لا للتقليل من قيمة التثقف والرقي العقلي الروحي في مقابل الاعلاء من قيمة الرقي الصناعي.

يقول أحد الأفاضل ما نصه " لكي تقترب من الناس, لابد أن تثبت لهم أنك نافع لهم, أو خادم لهم, ولست واعظا, لاتقل لي ماذا تلبس, وماذا تأكل, والجنة والنار ومن المسلم ومن غيره, ولكن قل لي كيف سنأكل وكيف سنشرب وحدثني عن الطرق والكهرباء والصرف الصحي والتعليم, دخلنا في خدمة الناس," .


لا بد من توضيح لخطورة الأثر الذي يحدثه كلام الأستاذ الفاضل – سواء قصد تقرير هذا الأثر أو لم يقصده – في الناس ولا سيما في عصر كعصرنا تحتل فيه المادية المتوحشة مكانًا عاليًا في نفوس الناس وعقولهم.


من نافلة القول أن أنبه إلى أنني لا أُقلل من أهمية الانتاج الاقتصادي والخروج من التبعية الاقتصادية للغرب الذي يستغلها في فرض هيمنته وسياسته المناهضة لقيم الأمة وهويتها الدينية؛ ولكن مع ذلك أنا ضد الغلو فيه في مقابل التقليل من أهمية التثقيف والتنوير - المتفق والمستمد من روح وغاية ديننا وقيمه- الذي ينقل الناس وينتشلهم من طور الطفولة أو السفه او الجاهلية او اللامعنى ( العقلية والروحية ) إلى ( طور الرشد)(1)، فالاقتصاد كغذاء للجسد ( له ضروريات وحاجيات تنتهي) أما التنوير فهو لا يشبع منه المسلم بسبب طبيعة هذا التنوير مع الانسان الذي يظل يقترب منه ولا يتملّكه، ومن ثمّ فالانسان دائما في حاجة إلى الاقتراب منه ( بشكل جيد ومقبول) عبر التثقيف حتى لا يبتعد ويتجاوز الحد المعقول كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم (استقيموا ولن تحصوا)و يفسره قوله في الحديث الأخر(سددوا وقاربوا) ومن ثمَّ فالانسان في حاجة دائمة إلى تعهُّد روحه وعقله بالتثقيف بأشد من حاجته الى تعهده للانتاج الاقتصادي - الذي يجب أن يشبع ويكتفي منه إلى حد معين ولا يزيد (2)- بل إنه إذا أفرط فيه في مقابل تفريطه في التهذيب والأخلاق؛ كان مؤشرَ سقوطِ الأمة والحضارة . وساورد الآن رد الأستاذ عباس العقاد – رحمه الله – على مثل كلام الأستاذ الفاضل ثم أعلق انا بنفس منطق الأستاذ العقاد مع إختلاف الصبغة.


يقول الأستاذ العقاد في فقرة من مقال له وأرجو قراءة المقال كاملاً(3) ): وكثيرًا ما رأينا أناسًا يظنون أنهم فهموا طبيعة الرقي في الأمم وعرفوا مواضع الداء منها فتسمعهم يقولون: ما للأمم وللأحاديث والأحلام؟ إن الأمم تحتاج الى العلوم والصناعات ولا حاجة بها إلى الأداب ولا الفنون ، وهم لا يقولون ذلك إلا لأن غاية ما علموه عن الآداب والفنون أنها أحاديث وأحلام وأن الأمم بداهة لا ترقى بالأحاديث والأحلام!! فخليقٌ بهؤلاء أن يتدبروا ما قدمناه ويفقهوه ويعلموا أن حظ الأمة من الشعر والغناء والأدب ومن الأحاديث والأحلام أيضا إنما يكون على قدر حظها من الحياة؛ وإننا قد نستطيع أن نتخيل أمة قوية مجيدة بغير علوم ولا صناعات ولكننا لا نستطيع أن نتخيل أمة قوية الطباع والأخلاق بغير آداب؛ وإنه لا فلاح لأمة لا تصحح فيها مقاييس الآداب ولا يُنظَر فيها اليها النظر الصائب القويم؛ لأن الأمم التي تضل مقاييس آدابها تضل مقاييس حياتها والأمم التي لا تعرف الشعور مكتوبًا مصورًا لا تعرفه محسوسًا عاملاً؛ وأن ليس قصارك إذا صححت للأمة مقاييس كتابتها وشعرها أن تهبها كلمات وأوراقا وإنما أنت في الحقيقة تهبها شعورًا قويمًا ومجدًا صميمًا. تهبها دمًا في عروقها ونورًا في ضمائرها ونفوسها.)


