نظرات حول شيوخي (1).

نظرات حول شيوخي (1).
 بقلم/خالد المرسي.
كتبت هذه المقالات بمناسبة قراءة كتاب التفسير لابن باديس لكنها تعلقت بشيوخي محمد عبده ورشيد رضا ومحمد دراز وابن باديس وحاتم العوني. وابن عاشور
(1) مقدمة القراءة الجماعية لكتاب تفسير القرآن الكريم لابن باديس.

خطر لي أن أكتب هذه المقدمة قبل الشروع في قراءة كتاب تفسير القرآن للإمام عبد الحميد بن باديس.
دين الإسلام أهم منحة ومورد طبيعي منّ الله به على الإنسان، كما من الله عليه بموارد طبيعية أخرى كالماء والحديد والفحم والبترول والجبال ... لكن كل هذه المنح الإلهية لا يتقدم بها الإنسان إلا بعد أن يصنِّعها، وينقلها من حالتها الخام إلى الحالة المصنَّعة وفقًا لاحتياجاته المادية والمعنوية، ولذلك تجدون اليوم أشد الدول تخلفًا قد تكون غنية بالموارد الطبيعية، وتجدون في المقابل أشد الدول تقدمًا أفقر منها في هذه الموارد، لكنها تقدمت بقدرتها الفائقة على الانتاج وتحويل ما تيسر لها من موارد طبيعية، والدول المتخلفة تخلفت رغم غناها بالموارد لأنها لم تحسن استخدام هذه الموارد.
كذلك دين الإسلام عبارة عن مادة خام أولية تجدونها في كتب العلوم الشرعية (الأمهات) كتفاسير القرآن الكريم (الطبري وبن كثير والرازي وابن عطية، وكتب شروح الحديث النبوي وأمثالها من كتب العلوم الشرعية) أما مادتُه المصنَّعة فستجدونها أيضا في هذه الكتب، لكنه تصنيع يناسب حاجات ذلك العصر.
 فالواجب إذن على المسلم إذا أراد تعلم دينه أن يبحث عن العلماء الذين أتقنوا الإسلام في (مادته الخام) ثم نجحوا في عملية التصنيع ليناسب احتياجات العصر البشرية، وللأسف هذه النوعية من العلماء تكون في ندرة الكبريت الأحمر في فترات تخلف الأمة الإسلامية، ويكون العلماء فيها كثيرين لكنهم منشغلون بالمادة الخام فقط، ولا يبذلون الجهد اللازم لعملية تصنيعها، بل كثير منهم لا يعلم أن الإسلام يحتاج إلى تصنيع أصلاً.
العلماء المصنِّعون هم أوائل من عناهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها" التجديد هو التصنيع، الإسلام من حيث هو مادة خام لا يكون له أثر في النهضة، إنما يظهر أثره في النهضة بعد أن يتحول إلى مادة مصنعة.
------
(2) مقدمة القراءة الجماعية لكتاب تفسير القرآن الكريم لابن باديس.

يجب أن نعرف ميزة "العلماء المصنعون" أو بتعبير آخر "العلماء المنتجون" على غيرهم من "العلماء التقليديون" فإن لم نعرفهم نحن المسلمين فمن سيعرفهم؟! ستتضح ميزتهم إذا تعمقنا أكثر في الفرق بين الإسلام كمادة خام وبينه كمادة مصنَّعة.

نتحدث الآن عن المادة الخام.

الله تعالى خلق المواد الخام في الدنيا فصار لها "وجودان"

1- وجودواقعي لغرض المعيشة لا يقبل الانقسام في نفسه.

2- وجود ذهني ورقي لغرض التحليل والدراسة يكون مُقسَّما.

فمثلا نحن نرى المواد الخام كالحديد والمياه والفحم والبترول والزرنيخ والملح وأمثالها إما أن يوجد أحدها أو لا يوجد، فلا يوجد أنصاف حديد وملح ومياه ولا أثلاث ولا أرباع ، ذلك هو الوجود رقم (1).

