أزمة العلوم الشرعية في العصر الحاضر للشيخ محمد رشيد رضا.
أزمة
العلوم الشرعية في العصر الحاضر للشيخ محمد رشيد رضا.
سبب
حرب متفرنجة المسلمين للإسلام:
إن
خُوَّاص الأمم وقادتها هم أهل العلم الذين يتبعهم السواد الأعظم من العوام
في
أمور دينهم ودنياهم كالتعليم والإرشاد ، وشؤون الحكومة من سياسة ، وإدارة
وقضاء
، وحفظ للأمن ، ودفاع عن الوطن ، وكل ما تحتاج إليه الأمة في حفظ
مصالحها
الدينية والدنيوية من علم ، وعمل - فحكم الإسلام فيه أنه واجب شرعًا ،
ولم
يكن للدول الإسلامية التي أسسها خلفاء الإسلام في جزيرة العرب ، والشام ،
والعراق
، ومصر وغيرها من آسية ، وإفريقية ، وأوربة ( كالأندلس ) - علم
يستمدون
منه أحكام الإدارة والسياسة والقضاء والحرب إلا الفقه الإسلامي المبني
على
قواعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء
الراشدين
وهدي السلف الصالحين ، وكان كافيًا لذلك في عصورهم ، ولا يزال كذلك ،
ولن
يزال إذا سلك المسلمون فيه طريق الاجتهاد الذي سار عليه سلفهم .
ثم
ضعفت الحضارة الإسلامية بضعف دولها بضعف هداية الإسلام فيها ، ثم
قويت
حضارة أوربة ، واعتزت دولها ، وارتقت علومها وفنونها ، ونظمها وقوانينها ،
فمكَّنتها
هذه القوى من السيادة على أكثر ممالك الإسلام ، وكانت هذه السيادة
ضروبًا
، لها أسماء ورسوم يمتاز بها بعضها عن بعض ، وانتشر بعض علومها
وقوانينها
في هذه الممالك تابعًا لتلك السيادة في بعض البلاد ، ومتبوعًا أو ممهدًا لها
في
بعض ، وكثرت المدارس الأجنبية فيها من قِبَل دعاة النصرانية الأوربيين ،
والأميريكيين
لنشر تلك العلوم والقوانين مع الدعوة الدينية ، وقلدتها بعض
الحكومات
الإسلامية المستقلة بالاسم وبالفعل في مناهج التعليم ومواده ، وتلا ذلك
اقتباس
قوانينها ، والتشبه بها في عاداتها وأزيائها وغير ذلك ، فعظمت سيطرة
هؤلاء
الأجانب على العقول والقلوب بتصرفهم في تربية النشء وتعليمه - تصرفًا
قصد
به قطع جميع روابطه الملِّية والقومية ، وجعله عالة عليهم في كل شيء .
إذا
كان هؤلاء الإفرنج قد عجزوا عن تنصير المسلمين بمدارس جمعياتهم
الدينية
- فإنهم لم يعجزوا عن إبطال ثقة الكثيرين منهم بدينهم ، الذي هو مستمد
فضائلهم
وآدابهم النفسية والاجتماعية ؛ لتصبح الأمة المكوَّنة منهم لا فضيلة لها في
نفسها
ولا آداب ، وإبطال ثقتهم بشرعهم العادل الذي هو أساس حضارتهم ومجدهم ،
والمكوّن
لدولهم التي هي مناط شرفهم التاريخي ؛ لتكون الأمة المكوَّنة منهم لا
مَجْدَ
لها ، ولا تشريع ولا تاريخ ، وإبطال ثقتهم بلغتهم ، الحافظة لشرعهم وآدابهم
وتاريخهم
وحضارتهم ، لعدم شعورهم بالحاجة إليها بفقد الشعور بالحاجة إلى ما
تحفظه
من ذلك ، وتوجه هِممهم إلى استبدال شرائع أساتذتهم وآدابهم وحضارتهم
ولغتهم
بما كان لسلفهم من ذلك ، أي ليخرجوا عن كونهم أمة ذات مقومات
ومشخصات
مستقلة ؛ فيفقدوا أعظم أركان الاستقلال القومي ، ويكونا كاللقيط الذي
يجهل
أهله ونسبه ، ولا يستطيع أن يتصل بأسرة يلتحق بها ؛ فيكون أبتر في الناس ،
فهذا
سبب التفرنج الذي نشكو بعض آثاره في الملة ، ولو كان أمر التربية وتعليم
العلوم
والفنون الدنيوية في يد زعماء الملة وعلمائها - لما ازدادت الأمة بها إلا قوةً
واتحادًا
كما سبق لسلفها .
