كيف نصبح روادًا للنهضة؟

فوائد على محاضرات الدراسات القرآنية للدكتور طه العلواني (3)

أحد الإخوة طرح هذا السؤال لنفكر فيه تفكير جماعي فكانت هذه مشاركتي
كيف نصبح روادًا للنهضة؟
بقلم- خالد المرسي
سؤال يشغل بال الصغار والكبار، وهو: كيف نبني وعينا ونحصل عقلاً منفتحًا تجديديًا؟ أو بتعبير آخر: كيف نحصل العقل العلمي؟ والإجابة ببداهة هي أن تدرس عند أهل العقل العلمي لتصير مثلهم فالمُعلم هو الأب الأدبي، والإنسان ابن ما تعلم.
ولكن للأسف في المجتمعات المتخلفة كمجتمعاتنا تتشوه أدوار العلم وميكنازماته (يعني ماهيته وطبيعته وآلياته) في نظر أهله، فلا يُعرف بدقة أهل العقل العلمي من أهل العقل الفطري غير العلمي، ولكن لا بد من محاولة وجهاد في سبيل الحقيقة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}(العنكبوت:69)
أهل العقل العلمي رواد النهضة يسمون في العلوم الاجتماعية بأسماء متعددة كفئة الانتقاليين، وهم المقصودون بقول الله تعالى:{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(آل عمران:104) وهي الفئة التي تحمل لواء النهضة في مجتمعاتها المتخلفة وتسعى في النهوض بأهل هذه المجتمعات، وهذه الفئة فريدة من حيث البناء النفسي والعقلي، فتزداد لديها الحاجة إلى الإنجاز، والمخاطرة المعتدلة، والعقل المنفتح الذي لا يقبل فكر بلا مناقشة وتفكير في جزئياته أو بتعبير آخر: (معاناة الفكر) يعني يمارسون التفكير الشخصي، ولا يكثرون من القص واللصق، والتحدث بالعموميات المجملة غير المبينة.
وهذه الفئة تنقسم إلى طبقات: (أهل الرأي العام المستنير، والباحثون، والعلماء) فالفريق الأول غير متخصص في العلوم الفكرية، والفريق الثاني متخصص، والثالث أعلاهم، وتجمعهم في الأصل مصادر فكرية واحدة ينهلون منها قبل أن ينقسموا بحسب إمكانياتهم ومؤهلاتهم، وهذه الفئة يجب أن تبدأ بما بدأ الله به كما في الحديث الشريف عن النبي محمد(صلى الله عليه وسلم): " ابدأوا بما بدأ الله به" ما لم يكن قد بُدء به وانتُهي منه ورسخ في المجتمع، وقد بدأ الله بالتوحيد الذي هو (من/إلى) علم الاجتماع الإسلامي كما يقول الشيخ "محمد رشيد رضا" عن علم الاجتماع الإسلامي: " لَا يَعْلُوهُ إِلَّا الْعِلْمُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، بَلْ هُوَ مِنْهُ أَوْ مِنْ طُرُقِهِ وَوَسَائِلِهِ[1]"
فيبدأون بفهم التصور التوحيدي المجرد، ثم فهم واقعهم، ثم يدرسون كيف يصلون بواقعهم ويصبغونه بالتصور التوحيدي، وهذا يتطلب دراسات نظرية نظرية، ودراسات نظرية تطبيقية ثم التنفيذ، فمثال النوع الأول من الدراسات كتاب التوحيد ومبادئ المنهجية للدكتور طه العلواني، وخصائص التصور الإسلامي لسيد قطب، والرؤوية التوحيدية للعالم لمرتضى مطهري، وفلسفتنا لمحمد باقر الصدر، وأمثالها من دراسات، والنوع الثاني من الدراسات هو تطبيق ما في هذه الكتب على جزئيات الحياة المعاصرة وكلياتها تطبيقا نظريا، أي: معايرتها بمعيار التصور التوحيدي، وهكذا يكون الوضع في كل مقصد من المقاصد القرآنية العليا التي بدأ بها نبي الله وهي: التوحيد والتزكية والعمران والأمة والدعوة.