لكن على مستوى الوجود رقم (2) يمكن أن نقسم الزرنيخ ونحلله إلى خواصه الأساسية المكونة له، ونكتبها في كتب لغرض الدراسة فنخصص مثلا كتابًا كاملاً لاحدى هذه الخواص أو نخصص جامعة كاملة ودرجات علمية راقية لدراسة أحد هذه الخواص أو بعضها لو كان تعقيدها يستلزم هذه الدراسة الممتدة العميقة، ويكون غرض العلماء من اختراع هذا الوجود رقم (2) هو أخذه وسيلة تعين على فهم وتصنيع المادة ذاتها في وجودها رقم (1) فمثلا يدرسون خواص الحديد في الجامعة العلمية بغرض فهم خواص الحديد كما هو في الوجود الحياتي رقم (1) ليتعاملوا معه أثناء التصنيع فيذيبونه إن شاءوا أو يدخلونه كمكون يتمازج مع مواد خام مختلفة آمنين من سلامة هذا الازدواج على الحديد كمادة خام تحافظ على وجودها أو تفقده أثناء ذلك الامتزاج (وفقًا لما يريده المنتجون المصنعون) حسنًا، إلى هنا لا مشكلة على الاطلاق، لكن المشكلة تحدث إذا فرضنا وجود دارس أخطأ فهم الأوزان النسبية لخواص المادة الخام التي تخصص في دراستها، فلو كان الحديد يتكون من ست خواص كيميائية، يدرس هذا الدارس خاصية واحدة أو أكثر ويظن نفسه قد درس كل خواص الحديد، ويرى نفسه مؤهلاً للعمل في مصانع الحديد ليقدم لهم الاستشارة اللازمة في تصنيع الحديد، هذا لو توظف فعلا لأفسدت استشاراتُه الصناعةَ، لأن فهمَه للحديد مشوه وغير كامل، ولكن سرعان ما يُكتَشف فسادُه لظهوره على الصناعة التي يستهلكها الزبائن، وسيُقال من وظيفته فورا.

لو جئنا نطبق هذا المثال على دين الإسلام "كمادة خام" لو جدنا أن الإسلام في وجوده رقم (1) هو الإسلام ككائن حي لا يقبل الانقسام، أما في وجوده رقم (2) فهو يقبل الانقسام إلى خصائصه ومكوناته بغرض الدراسة فنجد من خصائص الإسلام المكونه له (القرآن الكريم والسنة النبوية وعلوم العقيدة والفقه واللغة العربية وأصول الفقه وأصول التفسير وعلوم الرجال وأصول الحديث والقراءات القرآنية والأخلاق والأدب والوعظ والجدل والعقل...)

الذي يحدث في المجتمع الإسلامي في فترة تخلفه أن علماء هذا المجتمع إذا درسوا أحد خصائص (علوم) الإسلام خاضوا وتعمقوا في دراسة تلك الخاصية غافلين عن وزنها النسبي الصحيح ضمن الخواص الأخرى المكونة ل "الإسلام" فمثلا يتخصصون في "الفقه الإسلامي" ويشرعون في دراسته على غير وعي بمكانه الصحيح ضمن خريطة العلوم الإسلامية التي تشكِّل في مجموعها "الإسلام" فيظلون يتعمقون في دراسة الفقه وهم في عمى عن مكانه النسبي الصحيح مما يدمِّر فاعليتهم الفكرية والدراسية، فيظنون أن هذا "الفقه" هو ثمانية أعشار الإسلام أو قريب من هذه النسبة، رغم أنه في الحقيقة عشر واحد فقط كما يقول الإمام "محمد عبده" وقبله قاله علماء السلف في عدِّهم لنصوص القرآن الكريم المستمد منها الفقه وهي نحو خمسمائة آية رغم أن القرآن كله ستة آلاف وكسور!، هذا غير الحديث الشريف، ومثل هذا الخلل في الفهم يحدث مع العلماء الذين يتخصصون في أي علم إسلامي آخر كالعقيدة الإسلامية أو تفسير القرآن الكريم أو أو...

