ بها مشروعه ويجند الباحثين حوله ويجند العاملين في حركته ، يستحق أوصاف المديح والتحلية (كالمجدد والعلامة) ويستحق عقد دراسات خاصة ورسائل علمية حول مشروعه الفكري أو حول حركته الرائدة، فهو لا يقنع بما أتيح له من تلك المتع (وقد أتيح له الكثير فهم المسيطرون على مجتمعاتنا اليوم وكذلك في كل مجتمع متخلف قديما وحديثا) هو لا يقنع لأن الأمة لم تنهض معنويًا وماديًا به وهي لم تنهض به لأن الإرادة السياسية لا تريد تمكينه ولأن أهل الأموال الآخرين يوجهونها في غير وجهته ويضعونها في يد غير يده، ولأن المفكرين الآخرين لا يعترفون له بريادته  الفكرية التي فاقت ريادة أباء النهضة الأولى أو تساويها (حسبما يقول تواضعا وكلُّ أحاديثه المباشرة تواضع وزهد وتحقير لنفسه وجهده وتجهيل لها!) فيضطر حينها إلى أن يعتقد أن الأمة ستنصفه وتعرف قدره وقدر علمه أو حركته بعد موته كما حدث مع ابن تيمية مثلا إذ صارت بعض أحكامه الفقهية التي حورب بسببها في حياته صارت هي النافذة المعمول بها  لكن بعد موته! فكما ترون وضعهم معقد جدا، والحل في هذه المرحلة يكمن فقط في نجاح (أهل الحق) في التوسع والتمدد فينهضون بالمجتمع تدريجيًا التدريجَ الذي لا يحدث تصادما مباشرا مع أهل ( الما بعد) فيهددهم تهديدا وجوديا يطال رؤوس الأموال التي حصدوها (رأس المال الرمزي والاجتماعي والمادي والسياسي.)
 كما أنه برغم ما قد يحدث من فساد بسببهم زرع يقينا لدى أغلبية الناس بفسادهم؛ إلا أن أتباعهم ومن جندوهم حولهم ليستكثروا بهم من قلة ويتعززوا بهم من ذلة، (وهؤلاء فيهم مخلصون حقا ويعزز إخلاصَهم مختلفُ المصالح التي اجتمعوا عليها مصالح معنوية ومادية) إلا أن هؤلاء يتعزر إقناعُهم بأن متبوعيهم (مضروبين زائفين)! ذلك لأن ما به يفرَّق بين الصالح والطالح في الفكر والعمل؛ ليس هو وجود هذا النمط من السلوك والفكر أو عدمه! وإنما الذي يفرق هو شكلُ توزيع هذا السلوك والفكر وشكلُ الأفق الذي يكلِّله كما قال حاتم الأصم : "المؤمن يأمر وينهى بالسياسة فيصلح والمنافق يأمر وينهى بالرئاسة فيُفسد"  فكلاهما أمرا ونهيا لكن صار الأول مؤمنا والثاني منافقا لاختلاف الأفق الذي يكلل الأمرَ والنهي لا بوجود الأمر والنهي أو بعدمه! الأفق في الأول كان السياسة وفي الثاني كان الرئاسة فافترقا إلى صالح وطالح ثم افترقا في (الأثر والنتيجة) لافتراقٍ في الشكل التوزيعي لأنماط واحدة اشتركوا فيها متلونة بلون مختلف ناتج عن  أفاقهما المختلفة ذات المعايير المختلفة، كذلك طبيعة التفاعلات التي تصدر من المجتمعين حول هدف شرير واحد كامتهان الدعارة أو تجارة المخدرات أو الاستبداد السياسي أو نشر التخلف الفكري؛ هي هي التفاعلات التي تصيِّر المجتمعين حول دعوة الله الحقة مؤمنين صالحين! فكلاهما يرعى مصالح أقرانه في التجمع ويريهم من نفسه خيرا، وهذا ذاته أصل التقوى والصلاح وعلاماته! لكن أفاقهما مختلفة المعايير، شتان بين معايير يضعها أهل الدعارة كمصلحة عامة وسلعة لها طلابها، وبين المعايير التي يضعها أهل الحق كمصلحة عامة اجتماعية وسلعة لها طلابها، الفرق بينهما في محدودية الأفق التي تجعل من المستحيل نقل تفاعلاتهم الخيرة خارج أفق الدعارة أو الاستبداد أو النشاط في نشر التخلف الفكري خارجَ طلاب هذا الهدف الذين يسعون إليه، لأن معايير  تلك الأهداف ليست معايير سواء ولا تلائم الحق الذي بتعميمه تنهض المجتمعات وتحل مشاكلها كمعايير الزواج الحلال مثلا أو معايير نشر الفكر الحق والسياسة الرشيدة! ولو صح الاستدلالُ بتلك التفاعلات الخيرة على صلاح أطرافها لضاعت كل حدود تفصل بين الصلاح والفساد والحق والباطل، لأن كل مجتمعين على مصلحة ما يراعون ويسعدون بعض لاستمرار ما به اجتمعوا في الدنيا، فهم عباد تلك المصلحة لا يهمهم الله ومعايير السواء العقلي والإنساني (سواء قصدوا كالفجار المعروفين أو كانوا يطلبون الحق وضلوه، فلا هم أهل حق خلص كالمصلحين الحقيقيين ولا هم فجار خلص كالأشرار الحقيقيين)