كان
خلفاء المسلمين وأمراؤهم وعلماؤهم - في عصور حضارتهم - يرون
أنفسهم
أَوْلى من كل البشر بكل علم وكل فن ينفع الناس في معايشهم أو عقولهم أو
أبدانهم
، حتى أحيوا العلوم الميتة والفنون الدارسة ، وكانت هذه العلوم والفنون تُقرأ
مع
علوم الدين في مساجد المسلمين ومدارسهم ، وما وجدوا شيئًا منها مخالفًا لشيءٍ
من
نصوص الدين إلا وحكموا فيه بأحد أمرين إما كونه باطلاً ، فلا يُؤبَه لمخالفته
الدين
، وإما كون مخالفته صورية لا حقيقية لإمكان الجمع بين ما ثبت منه وبين
النص
.
ثم
صرنا إلى عصور ضعف فيها العلم بالدين وبلغة الدين وبسائر العلوم
والفنون
التي كان المسلمون منفردين بها في العالم ، وكان لذلك أسباب : أهمها
إيجاب
تقليد المصنفين الميتين ، وتحريم العلم الاستقلالي على الأحياء أجمعين ،
بدعوى
أنه من الاجتهاد المتعذر على المتأخرين ، وإهمال التربية الملية التي
تصحح
النية في طلب العلوم والفنون ، وتوجهها إلى ما به ترتقي الأمة وتعتز .
ولكن
الإفرنج - الذين اقتبسوا استقلال الفكر والعلم الاستدلالي من المسلمين ،
فكانا
سببَيْ ارتقائهم - قد ردوهما إلى المسلمين ؛ ليستعينوا بهما على إقناعهم بكل
ما
يريدون من السوء بهم ، من حيث لا يشعرون بردهما إليهم ، وبإمكان استفادتهم
منهما
في دينهم ودنياهم ، بعد أن حال دونها رجال الدين الإسلامي ، بما أقفلوا في
وجوههم
من باب الاستقلال بطلب علم الدين بالدليل ، وقد تربوا على أن لا يقبلوا
شيئًا
بدون دليل ؛ فكثر مروقهم من الدين ، ثم اقتنع كثير منهم بأن الدين عقبة في
طريق
ترقِّيهم ؛ فصاروا يحاربونه بالعلم والعمل !
رجال
الدين ورجال الدنيا
بهذا
دخل عوامّ المسلمين في باب التنازع بين عاملي زعماء الدين وزعماء
الدنيا
، كل منهما يجذب العوام إليه ، وإننا نرى أن زعماء الدنيا أقدر على جذبهم
إلى
مدارسهم وإلى تقليدهم ؛ فطلابها وطالباتها يزدادون سنة بعد سنة ، ويبذلون
المال
لها ، وطلاب علوم الدين في نقصان ، على كون تعليمها بالمجان ، وقلما يُقبل
عليه
إلا الفقراء ، الذين يعتصمون به من الخدمة العسكرية أو بدلها المالي ، وقد
أصبحت
مناصب الحكومة وأعمالها ، وهي تكاد تكون محصورة في خريجي
مدارس
الدنيا ، وهم يكيدون لما بقي لرجال الدين منها ، وهو القضاء الشرعي
المحدود
الذي هو موضوع بحثنا في هذه المقالات : إما بإبطاله ، وجعْل جميع
الأحكام
قانونية وضعية حتى الأحكام الشخصية ، وإما بالتوسل إلى إلغاء القضاء
الشرعي
بجعْل الأحكام الشخصية الشرعية قانونًا ، وإبطال كونها دينًا .
يعمل
هؤلاء المتفرنجون كثيرًا ، ورجال الدين لا يعلمون شيئًا ، للمتفرنجين
أحزاب
وجمعيات كثيرة سياسية واجتماعية واشتراكية . وليس لرجال الدين حزب
ولا
جمعية ذات نظام ، المتفرنجون هم الأقلون ، ولكنهم يزيدون ولا ينقصون ،
والدينيون
لا يزالون هم الأكثرين ، ولكن كثرتهم إلى قلة ، ورابطتهم إلى انحلال !