هذا العالِم الدارس لهذه العلوم إذا قام بدوره في المجتمع الإسلامي كعالم إسلامي وتحدث في شئون الدنيا أفسد وأخرج إسلامًا مشوهًا ليس هو الإسلام الأول في وجوده رقم (1) الذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان من أئمة العلم والهدى،

 أمّا "العلماء المنتجون" فينجيهم الله تعالى من هذا الانحراف، فإذا هم عند بداية خوضهم في دراسة خواص الإسلام يكونون على معرفة بمكان هذه الخاصة أو تلك في الخريطة العامة التي تحوي كل خواص الإسلام، وسنعرف فيما بعد كيف تتكون لديهم هذه المعرفة من غير تعليم إذ هم يخرجون من رحم البيئة المتخلف علماؤها ومفكروها.

يتبقى الحديث عن الإسلام في "مادته المصنعة" في المقال القادم إن شاء الله
-------
مقدمة القراءة الجماعية لكتاب تفسير القرآن الكريم لابن باديس (3).

الآن نتحدث عن الإسلام (كمادة مصنَّعة)
في عالمنا المادي تجد المصانع لا تصنع شيئًا إلا إذا وجدت حاجة داعية إليه، فلم يُصنع "الهاتف" إلا لحاجة الناس للتواصل عن بُعد، ثم لما صُنع الهاتف توالت عمليات تصنيعية في مجاله لما وُجدت حاجة داعية لها ككون الهاتف فيه مشكلة فنية تحتاج لعلاج أو فيه خاصية ممتعة تحتاج إلى تحسين زائد، هذا هو حال المادة المصنعة.

ولو طبقنا هذا المثال على الإسلام لوجدنا أغلب الوحي المطهر نزل لأسباب نزول من الواقع، ونادره نزل ينشئ حكما من عند نفسه استقلالاً، ثم وجدنا علماء الإسلام منذ بدأ عهد تدوين العلوم الإسلامية عام مئة هجرية وكسور، لا يؤلفون كتبًا إلا لحاجة داعية لها من انحراف عن الصراط المستقيم أو لتحسين ما تم تأليفه، هذا هو حال كل تواليف علماء الإسلام في تاريخنا القديم، ولم ينجحوا في هذه الانجازات إلا بعد أن نجحوا في معرفة الحاجة الداعية للتأليف، ففهموا أولا مقاصد المنحرفين أو وجه حُسن المحسنين، وشخصوه بدقة ثم ذهبوا إلى الإسلام ليستنبطوا هدايته المتعلقة بتصحيح خطأ أهل الإنحراف أو تحسين محاسن أهل الإحسان، المشكلة الخطيرة في عصرنا الحديث أنه حدث تحوير وانقلاب في عقل النخبة المهيمنة والمتخصصة في تشكيل عالمنا أو في فهمه وتوصيفه، مما يجعل هناك اختلافات بعيدة بين (الحاجة الداعية للتصنيع) في عصرنا وبين (الحاجة الداعية للتصنيع) التي كانت سائدة في العصور الوسطى والعصر ما قبل الحديث، هذا التحوير والانقلاب لم يقابله تجديد ومرونة في عقول علماء ومفكري الإسلام لكي يتابعوا حركته وتطوره ويلمسونه ويشخصونه بدقة، ولكن ظلت عقولهم جامدة لا ترى غير (الحاجة الداعية للتصنيع) التي كانت موجودة في عهد أسلافنا، فمثلاً: كان في عهد أسلافنا الانحرافات تتلخص في انحرافات أهل البدعة على مختلف أصنافهم، وانحرافات المقلدين، وانحرافات أهل الفلسفة والأديان، أما في العصر الحديث فيتلخص الانقلاب في انزياح (الفلسفة والأديان) عن مكانها لحساب العلم الاجتماعي، فبعد أن كانت الفلسفة والأديان هي الموضوع الرئيسي للعقل المنحرف في العصور الوسطى وكان العلم الاجتماعي فرعًا منها  وفي داخلها يتفكرون فيه وهم يفكرون فيها؛ صار في العصر الحديث العلم الاجتماعي هو الموضوع الرئيسي في العقل المنحرف، والفلسفة والأديان انتقلت إلى حافّة هذا العقل.