ففئة الانتقاليين عليها أن تدرس هذه الدراسات وتتربى عليها لتبدأ من حيث انتهى أهلها، إذن فهم يبدأون بما بدأ الله به – ما لم يكن قد بُدء به - ويبدأون من حيث انتهى إليه أساتذتهم الرواد من أهل العقل العلمي الذين بدأوا بما بدأ الله به ولم ينتهوا منه على مستوى نوع الدراسات الثلاثة.
وهذه الفئة يلزمها أن تبتعد عن محاذير موجودة في واقعها المتخلف فتبتعد عن أهل التسطيح – وما أكثرهم في زماننا – وأهل التسطيح يعرفهم د.طه العلواني بقوله:"التسطيح هو عملية معرفية تستهدف التعريف بمظاهر الشيء أو السطح الخارجي له، ومن هنا نسبناها إلى السطح. فالموضوع الذي يُعرض عرضا سطحيا لا يقدم عرضه بذلك الشكل تصورا كاملا لسائر أبعاده، بل يصور سطحه الخارجي وحده، وسطح الشيء جزء منه لا كله"[2] ونحن نقرأ في القرآن الكريم آيات كريمة تسبر أغوار الظواهر محل الكلام كآيات الغزوات في سورة آل عمران والأنفال والتوبة، ونقرأ كيف أن الله –تعالى- عرض لأعماق الأفعال وجذورها في النفس والعقل في أحلك الظروف ظروف القتال، وآيات أخرى يعرض فيها لأصناف الناس ومقاصدهم، وكلها تنبه إلى ضرورة سبر أغوار الظواهر وعدم الاكتفاء بعلم سطوحها (على أهميته) وفي عصرنا الحاضر يعجز البشر بمن فيهم أهل العلوم الإنسانية الغربية عن سبر أغوار الظواهر الإنسانية رغم سعيهم الحثيث إلى ذلك؛ لافتقادهم مناهج البحث الصادقة – لكن سطحيتهم هي سطحية السادة المجتهدين الذين لم يقصروا في سبيل البحث عن الحقيقة بينما سطحية قومنا هي سطحية الدجاجلة أو المقصرين الكسالى كل بحسب حالته - ولا يستطيع هذا النوع من البحث غيرُ المسلمين بشرط أن ينجحوا في اكتشاف المناهج الإسلامية بواسطة الثلاثة أنواع السابق ذكرها من الدراسات.
أما كيفية بناء هذا الوعي عمليا في الناس أي: في دعوة من يؤهلون للريادة في المستقبل تكون بدعوتهم وربطهم بدراسات أهل العقل العلمي فيهتمون بها قراءةً ودراسةً وتعليقًا وإضافةً ليفهموهم ويبدأوا من حيث انتهوا، نعم يمكننا الاستفادة من كل الناس حتى الشباب الصغار، ولكن دراسات هؤلاء يجب أن تؤخذ بجدية زائدة عن جديتنا في الاستفادة من غيرهم وبدون أخذ هذه الدراسات بقوة وبدون الاعتماد عليها –وحدها- في بناء عقولنا، لأن بناء العقول يكون بالمعرفة والعلم المتراكم المترابطة أجزاؤه وعناصره ببعضها في بناء فكري واحد متماسك متناسق من شأنه أن يقود إلى فتوح في العلم ويخرج رواد حقيقيين، وهذا الترابط المتناسق لا يطيقه غير أهل العقل العلمي- أقول: بدون هذا الاعتماد لن تحدث نهضة أبدا وسنظل ندور في خلقات مفرغة نتعلم (جهلاً أو معلومات) نظنها علمًا وما هي بعلم، ونسعى إلى أهل العقل الفطري غير العلمي، وأهل التسطيح، وأهل الفقه البقري بمصطلح د. طه العلواني، وأهل الفكر البقري، نسعى إلى هؤلاء ظانينهم أهل عقل علمي وليسوا كذلك.



[1] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج:7،ص:499.

[2] طه العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ص:173.

تعليقات

المشاركات الشائعة