كان
طلاب المدارس المدنية هم الجند العامل في انقلاب سياسي ، فلما شاركهم
طلاب
الأزهر بمصر في ذلك اتحدت الحكومة مع السلطة الأجنبية على كبح
جماحهم
، والحجر عليهم وحدهم ، ووافقتها مشيخة الأزهر على ذلك لضعف إرادة
رؤسائها
، وحرصهم على ما بيد الحكومة من رزقهم ، وهذا الحجر مبني على
القاعدة
الإفرنجية ، المؤسسة لإزالة السلطة والسيادة الإسلامية ، وهي ( فصل
السياسة
من الدين ) ، والذي يقتضي أن لا يشترك علماء الدين ولا طلابه في شيء
من
أعمال السياسة ولا شؤون الحكومة .
ما
كل متعلم في المدارس المدنية متفرنجًا ، وما كل متفرنج ملحدًا ، وما كل
ملحد
خادمًا للإفرنج ، أو مشايعًا لهم ، بل جُل ما في البلاد الإسلامية من سعي
لاستقلالها
، ومقاومة سلطة الأجانب فيها ، فهؤلاء المتفرنجون هم جل القائمين به ،
وقد
بينا في المقالة الثانية من هذ المقالات أن لهؤلاء المتفرنجين مقاصد ، ونيات
مختلفة
في محاربتهم لهذه الشريعة التي يجهلونها ، ويجهلون مكانها من تكوين أمتهم
وحياتها
، وأن منهم مَن يعتقد أنه يخدم أمته ووطنه باستبدال القضاء عليها بالقضاء
بها
، ونقول الآن : إن إثم هؤلاء وغيرهم ممن يظن بالشريعة ظنهم - وإن لم يكن له
مثل
نيتهم - على عاتق الطائفة التي ليس لها رزق ولا مال ، ولا احترام ولا جاه ،
إلا
من وقف حياتهم على الاشتغال بعلوم هذه الشريعة ووسائلها تعليمًا وتصنيفًا ،
وإفتاءً
وقضاءً ، أعني طائفة علماء الدين ، الذين صاروا حجة على الدين ، وفتنة
للمؤمنين
والكافرين { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } ( الممتحنة : 5 ) .
من
الواجب على هذه الطائفة - بما أخذ الله عليها من الميثاق - أن تبين
للناس
ما نزل إليهم تبيينًا يثبت لهم بالآيات البينات أن فيه سعادتهم في معاشهم
ومعادهم
، وأنه كله حق وخير وعدل وصلاح ، وأنه خالٍ من كل باطل وشر وظلم
وفساد
، وأن أحكامه الدنيوية موافِقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان ، وأن
سلطته
ليست شخصية ، ولا مما يسمونه ( الأتوقراطية ) ، بل هي حكومة شورى
شعبية
، وأكمل مثال لما يسمونه ( الديمقراطية ) ، وأن ولي الأمر فيها مسئول غير
مقدس
، ومقيد بمشاورة أهل الحل والعقد ، الممثلين لسلطة الشعب ، وأن تسهل
سبيل
فهمه وتعلُّمه لكل طبقات الأمة ، بما يليق بها من المصنفات بالطرق المعروفة
في
فن التعليم والتربية ، بأن يوضع بعضها للأطفال ، وبعضها للعوام لمَن فوقهم من
طلاب
العلم ، وبعضها للقضاة والمتقاضين .
وكان
مما ينبغي للأخصائيين منهم بهذا النوع الأخير - أن يطَّلعوا على كتب
القوانين
الوضعية بأنواعها ، ويعرفوا ما فيها من حَسن وقبيح ، وعدل وظلم ؛
ليزدادوا
بصيرة في محاسن شريعتهم وطرق خدمتها ، وينظروا ما في كتبها الفقهية
المتداولة
من تقصير أو تعقيد أو نقص سببه ما حدث للناس من المعاملات التي لم
تكن
في عهد مصنفيها ، فيتداركوا ذلك كله ، ويثبتوا لكل ناظر - فيما يضعونه من
الكتب
الحديثة - أن هذا الشريعة كاملة لا يمكن لأهلها الاستغناء بها عن سواها ،
مع
العمل بما ورد من أن ( الحكمة ضالة المؤمن ؛ فحيث وجدها فهو أحق بها ) .