ومهما تحدثنا عن جدل بينهما واشتباك وتداخل في العقل الحديث، فهو جدل في إطار هذه النسبة المكانية، ففي العصر الحديث يُسمح للفلسفة والأديان أن تدخل في جدل مع العلم الاجتماعي لكن من وهي على الحافة، لا تجاوز مكانها الذي حدده لها العقل الحديث، وكتلك النسبة المكانية (مع اختلافات نابعة من الجنس والنوع) آل أمر العلوم الطبيعية مع الفلسفة والأديان أيضًا في العصر الحديث.

ولا شك في أن متابعة هذا التحوير وتشخيصه أمر في غاية الصعوبة، إلى درجة أنني لو فكرت في أن أكتب مقالات أُضمِّنها براهين تبيّن وتشخص هذا التحوير والانقلاب (كحاجة داعية إلى التصنيع) ثم أضمنها براهين تبين وجه ارتباط الإسلام (كمادة خام) بتلك (الحاجة... ) لكي أرشد مفكرينا وأقنعهم بضرورة تصنيع (المادة الخام) حتى تلائم وتشبع تلك (الحاجة...) لوجدت نفسي مضطرًا إلى الحديث بالوصف والتحليل لفكرة تتلوها فكرة ثم تتلوها أخرى وهكذا دواليك، في ترابط تام، الأمرَ الذي يُعقِّد تلك المقالات جدُا ويجعل الأدلة التي تحتويها بالغة الطويل والتركيب والتراكم، الأمر الذي يجعل أمثلتي عليها التي تحولها من مفاهيم مجردة فارغة إلى مفاهيم ذات معنى، قليلة لا تناسب مقدار طولها وتركيبها في أفرادها وترابط بعضها ببعضها الاخر، الأمرَ الذي يجعل التقاطَها وفهمها من جهة من أخاطبهم يحتاج منهم إلى دراسة تراكمية ذات توالي معين، أي: دراسة ذات كتب مدرسية محددة من جنس كمية الدراسة التي تؤهل لدرجة علمية أكاديمية، الأمرَ الذي يجعل طموحي وهدفي من الحجاج في تلك المقالات غير واقعي ولا يناسب حاجة الجمهور الذي أستهدفه، وربما كان هذا المطلب هو من جنس الدليل الذي يسميه "ريمون بودون" بالدليل الذي لا يُدرك فوريًا ويضرب له المثل بنظرية أرخميدس.
الله سبحانه يهدي العلماء المنتجين، إلى فهم ما يجب عليهم فهمه وتعلم ما يجب تعلمه في كل من الإسلام (كمادة خام) و (الحاجة الداعية للتصنيع في زمنهم) مما يؤهلهم إلى إحداث جدل واشتباك بينهما لاستنباط الإسلام (كمادة مصنعة) وهو يعرّفهم ويعلمهم ذلك في وقت مبكر من حياتهم لا وقت متأخر كما سيأتي بيانه عند الحديث في المقال القادم عن السؤال التالي: كيف يتعلم هؤلاء العلماء المنتجون ما يجب عليهم تعلمه بدون معلم متمكن نجح في تعليم نفسه أولاً، حيث هم يخرجون من رحم بيئة كل علماءها لم يوفقوا إلى الصواب في فهم ما يجب فهمه؟
------
مقدمة القراءة الجماعية لكتاب تفسير القرآن الكريم لابن باديس (4).
تحدثنا عن كل من الإسلام كمادة خام، ثم الحاجة الداعية إلى التصنيع بشقيها، ثم الإسلام كمادة مصنَّعة، وأدلة هذا التقسيم كثيرة منها قول الله {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فالله ورسوله هما الإسلام كمادة خام، والمردود هو (الحاجة الداعية إلى التصنيع بشقيها) ونتيجة الاستنباط هي الإسلام كمادة مصنعة، وتحدثنا عن العلماء المنتجين، والعلماء التقليديين، فالعلماء المنتجون هم العقليون، والعلماء التقليديون هم العاطفيون.