ولو غضينا الطرف عن الخراب الاجتماعي الذي تراه الأغلبية دليلا على فساد تلك الجماعة الحركية، لقلنا أن معرفة فسادهم (على مستوى الأغلبية والسمة العامة) قبل حدوث الخراب مستحيلٌ لأن معرفته تستلزم وجود أفراد يمتلكون (نظرية ومفهمة) جملة مفاهيم يعايرون بها طبيعة الشكل التوزيعي للنمط السلوكي والفكري أو طبيعة الأفق والسقف لتلك الجماعة المتحركة، وهذا لايتيسر لهم إلا إذا صاروا كواحد منهم ليروا حقيقة تفاعلاتهم في طبيعتها وتلقائيتها وهو ما يُسمى في العلم الاجتماعي (منهج الملاحظة المشاركة أو الملاحظة المسلحة) وهذا النوع من البحث شيوعه وإمكان وجوده  (كسمة عامة) مستحيل لأنه يستلزم بعثرة ما في الصدور في الدنيا وقد قضى الله أن لا تبعثر ما في الصدور إلا في الآخرة، ولأن أهل (ما بعد العجز) الحركيين والفكريين لا يحيطون أنفسَهم إلا بأمثالهم من القردة والحمير بعد أن يختبروهم بفلاتر الاختبار، لكن يمكن وجود هذا النوع من البحث كفلتات تتيسر لمصلح حقيقي يقذف به قدرُه داخل هذه التجمعات على غرة من قادتها؛ ليتفاعل معهم كواحد منهم يلاحظهم، وهيهات هيهات أن تستطيع الفلتات إقناعَ الأغلبية بنتيجة بحوثهم ما لم يحدث خراب اجتماعي تتيقن به الأغلبية،  ولذلك الحل الوحيد هو نجاح المصلحين الحقيقيين في التوسع وإشاعة النور ليصيّروا النور أمرا واقعا بعد أن نجح أهلُ ما بعد العجز في تصيير الظلام أمرا واقعا، ولكن هناك قيد، لمّا كان هؤلاء في النهاية على وهم لا حقيقة، والوهم لا يدوم (كثافة وطولا) يُمكن لبعض من حولهم من القردة والحمير الذين لا يملكون مفهمة أن يكتشفوا بفطرتهم زيفَ متبوعيهم بما سيرون من تخلُّل الحقد والبغضاء والتناحر في تفاعلاتهم، وهذا يعرفه المنشغلون والممتهنون للبحث العلمي الذين يحتكون بهم كموظفين ومساعدين باحثين أو مدراء مكاتب أو طلاب لهم أو أقران، ويعرفه بعض القادة في الحركات ولذلك تجدونهم ينشطرون ويفترقون وينقسمون أو تجدون تفاعلاتهم وتلاحمهم هشا ضعيفا أجوف شكلي تجبره المصالح (بأنواعها المختلفة) وهي أيضا وهم، وإن أوهن البيوت لبيت العكنبوت، لا يبقى ثابتا إلا لسكون بيئته عن حركة، أو لامتلاءها بالحركة والنشاط الزاخر لكن في وجهات تتشعب وتنطلق في كل اتجاه إلا في الاتجاه الذي يسكن فيه بيت العنكبوت! كالنشاط الزاخر الذي تنعم به مجتمعاتنا اليوم على كافة المستويات!
وكالعادة الذي يتحمل أغلب فاتورة هذا التخلف هو المجتمع من غيرهم.
وأخيرا: مخطط وشكل كل الحقائق الفرعية المتعلقة بنهضة المجتمعات تسمح بذلك الاتفاق ثم الاختلاف بين الأصناف الثلاثة، لكن المنبه إليها ليس بقوة منبه الحقيقة الكبرى ولواصقها المباشرة وإن كانت هي الحقائق التي يتعرض لها من تنبهوا للحقيقة الكبرى أثناء مسيرتهم الطويلة في مسيرة ما بعد العجز، فيعرفون أصولها وقليلها معرفة صحيحة ثم يُفسدون حين يسيرون في تفاصيلها بل ينقضون ما عرفوه قبلا، ويصيرون عقبة كؤؤدا في سبيل التنمية ويحصل بهم فساد عظيم ما بعده فساد حتى إن المصلحين الحقيقيين ليتحيرون في تتبع مظاهر فسادهم المتجددة وتشخيص ما سببته من أمراض نظرية وواقعية.
هذا تكملة لمقال بعنوان "الإعجاز النبوي العلمي في وصف سفهاء الأحلام"

تعليقات

المشاركات الشائعة