كما
ينبغي للأخصائيين في علم العقائد أن يكون لهم إلمام كافٍ بالعلوم
العصرية
والفلسفة الحديثة ، وأصول الأديان المشهورة ، وتواريخ الملل الكبيرة ؛
ليعرفوا
نسبتها إلى الإسلام ، وما بينها وبينه من المشاركات والمباينات ، وما في
ذلك
من الشبهات ، وللأخصائيين في علم الإرشاد العام والتربية أن يكون لهم إلمام
بسيرة
الجمعيات الدينية عند الإفرنج ، ومقلديهم من نصارى الشرق في مدارسهم
ومصنفاتهم
، وسيرة قسوسهم ورهبانهم وراهباتهم ؛ ليعلموا كيف يحوطون كل طبقة
من
طبقات أهل ملتهم بما يليق بها من تلقين الدين ، والترغيب فيه ، والدفاع عنه ،
وغير
ذلك .
وكان
مما يجب عليهم أن يكونوا خير قدوة للأمة ، وحجة للملة ، بعلومهم
وهَدْيهم
، وإفتائهم وقضائهم ، وأخلاقهم وآدابهم ، وإحياء السنن ، ومحاربة البدع ،
والأمر
بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتتبُّع شبهات الملاحدة والمبتدعة والرد
عليها
، ووقاية العامة من شرها ... إلخ .
كل
ذلك لم يكن ، بل جُل حظهم من العلم أن طالب العلم - في مثل الأزهر
وملحقاته
بمصر ، والفاتح والسليمانية بالآستانة ، وجامع الزيتونة بتونس ،
والنجف
بالعراق ، وديوبند بالهند - يناطح كتبًا معينة بضع عشرة سنة أو أكثر :
مناقشة
في مفرداتها وجملها ، وأساليبها الركيكة في الأكثر ؛ ليؤهل نفسه بذلك
لامتحانٍ
يكون بفوزه فيه إمامًا أو خطيبًا في مسجد ، أو مدرسًا في هذه المعاهد
الدينية
، أو قاضيًا في المحاكم الشرعية ، فيكون له بذلك رزق مضمون ، ومقام
معلوم
، وهو لا يستفيد من هذه الكتب - التي يقتلها مناقشةً وجدلاً في ألفاظها -
غيرة
على الدين ، ولا اهتمامًا بأمر المسلمين ، ولا استعدادًا لنشْره في العوام ، ولا
لرفْع
شأنه في الخواص ؛ وذلك بأنهم - كما قال الأستاذ الإمام "يقصد محمد عبده"-
: ( يتعلمون كتبًا
لا
علمًا ) ! .
نعم
، إن بين هذه المدارس وأهلها تفاوتًا في العلم والعمل ، والاستفادة من علم
الشرع
؛ فعلماء ( ديوبند ) أبعد علماء المسلمين عن الدنيا ومناصب الحكومة ،
ولعلماء
النجف من الجاه فوق ما لغيرهم من أمثالهم ، وعلماء الترك لا يزال لهم
مقام
رفيع ، وتأثير في الحكومة والأمة ، وإنما علماء مصر هم أقل علماء الإسلام
حظًّا
في الدنيا على رغبتهم فيها ؛ إذ هم - فيما نعلم - أشدهم تقصيرًا !
احتاجت
الحكومة المصرية إلى تعليم العربية في مدارسها ، فأنشأت مدرسة
دار
العلوم لتخريج أساتذة لها ؛ إذ لم تجد في الأزهر غناءً ، ثم لما ضجَّت الأمة من
فساد
المحاكم الشرعية ، واضطرت إلى إصلاحها لم تجد بُدًّا من إنشاء مدرسة
خاصة
للقضاء الشرعي ؛ لأن الأزهر قد عجز عن تخريج قضاة ترضاهم الحكومة
والأمة
!