 السؤال الآن: كيف يتعلم هؤلاء المنتجون العقليون الصواب في الثلاثة أركان السابقة تلك، وهم أبناء البيئة العلمية المتخلفة ذاتها أو بتعبير اليوم، كيف ينجحون في التفكير خارج الصندوق، خارج الصندوق الرسمي المُعتدّ به من قِبَل البيئة العلمية المتخلفة؟ الجواب هو أن كل الحقائق المنفصلة "المعلومات" اللازمة لفهم الصواب في الأركان الثلاثة هي موجودة وشائعة في الكتب التي تدرس في البيئة المتخلفة وبالأخص في الكتب الأمهات، فأمهات كتب العلوم الشرعية المعتد بها في بيئتهم المتخلفة، وأمهات كتب العلوم الاجتماعية المعتد بها في بيئتهم المتخلفة، لكن العقليين فقط  يحتاجون أن يقرؤوها بضوء مختلف عن لأضواء التي تقرأها بها البيئة المتخلفة، هنا يرد سؤال آخر كيف يتسنى للعقليين تسليط هذا الضوء المنير على المعلومات؟ الإجابة هي أن اختلاف الأضواء تنشئه النظارة التي يرتديها الدارس، وبتعبير آخر "المنهج" فالإجابة هي "المنهج" هنا يرد سؤال آخر، ما المنهج؟ وكيف يتعلمه العقليون؟ يا لله إنه سؤال خطير ، ولكي نعلم حجم خطورته قبل الجواب عنه، سنتعرف على حقيقة كل من المنهج والحقائق المنفصلة "المعلومات" عن طريق الإشارة إلى جسم كل منهما، الجسمُ هو كلُّ محددٍ بأول وآخر وما بينهما، بحيث لا تذهل عن رؤية أوله إذا وقفت بنظرك على آخره، والعكس كذلك، كما لا تذهل عن رؤية ما بينهما ولو رؤية إجمالية غير تفصيلية، فجسم الدولة المصرية الكل يعلم أن له حدود بعدها لا يتاح فيها حرية الانتقال بدون أوراق رسمية خاصة كما أننا نعرف أن داخل جسم الدولة محافظات كثيرة، وهكذا عقلنا ولمسنا جسما للدولة المصرية، فالمعلومة أو الحقيقة المنفصلة لها جسم مختلف عن جسم المنهج، فمثلا هذه معلومة حول آية قرآنية قال الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} يقول الفضيل بن عياض في تفسير قوله { أَحْسَنُ عَمَلًا} "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا"  ها أنت فهمت المعلومة بعقلك وتستطيع أن تحدد أولها وآخرها كتحديدك لكل جسم تعلمه،أما المنهج فجسمه أطول وأشد تعقيدا، مثال المنهج هو المرحلة العلملية التي ندرسها لنيل درجة علمية كدرجة البكالريوس أو الماجستير في أي علم أو فن، نجد الكلية أربع سنوات بترتيب واجب الالتزام وكل شيء في مقررات الأربع سنوات واجب الالتزام بترتيبه، فآخر مقرر في السنة بعد المقرر السابق له، وآخر فصل في الكتاب بعد الفصل السابق كله وهكذا دواليك، كل ذلك ليؤهلك إلى وضع أول خطواتك على سلم البحث العلمي في هذا المجال (بعد أن تنتهي من نيل درجة البكارليوس) هذا أمر خطير ، إذن مطلوب من الدارس المستنير أن يرى بعقله جسم منهجه بوضوح، فبعد أن نجح كل أحد في رؤية جسم المعلومة سابقة الذكر رؤية صحيحة وهي لاتشغل غير سطر أو سطرين من ورقة، صار الدارس الآن مطالب أن يرى جسم منهجه الذي يشغل أربعين أو خمسين كتابا يتعلمهم في أربع سنوات وبترتيب واجب الالتزام، يرى أوله من آخره في ما بينهما، دون أن يذهل عن أي من تلك الأطراف الثلاثة، الأول والآخر وما بينهما، هذا يحتاج إلى نظر طويل ومعقد وركَّز في التفاصيل الداخلية البينية.
