بين ما يُدعى علوم اجتماعية وما يُدعى علوم إسلامية.



بين ما يُدعى علوم اجتماعية وما يُدعى علوم إسلامية.
احدى أساتذتي  من المتخصصين في العلوم الاجتماعية ذات المرجعية الإسلامية،  قالت إنه يجب على طالب العلم الشرعي أن يكون ملما بخريطة العلوم الاجتماعية لا أن يكون متخصصا فيها فعلقت عليها  قائلا: هذه اشكالية كبيرة عندي، يقيني الخاص فيها أنه يجب الجمع بين العلمين باستمرار فلا يصح وجود ثنائية (علم اجتماع وعلم شريعة) فلا الأول علم اجتماع (وإن كان فيه بعض العلم عن الاجتماع، ولا الثاني علم شريعة وإن كان فيه بعض العلم عن الشريعة) ولكن المازج بينها هو الذي يصح تسميته بطالب أو عالم اجتماع و شريعة معا، كما قلتي حضرتك أن عالم الاجتماع عندنا كان فقيها أيضا، هذا يقيني وفهمي للدين في أمره الأول، ولما يجب أن يكون من علم اجتماع تتقدم به المجتمع؛ لا الدين في أمره الآخر الخاص بعصور التدوين والتقليد وحتى الاجتهاد، ولا ما يسمونه علوم انسانية وهي في الحقيقة تمارين ذهنية لا أكثر، أو لها فائدة فقط للتحكم على المتخلفين جدا أمثالنا، لكنها بالنسبة إلى ما يجب أن يكون عليه التفكير العلمي هي تمارين ذهنية فائدتها البسيطة المتعلقة بسطوح الظواهر لا تكفي لإعطاءها صفة العلم، هذا أنا متيقن منه تماما، وهناك جزئية أخرى غامضة عندي وأحاول بها أن أخلع فائدة ما على من يسمونه (عالم شريعة أو عالم ديني) وهي أن طالب هذه العلوم ومتخصصها دوره الحقيقي هو التخصص في العلوم الخادمة وإن كانت تفسيرا أو عقيدة أو فقها – يسمونها بالخطأ جوهرية ومخدومة - ( كمصطلح الحديث واللغة العربية) فلا يتدخل في الحياة المعاصرة كما لا يتدخل فيها عالم المصطلح واللغة العربية.
قالت أستاذتي: الاجتهاد جماعي والإلمام يعين والتحاور والتجاوز حل.
قلت: صحيح والاجتهاد الجماعي سيظل ضروريا حتى مع فهمي المذكور أني متيقن منه، لأنه سيظل العلم والواقع أعقد من أن يلم بمسائله ودروبه كلها شخص. أما أن يُقال إن الاجتهاد الجماعي سيحل محل التمازج الذي ذكرت أنه ضروري، فأراه قولاً خطأ لأن كلاً من الفريقين هو بحد ذاته مشكلة ومناقض للآخر فلا علاقة تكامل بينهما في الأصل، وذلك لافتقادهما الطرف الثالث المحوري في أي عملية علمية وهو طرف "العلاقات" بين الشيئين - الشريعة وعلم الاجتماع أو بتعبير القرآن: الشرع والقدر، أو بتعبير علماء الإسلام: الحكم والتصور الشرعي وتحقيق المناط - فهذا الطرف الثالث لا يوجد إلا في شخص واحد يلم بالطرفين، ووجود هذا التمازج في الاجتهاد الجماعي الطبيعي وفقا لمذهبي يصح لاشتراك الفريقين في مساحة كبيرة من التمازج مما يجعلهما كأهل تخصص واحد اجتمعوا فيه وافترقوا عند دروبه البعيدة المعقدة فيسهل توافقهم وتكاملهم حين يجتمعوا للإستفادة بعضهم من بعض فيما يجهله كل طرف من تلك الدروب البعيدة. وكل هذا من حيث النمط المثالي المطلوب إيجاده والعمل إليه. أما الآن فنقول بالاجتهاد الجماعي بينهما لإستدراك ما يمكن إدراكه فقط وتقليل المفاسد الناشئة عن صراعهما – الباطن والظاهر -.
وفكري هذا باعتباره ضروريا لا واجبا خفيفا أو نفلاً أو رفاهية؛ في رأيي كان هو الدافع وراء إصرار الدكتور محمد دراز على تحصيل درجة البكارليوس من فرنسا في بعثة الأزهر الشريف رغم مقدرته على إنجاز رسالة الدكتوراة دون مروره بدرجة البكارليوس من هناك، ولكنه أصر على أخذها - علما بأنه ابتعث وهو في سن الأربعين - وكان منذ بداية تعليمه له قراءات واسعة في الثقافة المعاصرة كما يبدو جليا من كتابه " المختار من كنوز السنة" وهو ابن 38 عاما، ومن ردوده وهو ابن 22 عاما على افتراءات احدى الجرائد الفرنسية على الإسلام، فلماذا بعد هذه الثقافة يضيع هذا العالم أربع سنوات من عمره في حفظ منهج يأخذ به درجة البكارليوس وهو غير محتاج له في الهدف الذي ابتعثه الأزهر لإنجازه؟ وهو هو العالِم الذي يري تبذير الوقت في المفضول أو ما لا يفيد من علامات البعد عن الله؟! إلا أنه يرى أن الوضع الطبيعي أن يكون العلمان واحدا والتخصصان تخصصا واحدا، فدرجة البكارليوس هذه لا يأخذها إلا من يؤهل نفسه ليكون متخصصا في العلوم الانسانية، ولكن الدكتور نالها ولم يكتف بالثقافة العامة وقراءاته المنهجية في هذه العلوم! يعني كان واضحا في ذهنه ما أراه ضروريا، وزمنه كان هو بوادر الابتعاث العلمي فهو بذلك يمثل اجتهادا فعليا في هذا الموضوع.
ولا يستدل بأن د. "دراز" زوج ابنته من الدكتور "السيد محمد بدوي" وهو عالم اجتماع، أو يُستدل بأن د. دراز في تعليقه على دستور مصر الذي كان يُكتب في آخر زمنه قال إنه يجب أن يكتبه ممن يكتبونه علماء دين وعلماء اجتماع، فأقر هذه الثنايئة، لا يستدل بذلك لأنه يتكلم عن أمر واقع وأنا أتكلم عن انماط مثالية – عليها تُبنى فكرة أي علم – أما الواقع فقد يكون مخالفا، فواقعنا المعاصر الذي وجدنا فيه طائفة تُسمى ب "علماء اجتماع" لا نرفضه ولكن نتعامل مع الحسن منهم، فكم من هؤلاء يخالفوني في هذا الفهم ويقرون هذه الثنائية – مع اقرارهم بقدر ما من الاشتراك – لكنهم متقون وصالحون – بحسب فهمهم – فهؤلاء – لا غيرهم من الحداثيين من علماء الاجتماع - نتعامل معهم كأمر واقع ونعتبرهم عاملين مؤمنين بحسب علمهم ونتزاوج منهم ونثق في دينهم وندعو إلى ضرورة إشراكهم في تقرير مصائر المجتمع واثقين في أنهم لن يخدشوا الإسلام خدشا صارخا كخدش الحداثيين، لكن عند التنظير والدعوة يُتحدث بالنمط المثالي، وفائدته تكون لمن كان قادرا عليه كصغار السن، ولذلك كان كبار علماء الإسلام وغيرهم من مصلحي الأمم الأخرى إذا اكتشفوا ضلال مناهجهم في آخر حياتهم أعلنوا الرجوع عنها وتحذير الطلاب الصغار منها رغم أنهم كبروا في السن وفاتهم القطار ولكنهم يدعون إلى النمط المثالي لمن كان قادرا عليه حفاظًا على مبدأ "العلم" وقد ناقشت شيخي العلامة طه العلواني في ذلك فقال لا توجد هذه الثنائية ولكن يوجد شىء اسمه "علم" وفقط وهو يقصد ما شرحته، ولذلك كانت الدكتورة العلامة منى أبو الفضل تقول في تحديد المُخاطبين بمشروعها الفكري التجديدي إنهم ليسوا علماء السياسة والعلوم الاجتماعية أهل تخصصها ولا علماء الشرع، ولكنهم طلبة الكليات، فهي تقصد أن النمط المثالي الذي تدعو إليه لن يستفيد منه حق الاستفادة سوى طلبة الكليات الذين بإمكانهم التعلم على وفقه لا من بذلوا عمرهم في التعلم على الثنائية المذكورة فكانت لهم حالات مختلفة يتوزعون عليها كل بحسبه، تمنعه من أن يُخاطب بتلك الأنماط المثالية، وكذلك تمنع أهل الخطاب التجديدي المثالي أن يوجهوا له الخطاب لأن العاقل الذي يُريد أن يُطاع يجب عليه أن يأمر الناس بما يُستطاع، وليس في استطاعتهم الالتزام بذلك الخطاب لأسباب تتعدد بتعدد حالاتهم واختلافها، ولكن أرقى ما يبلغه الصادق الطيب المخلص المهموم منهم أن يفهم ذلك الخطاب ويدعو الطلاب إليه كما كان يفعل المخلصون الكبار الأئمة من سلفنا حين كانوا يعلنون رجوعهم في اواخر حياتهم ويعلنون ندمهم على بذل العمر في غير محله كاعترافات علماء الكلام والفلسلفة ونحوهم من علماءنا – وهؤلاء قلة قليلة جدا فيمن يُسمون علماء اجتماع وعلماء شريعة في عصرنا لقلة الاخلاص وقلة الاهتمام منهم وقلة الإبداع فيهم.
خالد المرسي

تعليقات

المشاركات الشائعة