وكل
مَن له من هذه الطائفة مزيَّة مما تجب لأهلها فإنما سببها استعداد خاص
فيه
، وتوفيق اتفاقي أُتيح له ، لا طريقة التعليم المطَّردة ، كالأستاذ الإمام الذي
عرف
قيمة علمه وعقله وفضله الغربُ والشرقُ ، والإنس والجن ، وجهله أكثر
علماء
الأزهر ، الذين قضى أفضل سِنِي عمره في الجهاد لإصلاح حالهم ، وجعْلهم
أئمة
لهذه الأمة ، التي اعترفت له كلها بالإمامة ، وساعده المنار " يقصد مجلة
المنار الذي هو صاحبها" في جهاده هذا ،
فقاومه
كبراء الشيوخ بكل ما أُوتوه من حول وقوة ، ومن بقية المكانة الرسمية لدى
الأمراء
والحكام ، والوهمية أو الخيالية عند العوام !
لقد
مات الأستاذ الإمام ، فأنشأوا يعرفون من فضله - بالتدريج - أكثر مما
كانوا
يعرفون ، ويقرُّون بما كانوا يجحدون ، وهم مع هذا لا يزالون لإصلاحه
يقاومون
، .... وبعد كلام يقول:"
كل
ذلك لم يكن ، وكل هذا قد كان ، فكان من جرَّائه أن بقيت حقائق الدين
مجهولة
، ومحاسن الشريعة مدفونة ، وطرق العلم بها حالكة الظلام ، مشتبهة
الأعلام
، والبدع في ازدياد ، تمهد السبيل لفشوِّ الإلحاد ؛ فإن هؤلاء المتفرنجين -
الذين
نشكو من محاربتهم للشريعة كالإفرنج - لا يعرف أكثرهم من الإسلام إلا أنه
ما
عليه جمهور المسلمين من الشعائر والعقائد ، والأذكار والموالد ، الممزوجة بالبدع
والخرافات
، والتقاليد الباطلة والعادات ؛ فإنهم يرون كبراء العلماء يتصدَّرون
تلك
الاحتفالات ، ويشاهدون طواف الألوف من النساء والرجال بالقبور المشيدة
المنسوبة
إلى آل البيت والأولياء المجلَّلة بالكشمير ، كطواف الحجاج ببيت الله
خاشعين
داعين مستغيثين بصاحب القبر .
بل
كثيرًا ما يقف هؤلاء المتفرنجون على وقائع اضطهاد بعض هؤلاء العلماء
الأعلام
لكل عالمٍ أو طالبِ علمٍ ينكر هذه البدع ، ويجاهر بالدعوة إلى اتباع السلف
كاضطهادهم
للشيخ محمد الرمال الدمياطي ، وإخراجه من دمياط ، وللشيخ مصطفى
الشريف
في طنطا ، ونقله من المسجد الأحمدي إلى معهد أسيوط ، وللشيخ محمد
عبد
الظاهر في الإسكندرية ، وقد حرضوا العامة عليه هذه الأيام ، فضربوه ضربًا
مبرِّحًا
، ولكنهم إذا لقوا مَن يعتقدون فسوقهم ومروقهم من الدين - من رجال
الحكومة
أو كبار الأغنياء - يتملَّقون لهم بالتعظيم والمبالغة في الدعاء .
هذا
شأنهم في اضطهاد مَن تحت رئاستهم ، ولا يملكون أكثر منه ، ...وبعد كلام قال:
وغاية
دفاعهم " يقصد الشيوخ الرسميين" عن الدين أن يطلبوا من الحكومة إبطال بعض
الصحف عندما
تنشر
شيئًا مخالفًا للدين ، أو للمذاهب المشهورة فيه ، وقد بلغنا أنهم طلبوا منها
أخيرًا
أن تأمر بمنع مجلة ( القضاء الشرعي ) ، التي أنشأها بعض أساتذة هذه
المدرسة
وطلابها النجباء ؛ لأنه نُشر فيها بحث في إمضاء عمر بن الخطاب -
رضي
الله عنه - الطلاق الثلاث باللفظ الواحد ، خلافًا لما جرى عليه العمل في
عصر
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعهد خلافة أبي بكر رضي الله عنه ،
وسنتين
من خلافته .