 في مقالنا سنجد أن العلماء العقليين بعد أن تمكنوا من رؤية المعلومات المنفصلة الشائعة في بيئتهم؛ لا يجدون معلمًا يدلهم على ترتيب مستمر متواصل يُلزمهم به ليُعلِّمهم "منهجا" وسبق أن قلنا إن الضوء المختلف الذي يلقيه العقليون على المعلومات لا يتأتى إلا بمنهج، والمعلومات أمامهم قريبة المنال يمرون عليها منذ نعومة أظفارهم، لكن المنهج لا يمرون عليه قط، ولا يتعلمونه لحاجته إلى دراسة طويلة الأمد ذات ترتيب مستمر دقيق، وهذا النوع من الدراسة لا يتعلمه الدارس بالصدفة كتعلمه المعلومات بالصدفة،  لا يتعلمه بالصدفة، لا بد من إنسان آخر غيره يرسم له المنهج بعد أن يكون أتقنه هو، ليلقنه إياه كما يفعل القائمون على السياسات التعليمية في كل العلوم في كل الجامعات مع رواد الكليات الجدد.
نحن الآن علمنا الفرق الخطير بين جسم المنهج المحتاج إلى ترتيب مستمر لازم عمدي ولو كانت دراسته تستغرق أربع سنوات أو أقل، فكيف بنا إذا علمنا أن المنهج المحتاج إليه العقليون يستغرق دراسة العمر كله (أي عمر الدارس كله!) لا شك سيكون أمر تعلم جسمه أصعب، لا سيما ونحن ذكرنا في المقالات السابقة وجوب تعلم "المنتجين العقليين" هذا المنهج في بداية حياتهم العلمية لا أواخرها (إذ لو التقطوه في آخرها لصار علمهم به قليل الجدوى جدا ولا يُسمى معرفة علمية) فيا لله هذا أمر خطير، كيف يتعلمونه في بواكير حياتهم وجسمه تستغرق دراسته حياتهم كلها؟! فكيف أعلم أنا قدري بعد عشرين سنة من الآن؟! هذا مستحيل بلا معلم، والبيئة في ظلام دامس، فلا يوجد إذن سوى الله تعالى يعلمهم هذا المنهج بواسطة الإلهامات والحدوس رفيعة المستوى (ولا أعلم الفرق بينهما) يعرفون من عالم الأفكار أشياء يرون أوائلها في أيديهم ويرون أواخرها تلوح إليهم بشكل مجمل غامض، فيسيرون في مسارات أبحاثهم يحدوهم الأمل في أن يجمعوا المعلومات اللازمة مسلطين عليها الأضواء اللازمة لكي تملأ لهم ما بين الأوائل والآواخر فيتأكد لديهم (رويدا رويدا) أثناء وبعد سيرهم البحثي في حياتهم، صحة تلك الآواخر فيتأكد لديهم (رويدا رويدا) أثناء وبعد سيرهم البحثي في حياتهم، صحة تلك اﻷواخر واستقامتها مع أوايلها بهدي مما بينها من محتويات بينية، او يتأكد لديهم خطأ أي من هذه اﻷواخر، فالله إذن يعرفهم تلك اﻷواخر بشكل غامض يحدوهم إلى السير في عوالم المعلومات والقوانين على هدي من ذلك الغامض ليكون لهم كسب وإرادة وجهد في اقتناص هذه المحتويات البينية، وذلك هو جوهر العلم كما يقول "برتراند راسل":" إذا كان لك خيال علمي خصب استطعت التفكير في عدد هائل من الأشياء التي قد تكون صحيحة، وهذا هو جوهر العلم: إنك تفكر أولا في أشياء قد تكون صحيحة ثم تنظر بعد ذلك لترى ما إذا كانت صحيحة بالفعل، أو ليست صحيحة بوجه عام"