تعليقي: إن كان الأستاذ الفاضل يقصد بكلامه أن يقلل من شأن بعض العلماء الذين شغلوا الأمة بعلوم ( من المفترض أنها لا تشغل سوى بال المتخصصين والأكاديميين فقط) كعلم أصول الحديث وأصول الفقه وضوابط العقيدة ..) أو شغلوها بعلوم جافة ( بعيدة عن مطالب وفروض الحياة) أو أولئك الذين يملأون المساجد ممن لا يحسنون سوى الحفظ والنقل دون الفقه ( بمعناه الديني الشامل وهو فقه وعلم الحياة الكامن في الوحي المطهر(4))، وهؤلاء هم الذين عناهم الصحابي الجليل "ابن مسعود" في نعيه وتأسُّفه لما قال: ( كيف بكم إذا كثر خطباؤكم، وقلّ فقهاؤكم؟!) إن كان الأستاذ فهمي يقصد كل هؤلاء فقولُه متوجه ؛ ولكن مع ذلك ينبغي عدم التقليل المفرط من فائدة هؤلاء، إذ وجودهم خيرا من عدمهم حيث أنهم يحافظون ويُلِّحون على تذكير الأمة بهويتها الاسلامية العامة ، وهذه مهمة جيدة تسد فراغًا إلى أن يبعث الله – تعالى - للأمة طائفةً تجدد لها أمر دينها – كما ورد في الحديث الشريف -وتنشر فيهم ( علم الحياة) وهو العلم الذي لأجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.


(1) هو مصطلح استعمله الإمام المُجدد "رشيد رضا" في كلامه على "مقاصد القرآن في تربية نوع الإنسان" من كتاب الوحي المحمدي ص،191 ومن أهم هذه المقاصد الإيمان بالجنة والنار والإيمان بهماهو" أكبر البواعث – بعد الايمان بالله ومعرفته – على اتباع ما شرعه من اتباع الحق، واقامة العدل، واعمال البر والخير، والصدود عن أضدادها.( المصدر نفسه ص86) فكيف يصح التقليل من شأن التذكير بهما بهذا الشكل؟!.


(2) " قد كان الناس على مدار التاريخ ينتجون ما يحتاجون إلى استهلاكه لإبقاء مسيرة الحياة مستمرة، لكن الذي أحدثته الفلسفة الرأسمالية وذيولها وملحقاتها – وهي المسيطرة على العالم الآن والتي تُشكّلت وفقها عقول الشعوب المسلمة - هو الرغبة في الإنتاج من أجل الاستهلاك! وهذا أدى إلى المسارعة في نضوب الموارد المعدنية والطاقة غير المتجددة، كما أدى إلى تلويث الماء والهواء وتسخين حرارة الأرض؛ مما ينذر باوخم العواقب...." انظر " مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي" للدكتور عبد الكريم كبار ص 79


(3) مقال بعنوان" الأدب كما يفهمه الجيل 1) من كتاب" مطالعات في الكتب والحياة".


(4) يسميه الشيخ رشيد رضا ب( علم الحياة) في كتاب" الوحي المحمدي" . والله يسمي الوحي المطهر "روحًا لما يحصل به من الحياة وجعله نورًا لما يحصل به من الإضاءة والاستنارة ..، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} الشورى:52، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام:110. ( انظر الوابل الصيب لابن القيم ص 85.


تعليقات

المشاركات الشائعة