ويعتقد
هؤلاء المتفرنجون أنه لو كان لهؤلاء العلماء نفوذ في الحكومة لمنعوا
بقوتها
حرية العلم والاعتقاد والعمل في كل ما يخالف معارفهم التقليدية في الدين ،
بل
لتحكَّموا في حرمان مَن شاؤوا من الدين ، وعقابه حتى بالقتل ! ، كما كان يفعل
غيرهم
من النصارى ؛ إذ كان رؤساؤهم في الدين مثلهم في معارفهم .
ما
ذكرناه أولاً وآخرًا هو علة العلل لما فشا في المسلمين من الإلحاد في الدين ،
والإعراض
عن الشريعة ، وتفضيل بعض المتفرنجين القوانينَ الوضعيةَ عليها في
مصر
والآستانة وكل قطر دخل فيه التعليم الأوربي ، وأصر فيه جمهور علماء
المسلمين
على جعْل الشرع محصورًا فيما قال مصنفو كتب مخصوصة إنه المعتمد
أو
المفتَى به في المذهب ، وإن خالف ظواهر القرآن والأحاديث الصحيحة ومصلحة
الأمة
والدولة .
ومن
هذا الجمود التقليدي أن شيوخ الإسلام في الآستانة يحظرون الفتوى بما
في
مجلة ( الأحكام العدلية ) ؛ لأن بعض موادها مخالف للمعتمد في مذهب الحنفية ،
ولقد
قلت لشيخ الإسلام موسى كاظم أفندي - بمناسبة حديث بيننا - : إنني مستعد
أن
أستخرج لكم من الشريعة الغرَّاء كل ما تمس إليه حاجة العصر في غير الربا
القطعي
إذا كنتم تنفذونه ، قال : أنا أعلم أن هذا سهل وأتمناه ، ولكن ماذا نفعل في
مشايخ
الفتوى خانه ؟ !
يعلم
الله تعالى أننا نود لو يكون علماء الشرع فينا هم قادة هذه الأمة في دينها
ودنياها
، إننا لم نلقِ ما ألقيناه - منذ إنشاء المنار - من التبعة عليهم في تقصيرهم
إلا
لأجل حفز هممهم لتلافي ذلك التقصير ، وأول ما يجب أن يعرفوه من حال
العصر
وأهله في هذه السبيل - أن حرية العلم والرأي واستقلال الفكر مقدَّسان عند
جميع
المتعلمين في غير المدارس الدينية ، وكذا عند بعض المتعلمين فيها ،
والأولون
هم أولو الأمر والنهي في الحكومتين التركية والمصرية ، فإذا لم يقدر
العلماء
هذه الحرية والاستقلال قدرهما ، ويرجعوا عن إصرارهم على التقليد الأصم
الأبكم
الأعمى - فإن هؤلاء يغلبونهم على عامة الأمة ، ويتركون ما بقي من صلة
الحكومة
بالدين والشريعة ، عملاً بقاعدة ( فصل الدين عن السياسة ) ، بالمعنى
الذي
يفهمونه ، ويدعو إليه بعضهم اليوم ، لا بالمعنى المعروف عند علماء الشرع
في
مثل قولهم : يصح كذا قضاءً لا ديانةً ، أو ديانةً لا قضاءً .
ويُعلم
من قول شيخ الإسلام - الذي ذكرناه آنفًا - أنه يوجد في علماء الترك
أفراد
من المستقلين في علم الدين ، العارفين بحال العصر ، وما ينبغي من الإصلاح
فيه
، ويوجد مثلهم في مصر وتونس و الهند ، ولكنهم مغلوبون على أمرهم ، حتى
إن
الذي يصل منهم إلى مقام المشيخة الإسلامية في الآستانة ، وإلى مقام إفتاء الديار
المصرية
في القاهرة - يبقى مغلوبًا على ما يريد من الإصلاح بجمود السواد
الأعظم
من هؤلاء المقلِّدة .
فإذا
تيسَّر أن يكون لهؤلاء المستقلين من العلماء حزب قوي منظم ، وعرفوا
الطريق
المستقيم لحفظ الدين والشريعة وسلكوه ، فإنهم يجدون من هؤلاء المتفرنجين
أنصارًا
، حتى يكون الشاذ منهم قليلاً وضعيفًا ، لا تُخشَى عاقبة شذوذه ، وسنذكر في
المقال
الآتي ما ينبغي الأخْذ به في هذا الطريق ، وبالله التوفيق .
تعليقات