الله أوجب على نفسه ذلك التعريف للعلماء المنتجين العقليين، وهو يشمل كل المستيرين الذين يبغون لمجتمعاتهم النهوض من تخلف والاستنارة من ظلام حتى لو كان هذا المستنير كافرا بالله أو ينكر وجوده! فهي إذن سنة كونية يجريها الله في خلقه لا يعوِّقها ارتباطات أخرى كالكفر به، لكن الله يخص المستنير المسلم بتنوير شرعي مضافًا إلى التنوير العقلي (شرع في عقل) لا يمكنه الاستنارة بدون هذه الخلطة مهما ظن إمكانية اكتفاءه بالعقل كالكفار، والدليل على هذا الإيجاب قول الله تعالى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }  وقول النبي "كل داء وله دواء" فما دام أن الله هو الذي حلق ظلام المجتمعات وما دام الله قضى أن المنقذين لها هم قوم منها لا من خارجها فقد وجب عليه إذن أن يهدي، وإلا لاستحال أن ينجح العقليون في النهوض بمجتمعهم، لأن لكل جماعة عقل خاص بها وإن اشتركت مع عقول الجماعات الأخرى في خواص كثيرة، ولا يمكن النهوض بجماعة ما، ما لم يستنير المستنير الذي يحمل عقلها هي خبيرا بخصوصيات هذا العقل { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } خلق الظلام فوجب عليه خلق النور كما تنص الآية الكريمة، من أمثلة من استنار في الإسلام كمادة خام، في عصرنا هما الطاهر بن عاشور والدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني، ومن أمثلة من استنار في الإسلام كمادة مصنعة في عصرنا كل من المشايخ محمد عبده ورشيد رضا ومحمد دراز وعبد الحميد بن باديس، وكل منهما داخل في حديث نبينا "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها"  لكن أهل المادة المصنعة نظرا لتخصصهم فيها على حساب تخصصهم في كتب التراث هم في المرتبة الأعلى من وصف التجديد بما لا  أعلى منها، هم أعلى من أهل المادة الخام رغم علمهم بكثير من المادة المصنعة لكنهم لم يتخصصوا فيها، ومعظم تخصصهم في كتب التراث يستنقذون منها الإسلام الخام من بين ركام الخرافات والشوائب  التي أحاطت به في ذلك التراث، ويمكننا تمثيل العلاقة بينهما بفريقين يشتركان في خلق شجرة الحياة، أحدهما يستنفذ معظم مجهوده في حياته في حماية بذر هذه الشجرة فقط أي يعملون على الحفاظ على إمكانية قيام شجرة الحياة بالقوة لا بالفعل، بمعنى الحفاظ على البذرة مُعدة لمن يأتي يجعل منها شجرة حياة (هذا الفريق هم أهل المادة الخام) وثاينهما يستنفذ جهده في دراسة خواص هذه البذرة لا ليحفظها في ذاتها فقط ولكن لصنع شجرة الحياة منها فيضنعون الشجرة بالفعل.

تعليقات

المشاركات الشائعة