فقه تلقي الدين و الفكر بين أهل المعلومات وأهل المعرفة (العلم).

فقه تلقي الدين و الفكر بين أهل المعلومات وأهل المعرفة (العلم).
بقلم/ خالد المرسي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
نحن في بلادنا المتخلفة نعاني من مشكلة خطيرة وهي توقُّفنا عند مرحلة المعلومات (مجتمع المعلومات الذي نعيشه) ولم نتجاوزه إلى ( مجتمع المعرفة أو العلم) وسيأتي بيان الفرق بينهما ،
وهذه مشكلة عامة على مستوى المعارف كلها في بلادنا، لكن ما يهمني في هذا المقال هو الكلام عن المشكلة على مستوى التعليم الديني العام ، والكلام يشمل مستويات التعليم الرسمية والأهلية من كافة الاتجاهات الإسلامية.
رصد العلماء في واقع الدعوة السلفية وهي عماد الصحوة الإسلامية المعاصرة خللا في مصادر تلقي الدين والفكر وقع فيه كثير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة وهو تلقي علم الدين من غير المؤهلين علميا وعقليا ونفسيا، يقسم الدكتور "أحمد بن عبد الرحمن القاضي" المتصدرين بغير تأهيل إلى قسمين بحسب صفاتهم (1- قصور العلم، وترؤس أنصاف الفقهاء.
2-• قصور العقل، وتصدُّر حدثاء الأسنان.
)(1) وسأكشف في هذا المقال عن بعض الأسباب التي أوقعت هؤلاء المتعلمين في هذا الخلل وأبين الفقه الصحيح الذي يحصن المتعلم تحصينا فكريا ويعصمه من الوقوع في مثل هذا الخلل. وهذا الخلل انتشر الوقوع فيه في سابق الزمان (2) .
ومثل هذا البيان هو من أهم الدوافع إلى الهداية وكان من المشروع عند سلفنا الصالح معرفة طريق الشر لا لقصده وارادته ولكن للتحصن من الوقوع في براثنه كما قال الشاعر:" عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه *** ومن لا يعرف الشر من الخيريقع فيه" .
مقدمة عامة قبل البيان:
إن أخص خصائص الدين الإسلامي التي تميزه عن اليهودية والمسيحية المعاصرة - التي حُرف أغلب ما في كتبها المعاصرة -، وعن باقي الديانات الوضعية هي أن فقه الدين يعلمه العلماء ويتلقاه منهم طالبوه، ومن هنا اهتم علماء الإسلام بوضع ضوابط يعرف بها طالب الفقه العلماء من بين الدخلاء عليهم والمتشبهين بهم وليسوا منهم، لكن لما شاع الجهل في بلاد الإسلام وجرفتها نوائب الدهر كانت تتبدل الأوضاع الاجتماعية وتنقلب؛ فيضطر علماء كل عصر إلى بيان ما استجد والكشف عن موضع الخلل فيه والتي ربما لم يتكلم عنها بخصوصها علماء الأزمان السابقة عليهم لأنها لم تقع في زمانهم ( وإن تكلموا على الأصول العامة التي يُوزن بها الأحوال ويُعتصم بها في الفتن)، فمثلا: كان الوضع الاجتماعي في القرون الخيرية التي زكاها نبينا – صلى الله عليه وسلم – يسمح لأهل هذه القرون أن يعدوا اشتهار ذكر العالم في الناس ( ناس هذه القرون) دلالة قاطعة على علم وفضل المشهور ولذلك نص علماء هذه القرون على اعتبار الاشتهار هذا دليلا يعرف به المتعلم أولى الناس بالقصد ليتعلم منه كما قال الإمام" الآجري" في صفة من عُرف بالعلم أن" إذا نشر الله له الذكر عند المؤمنين أنه من أهل العلم"(3) لكن في عصور لاحقة تبدلت الأوضاع الاجتماعية وصارت الشهرة بين المؤمنين لا تحمل أي دلالة( في ذاتها) على علم الرجل المشهور كما يقول الإمام "الشوكاني" في أهل زمنه من بعض العامة الذين خُدعوا في بعض العلماء لما انبهروا من زيهم والاجتماع عليهم وتصدرهم للفتيا والقضاء حتى صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة.(4)، حتى أن هؤلاء المشهورين المقصودين في زمنه بلغوا مبالغ عليا في سعة الاطلاع المعلوماتي حتى قعدوا مقاعد التدريس والقضاء والإفتاء الرسمي! وكان الأئمة المجددون في زمنهم كابن دقيق العيد وابن أبي العز الحنفي ونحوهم يخافون القتل أوالحبس أو الإهانة إذا صرحوا بالحق الذي يخالف ما عليه هؤلاء المشهورون وما عليه تلامذتهم وطالبوهم، وكانت لهم حيل كثيرة في الإعلان بالحق يتفلتون بها من ضرر مخالفيهم(5) .
وبعد هذه المقدمة نعود إلى الموضوع فأقول: ما هي العلة التي تحققت في الأصناف السابق ذكرها من كلام الدكتور "أحمد القاضي" فاستحقوا بها الذم والتشنيع؟ هل هي نقص المعلومات؟ - قطعا – لا؛ بدلالة أن العلماء نصوا أن على المسلم التصدر للناس لدعوتهم إلى الله بما تعلم في درس سمعه أو كتاب قرأه، ويقف عند ما سمع من الأمور الواضحة حتى قالوا فيما هو أدق وأعمق من ذلك وهو (الفتوى) إنه يجوز للجاهل أن ينقلها كما سمعها، إذن فالعلة التي جعلتهم يستحقون التشنيع هي قلة المعرفة (العلم) لا قلة الاطلاع بل هم على قدر واسع من الاطلاع على الأقوال والمذاهب والكتب عموما! وقد سبق أن منهم من وصل إلى منصب التدريس والقضاء والافتاء، فما الفرق بين المعلومات والمعرفة (العلم)؟ يقول الدكتور محمد الجوهري: (هذه المعلومات الهائلة الحجم، المتسارعة الإيقاع، المتاحة عند أطراف أصابع كل إنسان، يمكن أن تتحول إلى معرفة، أي تصب في مقولات، وتشير إلى توجهات، ويمكن أن نستخلص منها تحليلات، فنتائج..إلخ)(6)، إذا فالمعلومات هي ما يستطيع معرفتها كل الناس لأن معرفتها متعلق ب (الصدق والكذب والمثابرة على الاطلاع) أي الأمانة في النقل والاجتهاد وقليل من الفهم الذي لا يكاد يخلو منه أحد، أما المعرفة (العلم) فهو ما لا يستطيع بلوغه إلا بالفهم الدقيق والفكر الثاقب، والخلل يأتي من سقم الفهم للمعلومات في أفرادها – أي المعلومة الواحدة - فلايستطيع فهم المراد من المعلومة أو مراد من تُنسب إليه منها، وفي مستوى ثان قد يكون سقم الفهم متمثلا في عدم التقاط العلاقات الصحيحة بين المعلومات المختلفة وعدم فهم صلتها ببابها أو بأصلها أو بنظامها العام التي هي مشمولة فيه، وفي مستوى ثالث قد يكون سقم الفهم في التطبيق على الواقع المعاش وفي تنزيل المعلومات ( مفردة أو مركبة منظمة) في تطبيقها المعاصر، فلا يصل الرجل بفهمه إلى العلاقة الحقة بين ما يعلمه وبين ما يحتاجه واقعه. وتلك المستويات الثلاثة تكلم عنها علماؤنا في كتبهم الأصولية كثيرا كابن تيمية والشاطبي ونحوهم محذرين منها وممن وقع فيها من معاصريهم وسابقيهم.
فالإنسان الواقع في هذه المزالق سيصل إلى نتائج وتحليلات ومقولات سيئة لا يُعتد بها في نظر أهل المعرفة (العلم) والرجل العالم لا ينفع الناس إلا من جهة كونه من أهل المعرفة إذ رسوخه في هذه الجهة يتيح له أن يتكلم بالكلام المحكم الذي يشبع حاجة أهل زمانه وقاصديه ويمدهم بالتحليلات والنتائج المعتبرة في نظر أهل المعرفة وإلى ذلك يشير حديث نبينا –صلى الله عليه وسلم - ، فيما رواه عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم ?قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس") رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وبفرض ضعف سنده فمعناه صحيح وقد استدل به أئمتنا في مثل هذا السياق،
لذلك أيضا نجد أهل الجهل الذين يتخذونهم الناس رؤوسا هم من أهل المعلومات أهل الاطلاع وقد يتسع اطلاعهم فيألفوا الكتب(7) ، وقد تجد بعضهم يصل إلى مرحلة التحوير أثناء تأليفه أو تدريسه فتجده يتكلم بالألفاظ الاصطلاحية " الأكاديمية" ويفرع تفاريع على أصول كما يفعل أهل العلم وهذا النوع أشار إليه الإمام الشاطبي فيمن أشار إليهم،و كما أشار له حديث نبينا – صلى الله عليه وسلم – قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )أخرجه الشيخان، فهؤلاء الرؤوس هم المشتغلون بالعلوم الشرعية ( تأليفا وتدريسا وقضاء وافتاء) إذ لا يُتصور وجود قوم عقلاء يعمدون إلى أحدهم فيتخذونه رأسا يتلقون منه علوم الدين إلا إذا كان قد تلبس مسبقا بلباس أهل العلم فاغتروا فيه وخُدعوا فاتخذوه رأسا كما يبينه مواطن استدلال العلماء بهذا الحديث كما استدل به الإامم الشاطبي في الحاشية رقم (2)، ولذلك حينما تقرأ للعلماء قولهم "قد يأتي في آخر الأمة من هو أفهمُ ممن تقدم، ولكن بقلة" تجدهم نصوا على "الأفهم" لا " الأكثر اطلاعا أو الأحفظ".
وإلى هنا يكون القارئ قد عرف أصل هذا الخلل ومنشأه وتفقه فيه مما ييسر عليه تفاديه أثناء طريقه العلمي، والحقيقة أن أغلب المتعلمين لا يسلم من الوقوع في براثن هذا الخلل في بدايات طريقه – بنسب مختلفة - كما هي سنة الله في الابتلاء - حيث أننا أبناء المجتمع فلا بد من نتلوث ببعض مشكلاته - ، فلا يحزن ولا يضره ما دام أنه لا يقصد الوقوع فيه، إلا أن شأن المتعلم الطبيعي أن يهدف إلى سد نقصه وإلى التعلم من أخطاء الماضي فهو في إحدى مراحل تعلمه سيوفقه الله إلى مطالعة كلام من نبه إلى هذا الخلل، وفي ذلك الوقت يلزمه العمل بما استجد له من معرفة لأن "هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن محمد بن سيرين – رضي الله عنه -، وسيُسئل يوم القيامة عما علم وهل أعمل فكره فيه وكيّف نفسه بمقتضاه أم أنه أعرض وأخلد إلى مألوفه القديم وأهمل أو عاند؟، فإذا استقام واستفاد بما رزقه الله من علم لم يضره وقوعه الماضي في هذا الخلل بل سيبقى له انتفاعه بالمعلومات الصادقة التي عرفها من أهل المعلومات وسيبقى له النتائج والتحليلات البسيطة التي لا تحتاج إلا للفهم الموجود لدى أغلب البشر، أما إذا لم يستفد مما استجد له من علم فسيظل في الظلمات ظلمات أهل المعومات يتخبط - وكذلك على نسب مختلفة - حتى يفقد استعداده للعلم ويتدهور حال عقله وطبعه أكثر كلما أصر على الإهمال والعناد وعدم التفكر- على ما يقرره علم النفس التعليمي -.
نسأل الله أن يهدينا طريق أهل العلم ويرزقنا علما نافعا آمين
والحمد لله رب العالمين.

(1) بحث بعنوان "تجديد الخطاب السلفي".
(2) هذا الخلل هو أن يعدوا الناس فلانا في مرتبة أهل العلم وهو في الحقيقة ليس منهم والسبب كما يقول الإمام الشاطبي:" يرجع إلى غلط العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله} [القصص:50]وفي الحديث:"  إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا".....فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظنِّ الجهل علما؛ فليسوا من الراسخين في العلم، ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حظّ لهم في العلم؛ فلا اعتراض بهم." الموافقات ج1: ص 99 تحقيق: مشهور حسن سلمان.
(3) كتاب "أخلاق العلماء" باب بعنوان" صفته إذا عُرف بالعلم"
(4) انظر كلامه كاملا في رسالة "القول المفيد في أدلة الإجتهاد و التقليد" ضمن كتاب " الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية" ص 223 و 224.
(5)وبذلك نعرف أن الشهادات الرسمية والمناصب الرسمية المعاصرة لا دلالة لها في ذاتها على العلم، وأحد كبار الضلال المقلدين في مصر ممن ذاع صيته في الفضائيات قد استدل منذ أيام على علمه وفضله بأنه "تدرج في التعليم الأزهري منذ طفولته حتي صار حاليا أستاذا ورئيسا لقسم ... بكلية .. جامعة الأزهر بالقاهرة وكان يشغل من قبل عميدا لكليتي الدراسات الإسلامية والعربية بأسوان ودمياط ورئيسا لقسم ... بكلية الشريعة بالكويت, وهو حائز علي العديد من الجوائز الدولية والمحلية ويعتز بجائزتي النيل والدولة التشجيعية, وله العشرات من الكتب الفقهية الموسوعية والمئات من الأبحاث العلمية وحياته كلها نذرها للفقه الإسلامي قراءة وتأليفأ" وهذا هو نص كلامه عن نفسه!.
(6) موسوعة علم الاجتماع الجزء الأول ص: 10.

(7) يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن هذا الصنف :" وأمثال هؤلاء يخطون بضعة كتب ( ” ويرص كلاماً فوق كلام تحت كلام ” على رأي صلاح عبد الصبور ) تُنشر مع مئات الكتب الأخرى التي تصدر ويقرؤها البعض ثم تموت" رحلتي الفكرية؛ في البذور والجذور والثمر - ص: 166

تعليقات

المشاركات الشائعة