هل التضحية بالنفس في سبيل فكر ما، تدل على نُبل وحُسن عقلي أو شرعي؟(1)

هل التضحية بالنفس في سبيل فكر ما، تدل على نُبل وحُسن عقلي أو شرعي؟(1)

التفكير العاطفي حين يحل محل التفكير العقلي يدمر الأمم، لذا وجب تحديد الخصائص العاطفية لتتميز عن الخصائص العقلية، فيُطّهر المرء نفسَه منها حين يكتشف أن اعتقاده عاطفي لا عقلي كما كان يتوهم.

يشيع في الإسلاميين والثوريين فكرة إجلال وتعظيم كل من يعرّض نفسه للسجن أو الإعدام في سبيل فكر (سواء اعتقدوا بصحة فكره أو خالفوه وخطئوه) كفكر سيد قطب مثلا، أو في سبيل مظاهرات وثورات ويسمون شاب الثورة (شاب جدع) ويعتقدون أن هذه التضحيات علامة يقينية أو شبه يقينية (غلبة ظن أو رجاء) علامة نبل القصد والمقصد، وبتعبير آخر (إخلاص شرعي) بل ويزداد إجلالهم لفكره ويستدلون بمقولة سيد قطب "كلماتنا ستبقى ميتة أعراسا من الشموع لا حراك فيها جامدة حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الناس" أو نحو هذه الكلمة، والحقيقة أن هذا خصيصة عاطفية وليست عقلية ولا شرعية، وهي خصيصة عاطفية لا تدل على نبل، بل تدل على استهتار وخفة عقل، ولذلك كانت مذمومة على لسان الشرع وعلى لسان أئمة النهضة الأوروبية المعاصرة.

بيان ذلك كالآتي:

(الإخلاص الشرعي) إنما يتكون إذا ارتبط بفكر شرعي سليم، والمعروف أن نتاج سيد قطب مثلا نتاج أدبي لغوي، أما من الناحية الشرعية والعقلية فهو خيالي غير نهضوي وصدامي متطرف، فلو سأل سائل وقال: نحن نسمع في كتب العلم الشرعي أن الله قد يغفر للمخطئ بسبب إخلاصه؟ نعم هذا في أهل العلم الذين لهم أخطاء أو لديهم أزمة فكرية منهجية، أما أمثال سيد قطب فهؤلاء أزمتهم عقلية، فأهل العلم ذوو الأزمة الفكرية خاضوا في الخطأ من بابه، فحكمهم حكم الجاهل المأجور لا المشكور، أما ذوو الأزمة العقلية فخاضوا في الخطأ من غير بابه فحكم حكم (أهل الجهل بالجهل) والله لا يعذر به كما قال سهل التستري :أعظم المعاصي الجهل بالجهل،

قال الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} يقول الفضيل بن عياض في تفسير قوله { أَحْسَنُ عَمَلًا} "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا" وذلك لأن العاطفة شيء بالغ المرونة لا يحددها غير فكر ما، فتكون العاطفة إخلاصًا شرعيًا لو ارتبطت بفكر شرعي قويم أو ارتبطت بخطأ من أهل العلم ذوي الأزمة الفكرية، وشائع في أئمة العلم من كل الأمم تلبسهم بهذه الأزمات والأخطاء، ولذلك نص أبو حامد الغزالي على أن عنصرًا أساسيًا في النية الشرعية هو الفكر، وكذلك فرّق أهل العلم بين النية الشرعية وبين حديث النفس، رغم أن حديث النفس في ذاته يرتبط بفكرة يحدث المر بها نفسه وهو تحديث صحي، وهو العالم الخيالي الذي يدفع الإنسان إلى النجاح ولذا ورد به الشرع في الغزو "من لم يحدث نفسه بالغزو..." مما يدل على أن أمر النية أغرق في الفكر التفصيلي.

قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل"

 والنبي يذم جرأتهم على التضحية بالنفس، مما يدل على أنه ليس دائما الجرأة في مثل هذه التضحيات مما تستحق الإعجاب فضلاً عن استحقاقها المدح الشرعي، أما الدليل من أئمة أوروبا فيقول "برتراند رسل" وهو يتنبأ بقيام حكومة علمية عالمية تحكم المجتمع بالعلم فتنعدم الثورات في هذا المجتمع إلا في قصر الحكم فتتغير الأسماء ولا يتغير النظام الأساسي، يتحدث عما يمكن أن توفره الحكومة للفوضويين كتعويض عن حرمانهم من شهوة الثورة والفوضى والتخريب يقول:"ولعل رياضات خطرة ستنظَّم لمن يُخشى من اتجاههم إلى الفوضوية؛ ولعل الرياضة أن تستنفد القسوة بعد إذ أُغلق دونها باب السياسة، ولعل كرة القدم سيحل محلها تمثيل المعارك في الجو، الذي سيكون فيها الموت جزاء للمنهزم، وقد يحدث أنه ما دام الناس سيُسمح لهم بالبحث عن الموت، فلن يكون مانع من أن ينشدوه في سبب تافه. فالسقوط خلال الفضاء أمام مليون من النظارة، قد يعتبره موتًا مجيدًا، وإن لم يستهدف غير إمتاع جمهور من الناس يوم الإجازة. ولعل في هذه الطرق يكون المتنفس للقوى الفوضوية العنيفة في الطبيعة البشرية، أو لعله يستطاع بالتربية الحكيمة والتغذية الملائمة أن يشفى الناس من نزعاتهم الجامحة، فتصير الحياة كلها هادئة كل الهدوء"

هذا النص يدل على أن الإلقاء بالنفس في التهلكة قد يكون لنيل المجد الشخصي ولشهوة داخل النفس لو لم يقبض عليها أموال فكيف والثوريون والفوضويون تستغلهم قوى عديدة وتمدهم بكل الموارد؟! ولذلك حكى "أبو حامد الغزالي" عن أحد العلماء لصالحين قوله وددت أني أمرت الحاكم الظالم ونهيته عن المنكر وقتلني لكني أخاف أن إذا قتلني أن ألحظ وألتفت إلى ثناء الناس وتمجيدهم لي بعد الموت أثناء خروج روحه! فهو يرى احتمال التفاته ولحظِه للمجد الدنيوي الذي ينتظره من الناس وهو يلفظ انفاسه الخيرة شرًا يستحق من أجل قبحه أن يجتنب هذه الطاعة الجليلة طاعة قول الحق عند ملك جائر والقتل شهيدا!

إذن  فلا تكون العاطفة إخلاصًا شرعيًا تستحق الإعجاب العقلي والشرعي، ما لم ترتبط بفكر شرعي سليم، لأن دين الإسلام علم له منهج معروف في كتب التراث الغزيرة لا يجوز الحيدة عنه وفهمه بالمزاج والهوى والجهل، فهؤلاء الجهلاء الذين يرفعون راية الإسلام ويكتبون فيه كثيرا وينشطون في ذلك كثيرا حتى أسمي مجموع أحاديثهم وتفاعلاتهم ب "الهيصة الإسلامية" من غير أن يتعلموا منهج دراسة الإسلام ولا يلتزمون به فلا يصح اعتبار عاطفتهم "إخلاصا شرعيا" ولكنها عاطفة مذمومة، ومشاعر شاذة تُسرع بهم إلى الوقوع فيما نهى الله عنه من الجهالات وتشويه الإسلام وتدمير الدنيا.

خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة