كلمات هادية في طريق طلب العلم

يقول الشيخ " محمد الخضر الحسين" شيخ الأزهر في زمنه وهو يعلق على كلام الإمام الشاطبي الذي كان يصف به حال طلب العلم عند السلف الصالح مقارنة بحاله السيء في زمنه:"تلقين كبار المسائل لمن لا يحتملها عقله كانت إحدى الآفات التي نزلت بأسلوب التعليم في معاهدنا؛ فقتلت أوقاتا نفيسة في غير سبيل الله، وعطلت قرائح كانت أحق بأن تسقى بتعليم سائغ فتؤتي أكلها كل حين, وعلاج هذه العلة أن يعلم الأستاذ أن تمييز مراتب التلاميذ في الفهم وترشيحهم بمبادئ العلوم على حسب استعدادهم أعظم ثوابًا في الدار الباقية، وأدعى لإجلال التلاميذ أنفسهم وإخلاصهم له من مفاجأتهم بالخوض في مسائل لا تسعها مداركهم." الموافقات ج1: ص 123
وهذا الكلام يعني أن بعض الطلاب الذين يستعجلون بقراءة كتب التراث العظيمة ككتب ابن تيمية والشاطبي وابن القيم ونحوهم هم في الحقيقة يضيعون أوقاتهم لأنهم سيضطرون بعد سنوات لإعادة قراءتها ليستفيدوا منها بعقلهم الجديد الواعي، ويعني أن من يبدأ بصغار العلم وبتطبيقاته المعاصرة من مصادرها المعاصرة المعتبرة عند علماء أهل السنة هو في الحقيقة يعد عقله إعدادا جيدا ليدخل فيما بعد على الكتب التراثية لينهل من كنوزها سائرا في تفاصيلها على بينة وبصيرة فيستفيد منها حق الاستفادة ويتلقى منها علما نافعا. وهنا تعرف الخلل الذي يصيب البعض حينما يفتخر بأنه درس في سنوات دراسته كتاب كذا وكذا - وهي من الكتب الصعبة! - فهو يفتخر بما هو مذمة ونقصا!! وهذا هو معنى كلمة الشيخ محمد عبده حينما وصف حال طلاب العلم بالأزهر حينما قال :" إنهم يدرسون كتبا لا علما!" ويقول فيلسوف العلم الغربي المعاصر " برتراند رسل" : هناك دافعان لقراءة كتاب ما :
الأول : هو الاستمتاع به ،
والثاني : هو التباهي بقراءته" .
فالذين يرسون كتبا لا علما هم يقصدون التباهي بها لا تناول العلم النافع - سواء شعروا أو لم يشعروا -، وهذا هو معنى قولهم :" العلم منهج لا موضوع" أي طريقة في التعلم والتلقي والتخطيط لتناول العلم النافع لا عبارة عن مواضيع معينة أو كتبا محددة تصلح لكل زمان ومكان!.
والآن ماذا يفعل الدارس ليضبط وضعه على وفق هذا الفقه؟ يهتم في بداياته بتلقي العلم من العلماء المعاصرين المشهورين بالعلم النافع والراسخين فيه والمتشربين لروحه ويحاول قدر الإمكان حصر نفسه فيهم ولا يخرج عنهم إلى آخرين دونهم إلا لضرورة ما، فهم الأصل بالنسبة له دائما، ولا مانع في بداياته أن يخصص وقتا قليلا لقراءة كتب التراث القديمة وكلما طال به الزمن في التلقي على المعاصرين كلما زاد من وقت ومساحة قراءاته في كتب التراث القديمة. وهو لو فعل ذلك يكون بدأ بصغار العلم كما هو منهج السلف الصالح، ويكون بدأ بتلقي العلم من حيث هو " منهج لا موضوع" أي: التفكير العلمي الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان منذ عهد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حتى يوم الساعة، أما المواضيع فلأنها متغيرة بتغير الزمان والمكان فيكون الطالب في تطبيقه هذا المنهج قد تناول العلم كمنهج وكموضوع في ذات الوقت، لأن تعلم العلم كمنهج ( التفكير العلمي فقط) يكون في حيز الأفكار المجردة جدا كالإناء الفارغ لا يشعر صاحبه بأي قيمة له - حتى لو كان من ذهب - حتى يملأه بشراب نافع له أو لغيره، فدراسة الطالب على وفق هذا المنهج يكون ممن يتعلم " العلم منهجا وموضوعا في آن واحد" كمن يحصل الإناء مملوءا بالشراب النافع في آن واحد، وهذا الجمع بين قسمي العلم لا يتوفر إلا للعلماء المعاصرين الذين تشربوا روح العلم لا الذين وقفوا عند المهام الروتينية للعلم ولم يتشربوا روحه بقدر كاف، ولذلك قلت يكون المتشربون لروحه هم الأصل له وغيرهم لا يلجأ لهم إلا لضرورة ما كأن يجد أحدهم كتب في موضوع لا يعلم أحدا من أهل رورح العلم تناوله فيضطر لتناوله من أهل المهام الروتينية للعلم. وكلما أتقن الدراسة على هؤلاء المعاصرين كلما تشرب منهم منهج التفكير العلمي وكلما تشرب منهم المواضيع التي يحتاجها أهل عصره فيقرأ في كتب التراث سائرا فيه على التفكير العلمي الذي تعلمه ومختارا منها المواضيع التي تتعلق بمواضيع العلم المعاصرة ليضع فيها وقته الأكبر ويتجاوز سريعا المواضيع التي سيجدها في هذه الكتب والتي لم يعد لها كبير حاجة في عصره - وهو في كل ذلك يقيس بما تعلمه من بداياته مع المعاصرين - منهجا وموضوعا - ويظل أبدا في اتصال مع المعاصرين ولا ينقطع عنهم لأن نتاجهم عادة يكون ضخما وقد لا يستطيع الانتهاء منه كله في بداياته .
تنبيه: هناك مسئولية شخصية على الطالب فيجب عليه أن يصل إلى درجة يستطيع التفريق فيها بين المتشربين لروح العلم الحقيقي وبين الذين هم ألصق بمهامه الروتينية منهم لروحه .

تعليقات

المشاركات الشائعة